نشرت مجلة فورين بوليسي الأميركية تقريرا تحليلياً أكدت فيه أن الدول الأوروبية بقيادة ألمانيا وفرنسا تفكر أكثر فأكثر في فك ارتباطها بالولايات المتحدة الأميركية، في ظل حالة الاستياء السائدة من إدارة الرئيس دونالد ترامب والاختلاف الحاصل بين الحليفين الاستراتيجيين في عدد من القضايا.
وقالت المجلة، إن مؤتمر ميونخ للأمن، انعقد هذه السنة يعتبر دلالة واضحة على تباين مواقف الولايات المتحدة وأوروبا بشأن كل شيء، ابتداء بالاتصالات والطاقة، فضلاً عن الخلاف الحاد بين الطرفين بشأن اللبنات الأساسية للعلاقات الخارجية، وخصوصاً في ما يتعلق بتصور النظام العالمي.
وذكر التقرير أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سرق الأضواء وحبس أنفاس الفدراليين الأوروبيين، حين دعا إلى "طريقة أوروبية" أحادية، ولَمَّح إلى إمكانية إقامة رادع نووي أوروبي بقيادة فرنسا، في شرط يسبق أي استقلال أوروبي عن أميركا.
وقالت المجلة إنه من المُسلَّمات في العلاقات الدولية أن الديمقراطيات لا تدخل في الحروب ضد بعضها البعض، لكن من غير الواضح كيف يمكن لهذه الديمقراطيات أن تنفصل لتصبح تكتلات استراتيجية متنافسة، فالتاريخ "مليء بنماذج لديمقراطيات تكتلت في تحالفات استراتيجية، لكن أمثلة انفصالها وتحولها إلى خصوم سياسية لبعضها البعض، تبقى قليلة. فهل أميركا وأقرب حلفائها في أوروبا في الطريق إلى طلاق تاريخي؟" تتساءل المجلة الأميركية.
الألمان الأكثر مناهضةً لأميركا
واعتبرت "فورين بوليسي" أنه إذا تحققت نتائج استطلاعات الرأي، فإن الانفصال حتمي، مشيرة إلى أن الأصوات المنادية بالانفصال تشتد حدة في ألمانيا أكثر من أي مكان آخر في أوروبا. إذ أظهرت نتائج استطلاع للرأي نشره مركز "بيو" الأميركي للدراسات في يناير الماضي أن 57 بالمئة من الألمانيين يتبنون وجهات نظر سلبية تجاه أميركا. وقبل ذلك في سبتمر الماضي، أكد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن 70 بالمئة من الألمان يرغبون أن تظل بلادهم محايدة عن كل الصراعات بين موسكو وواشنطن.
ووفق المجلس، تبدو الدوافع الألمانية لمناهضة أميركا ظاهرة متجذرةً في الحياة الاجتماعية والسياسية بالبلاد. إذ ينظر بعض الألمان إلى الرأسمالية الأنغلوساكسونية على أنها متوحشة، وتسحق النظام الاجتماعي من أجل خدمة جشع الأفراد.
وبالنسبة لفئة أخرى من الألمان، فإن الهيمنة الأميركية على الغرب تولد الشعور بالسخط، خصوصاً في عصر العولمة، إذ من شأن أضعف الصدمات الآتية عبر المحيط الأطلسي أن تؤثر على القرار النهائي لألمانيا وتزحزح الدبلوماسية الألمانية عن مواقفها.
وأشارت المجلة الأميركية إلى أن ألمانيا مستاءة من الولايات المتحدة الأميركية، خاصة وأن إدارة الرئيس دونالد ترامب "لا تحترم الدبلوماسية متعددة الأطراف"، التي تعد الطموح المركزي لمؤتمر ميونخ للأمن. مضيفة أن الليبراليين بأميركا أيضاً يرتابون من تعددية الأطراف على الطريقة الأوروبية. ونقلت عن توماس وايت، من معهد “بروكينغز” قوله إن اليسار الأميركي يفضل "نهج المتقاربين معه في التفكير القائم على القيم من أجل الترافع لصالح تصور معين للنظام العالمي"، بدلاً عن "مشروع اجتماع يحضره الجميع، بما في ذلك الصين وروسيا".
وقالت المجلة الأميركية إن النهج الثاني قد يكون موضع ترحيب لدى ألمانيا، بينما تركز إدارة ترامب على المخرجات أكثر من مسار الاجتماعات، مشيرة إلى أن الخبرات المهنية للألمان "تزدهر حين يتعكر صفو مناخ إدارة الشؤون العالمية، بينما يواجهون الصعوبات حين يتعلق الأمر بالمنافسة الجيوسياسية. فقد تفاخر المسؤولون الألمان، في مؤتمر ميونخ باللقاء الأخير حول ليبيا، الذي تمكن من الحصول على دعم مجلس الأمن، لكنهم اعترفوا أيضا بأن الجهود التي بذلوها لم تفلح في إبطاء الصراع الدائر في الميدان".
فرنسا وإحياء أحلام "شارل ديغول"
ومع تنامي استياء ألمانيا من الولايات المتحدة وانشغال بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، تقول "فورين بوليسي"، إن فرنسا وجدت فرصة سانحة من أجل الدفع باتجاه تحقيق أحلام شارل ديغول (مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة). فعند كل منعطف، تحاول فرنسا جاهدة تقوية الاتحاد الأوروبي وتقليص صلاحيات حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ونقل التقرير عن مسؤول أميركي قوله "إن فرنسا تحاول أن يكون الناتو مجرد آلية لطلب النجدة تستخدم في حالات الطوارئ". هذا الأمر أثار توتراً بين باريس وواشنطن، التي تفضل أن يحظى "ناتو" بصلاحيات أكبر. لكن هذا التوتر ظل في غالب الأحيان عند المستوى التقني؛ تقول الصحيفة، مشيرة إلى أن "الطبقة السياسية في أميركا متيقنة أن أوروبا لن تنسحب من حلف الناتو ولن تتخلى عن واشنطن".
ثلاثة أسباب لعدم تخلي أوروبا عن أميركا
وطرحت "فورين بوليسي" ثلاثة أسباب لعدم إمكانية انفصال أوروبا عن أميركا. السبب الأول يكمن في أن أوروبا ما تزال منقسمة في ما بينها بشأن فك الارتباط بأميركا. هذه النقطة أكدها جوزيب بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، في مؤتمر ميونخ خلال حوار مثير للجدل بينه وبين وزير الخارجية البولندي جاسيك تشوابوتوفيتش. إذ سَخَّر تشوابوتوفيتش معظم كلمته للدفاع عن أهمية استمرار الشراكة عبر الأطلسي. لكن بوريل رد عليه قائلًا: "ربما تنعم بلدك الحرية الآن بفضل الفاتيكان وأميركا، لكن بلدي (إسبانيا) عاشت في ظل الدكتاتورية لمدة 40 سنة بسبب الفاتيكان والولايات المتحدة. وبالتالي، لا يمكنني أن أقول إنني أنظر إلى أميركا بنفس الطريقة التي تراها بها أنت".
الاختلاف في المواقف شمل أيضا أقرب حليفين داخل الاتحاد الأوروبي؛ فرنسا وألمانيا، خلال المؤتمر، تقول المجلة. فقد اعتمد الرئيس ماكرون أسلوباً محموماً "وأطلق حملة صاخبة من المبادرات التقسيمية مؤخرا، وهو ما يتعارض مع الأسلوب الثابث والقابل للتنبؤ، الذي تفضله برلين. ومع استمرار ماكرون في الإعلان عن المواقف الجديدة، وضمنها التواصل الاستراتيجي مع روسيا، يتنامى قلق برلين. فالخلاصة، أن الحليفين الأكثر أهمية في أوروبا على خلاف بشأن ملفات من غرب البلقان حتى ليبيا".
وأشارت المجلة إلى أن الاختلافات تمتد إلى الهيكل السياسي لأوروبا. إذ قدم ماكرون إلى مؤتمر ميونيخ لإلقاء خطاب، وتمرير رسائله في الإعلام الألماني ولقاء الحزب المعارض في ألمانيا أيضا؛ كل ذلك خدمةً لرؤيته لأوروبا. ونقلت المجلة عن أحد الحاضرين بمؤتمر برلين قوله إنه "لو تصرف المسؤولون الألمان بهذه الطريقة في باريس. لكان ذلك قُوبِل ذلك بالسخط العارم". وبدلًا عن ذلك ردت ميركل على نداء ماكرون من أجل المزيد من الاستقلال لأوروبا عن طريق الصمت المطبق.
ثانياً، تقول الصحيفة، إن المؤشرات توحي أن أوروبا تمضي في الطريق نحو الضعف، إذ يفتقر اقتصادها غير المرن إلى ثقافة المخاطرة التي تُنتج الابتكار، بينما يبقى تطور نموها الديموغرافي من سيئ إلى أسوأ.
من جهة أخرى، لا تعدو أن تكون القدرات العسكرية لأوروبا الغربية أضحوكة "فما الفائدة من عقد مؤتمر أمني في بلد جيشه أصغر من جيش فرنسا؟"، يتساءل أحد الخبراء الأميركيين عقب المؤتمر.
ومن الناحية السياسية، تقول "فورين بوليسي"، إن أكثر التيارات السياسية الموثوق بها في القارة أصبحت تعيش حالة التفتت. فلا أحد يمكن أن يراهن على فوز أحزاب الوسط في الانتخابات التشريعية القادمة خلال هذا العقد. وحتى ماكرون من المرجح أن يكافح من أجل الفوز والبقاء في الإليزيه بعد عام 2022. ونتيجة لذلك عندما ينظر الأميركيون إلى أوروبا، فإنهم يرون قارة متدهورة في حاجة إلى دعم الولايات المتحدة بدلًا عن اتحاد أوروبي على وشك الإقلاع مُحَلقاً".
أما السبب الثالث، وفق المجلة، فيكمن في افتقار أوروبا إلى القوة الجاذبة. "فلا يوجد أي تكتل آخر في العالم أكثر تقارباً مع أوروبا من أميركا".
وفي حالة انفصال أوروبا عن الولايات المتحدة، فإن الدول الأوروبية ستجد صعوبة في إيجاد أطراف ثالثة تفضلها على الولايات المتحدة. فمن القدس إلى طوكيو، تربط الشركاء الطبيعيين لأوروبا بالمنطقة علاقات أوثق مع واشنطن، مقارنة بالعلاقات التي تربطها مع بروكسيل،" وفق المصدر ذاته.
روسيا والصين بديل محتمل
وأشار التقرير إلى إمكانية وجود تحالفات متاحة للمبادرات الأوروبية كي تبقى الأضواء مسلطة على منظمة التجارة العالمية. لكن في الغالب، "لا تشترك مراكز القوى الكبرى في العالم مع أوروبا في انجذابها لتجاوز السلطة القومية، ولا في صيغتها الخاصة بالدبلوماسية متعددة الأطراف. ونتيجة لذلك يدرك الأميركيون أنه من المرجح على نحو أكبر أن تنفصل أوروبا عن الولايات المتحدة، عن طريق الانسحاب من اتفاق أو ملف لآخر، بدلًا من تبني موقف استراتيجي مستقل" تقول "فورين بوليسي".
لكن المجلة الأميركية قالت إنه في نفس الوقت لا يجب إغفال حقيقة أن العالم "مليء بِخاطبي الود، الذين يقدمون عروضًا مغرية للتعاون. أبرزهم على وجه الخصوص أقوى دولتين غير ليبراليتين – وهما الصين وروسيا، اللتان تشجعان أوروبا على الابتعاد عن الولايات المتحدة. وكلتاهما تقدمان بدائل زهيدة الثمن للنظام الدولي الليبرالي في مجال الاتصالات والطاقة. ومن الملاحظ بقوة أن اعتماد ألمانيا الاقتصادي المتزايد على الصين يدفعها بعيداً عن الولايات المتحدة لتكون أقرب إلى الحياد الفعلي في القضايا الأمنية الرئيسة".
وقالت المجلة، إنه من المرجح أن "يتعاظم هذا التوجه الجديد في السنوات القادمة. فبدلًا عن مناهضة استراتيجية روسيا للابتزاز الطاقي، أو هيمنة الصين على تكنولوجيا الأمن القومي، قد تتحول ألمانيا إلى سويسرا كبيرة الحجم. هذا سيوفر غطاءً للأوروبيين الآخرين الذين يتطلعون إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية في الصين. فعلى سبيل المثال، دافع وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، خلال مؤتمر ميونخ، بشكل مستميت ومطول عن قرار بلده الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية".