
في الأول من سبتمبر الجاري، زار فريق تابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محطة زابوروجيا النووية التي تسيطر عليها القوات الروسية في جنوب أوكرانيا، وضم الفريق 14 مفتشاً من المتوقع أن يبقى عدد منهم في المحطة بضعة أيام.
زيارة فريق المفتشين، برئاسة مدير وكالة الطاقة الذرية رافاييل جروسي، تأتي ضمن أدوار الوكالة، التي اضطلعت بها منذ تأسيسها في العام 1957 لتعزيز الاستخدامات الآمنة والمأمونة والسلمية للطاقة الذرية، فضلًا عن أدوارها الرقابية المتعلقة بالتحقق من المناطق الخالية من أسلحة الدمار الشامل وكذلك إدارة شئون السلامة والأمن النووي.
سباق التسلح
خلال خمسينيات القرن الماضي، لم تكن ذكرى الهجوم الأميركي النووي على هيروشيما وناجازاكي في العام 1945 غائبة عن الأذهان، فالطاقة التي اعتُبرت في مطلع القرن العشرين حلاً سحرياً مرجحاً لمشكلات العصر، باتت "سُحب الفطر" -وهو الشكل الناجم عن الانفجار النووي- كابوساً يحبس الأنفاس.
ومع التطورات العالمية وسباق التسلح النووي بين قطبي العالم آنذاك، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ظهرت حركات مناهضة للأسلحة النووية.
وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة كانت دشنت بالفعل لجنة للطاقة الذرية للتعامل مع تداعيات استخدام الطاقة الوليدة، فإن العام 1953 شهد أول مقترحات إنشاء هيئة متخصصة واسعة النطاق تُشرف على جدلية مسألة الطاقة الذرية، وذلك بعد خطاب الرئيس الأميركي السابق دوايت إيزنهاور أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 8 ديسمبر بعنوان "الذرة من أجل السلام".
رافد أممي
في عام 1957، تحولت الخطوط العريضة للحاجة المؤسسية التي طرحها خطاب إيزنهاور إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كما نألفها اليوم، لتعمل في إطار علاقة وثيقة مع الأمم المتحدة، يحددها اتفاق وُقع في عام التأسيس ذاته.
ونص الاتفاق على تعهد الوكالة بممارسة أنشطتها وفقاً لمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة لتعزيز السلام والتعاون الدولي، وبما يتفق مع سياسات الأمم المتحدة المتعلقة بإنشاء وحماية نزع السلاح في جميع أنحاء العالم.
وبحسب إحصاء مارس للعام الجاري تضم الوكالة 175 دولة، هم المساهمون في ميزانيتها الاعتيادية، المشكلة من عنصر تشغيلي وعنصر رأس مالي.
وخارج الميزانية تعتمد الوكالة أيضاً على ما يعرف بصندوق التعاون التقني وقوامه المساهمات الطوعية من الدول الأعضاء والجهات المانحة من غير الدول الأعضاء والتي تُحدد بشكل سنوي.
كما تعتمد الوكالة على المساهمات الطوعية الأخرى لتنفيذ أنشطتها خارج الميزانية، كالأنشطة المرتكزة على الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية عن طريق مبادرة الاستخدامات السلمية التي أُطلقت في العام 2010 وتلقت مساهمات من 24 دولة عضو ومن المفوضية الأوروبية كذلك لدعم مشروعاتها.
تقييم وتدخل
إلى جانب التركيز على التطبيقات السلمية للطاقة الذرية، تضطلع الوكالة أيضاً بأدوار متعددة إبان وقوع حوادث نووية وفي حالات الطوارئ. وتقوم بعمليات تقييم عواقب الطوارئ المحتملة مع التنبؤ بالتطورات المتوقعة، كما أنها تقدم المساعدة في حال طلبها، وتعمل على توفير المعلومات وتبادلها وتنسيق الاستجابات بين الوكالات.
وتنظم الوكالة الاستجابة لتلك الحالات اعتماداً على نظامها الخاص للحوادث والطوارئ المعروف اختصاراً بـ IES، والذي يضم موظفين تحت الطلب، مدربين على حقول خبرات مختلفة يشاركون في الاستجابات الأولية، كما أن النظام مُصمم بما يتيح له النشاط على مدار الساعة وبما يتوافق مع حجم الحادث والاستجابة المطلوبة.
كما أن الوكالة توفر تقارير تفصيلية متعلقة بالحوادث، تحلل من خلالها ظروف الحوادث ونتائجها إضافة للاستجابة للحادث والمساعدة التي قدمتها الوكالة الدولية عند الحاجة إلى جانب الدروس المستفادة.
وتعتبر حادثة مفاعل تشيرنوبل في العام 1986من بين أبرز حوادث الطوارئ النووية التي تصدت لها وكالة الطاقة الذرية.
قدمت الوكالة للاتحاد السوفيتي آنذاك دعماً فيما يتعلق بالتخلص من النفايات المشعة والإخراج من الخدمة وكذلك الاستصلاح البيئي، وفقًا لموقع الوكالة الإلكتروني.
وصاغت الوكالة كذلك اتفاقيتيتن في ضوء الحادث صدقت عليهما الدول الأعضاء، هما "اتفاقية التبليغ المبكر عن وقوع حادث نووي"، واتفاقية "تقديم المساعدة في حالة وقوع حادث نووي أو طارئ إشعاعي".
وتمتلك الوكالة نظاماً خاصاً للتفتيش، يمكنها من التحقق من التزامات الدول فيما يتعلق بتطبيق معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية واستخدام المنشآت النووية للأغراض السلمية فقط.
معاهدة عدم الانتشار
في عام 1968، بدأ التوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي باتت تضم 191 طرفاً، ودخلت حيز النفاذ في مارس من العام 1970.
ووفقًا للمعاهدة، تلتزم الدول غير الحائزة على أسلحة نووية بعدم تصنيعها أو اقتنائها فيما تلتزم الدول المالكة بالفعل لأسلحة نووية بعدم مساعدة أو تشجيع أو حث الدول أطراف المعاهدة على تصنيع تلك الأسلحة أو اقتنائها.
وعلى الرغم من أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ليست طرفاً في المعاهدة، فإنها مكلفة رسمياً بجهود التحقق من تطبيق المعاهدة.
كما أن الدول التي لا تمتلك أسلحة نووية، مطالبة بموجب المعاهدة بالاتفاق مع الوكالة، وتمكينها من التحقق من مدى التزامها بالمعاهدة لضمان عدم الانحراف بالطاقة النووية من الاستخدامات السلمية إلى تصنيع الأسلحة.
تفتيش العراق
في مطلع عام 2003 كان للوكالة الدولية للطاقة الذرية دور محوري للكشف عما إذا كانت العراق تسير في سبيل تطوير سلاح نووي أم لا، وذلك بعد سنوات من تدخل الوكالة بالتفتيش والمصادرة للمرافق والمعدات المرتبطة بتصنيع أسلحة نووية في العراق خلال التسعينيات من القرن الماضي.
في مطلع الألفية كان د. محمد البرادعي يحتل منصب المدير العام لوكالة الطاقة الذرية منذ العام 1997، ليصبح منذ ذلك الحين العربي الوحيد الذي تقلد هذا المنصب على مدار تاريخ الوكالة، وكان قد أشرف على تفتيشها الثاني داخل العراق على مدار عدة أشهر، وصولًا إلى مارس من العام 2003 قبيل الغزو الأميركي للعراق.
وبحسب تقرير البرادعي إلى مجلس الأمن، أكد مدير الوكالة بعد عمليات التفتيش أنها لم تعثر على أي دليل أو إشارة معقولة لإحياء برنامج الأسلحة النووية في العراق. وكان بحث الوكالة وتفتيشها آنذاك مدعومًا بقرار مجلس الأمن رقم 1441.
وفي عام 2005، مُنح البرادعي والوكالة جائزة نوبل للسلام "لجهودهما في منع استخدام الطاقة النووية للأغراض العسكرية ولضمان استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية بأكثر الطرق أماناً".
"غموض ديمونا"
لم تكن إسرائيل بين الدول التي وقعت على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، كما تذكر أن التوقيع على تلك المعاهدة "سيكون مخالفاً لمصالح أمنها القومي"، ولكن يسود اعتقاد قوي أنها تمتلك سلاحاً نووياً.
وتداوم إسرائيل على سياسة تُعرف باسم "الغموض النووي" (التعتيم النووي). كما لم تعترف رسمياً بأن لديها أسلحة نووية. وبلاً عن ذلك فإنها تكرر أنها "لن تكون أول بلد يُدخل السلاح النووي في الشرق الأوسط". وهو ما يترك الكثير من الغموض بشأن تفسير تلك العبارة.
وتتوجه الأنظار في إسرائيل بالتحديد إلى المفاعل المعروف باسم "مفاعل ديمونا"، بينما يطلق عليه رسميًا Shimon Peres Negev nuclear research center، ويحدد مركز الحد من التسلح قدرة المفاعل الحراري بنحو 26 ميجاوات، بينما يعتقد أن قدرته الفعلية تزيد عن التقديرات، كما أن المفاعل غير خاضع لضمانات وكالة الطاقة الذرية.
ووفقًا للمركز، يعتبر الغموض الذي يغلف البرنامج النووي الإسرائيلي العقبة الرئيسية أمام تحقيق هدف تدشين منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، ومن ثم يمثل تحدياً أمام تطبيقات معاهدة منع الانتشار.
الملف الإيراني
على الجانب الآخر، مرت وكالة الطاقة الذرية بعلاقة مضطربة مع إيران، التي بدأ تفاعلها مع الملف النووي بشكل باكر، غير أنه تعقد بعد تبدل ملامح الحياة السياسية بالداخل الإيراني وقيام الثورة الإسلامية.
وعلى مدار عقود، بدت العلاقة الثنائية شديدة التقلب، ما بين مطالبات الوكالة بوقف إيران لأنشطة التخصيب والسماح للمفتشين بإجراء التحقيقات، ورفض إيران من جهة أخرى ثم موافقتها بعد مفاوضات طويلة يليها تراجع عن المواقف الأولى ما أدى إلى عقوبات متتالية من المجتمع الدولي.
وفي يوليو 2015، وقعت إيران "خطة العمل الشاملة المشتركة" التي عُرفت باسم "الاتفاق النووي الإيراني"، والذي منح إيران فرصة التخفف من العقوبات المفروضة على عاتقها مقابل تفكيكها لبرنامجها النووي وفتح منشآتها أما فرص أوسح للتفتيش من قبل وكالة الطاقة الذرية.
غير أن الاتفاق مر بعقبات متتالية، بداية انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بشكل أحادي وإعادة تطبيق العقوبات الميركية، لتعود طهران مجددا لممارسة أنشطتها النووية.
وتنشط محادثات جديدة غير مباشرة بين واشنطن من جهة، وطهران من جهة أخرى بشأن سبل العودة إلى الاتفاق النووي، ولكن الخلاف ما زال مستمراً بشأن تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي ترفضها إيران وتتهم الوكالة بالتسييس.
اقرأ أيضاً: