صوت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، الذي تردد على مسامع أجيال عدّة من العرب عبر الراديو سيختفي قريباً، إذ لم يعد بإمكان الهيئة التي تبلغ من العمر نحو 85 عاما أن تحتمل كلفة الإنتاج، وأصبحت غالبية العاملين فيها معرضين للتسريح وإنهاء الخدمات.
الهيئة التي تأسست عام 1938، تشعر بالشيخوخة فقررت التجديد ومواكبة العصر عبر التحول إلى "الديجيتال- الإعلام الرقمي" و"البودكاست". هكذا تقول إدارة الهيئة، ولكنها تتجاهل أن مناطق كثيرة تنتشر فيها عربياً، لا تواكب التقنية ولا تتبع مستجداتها.
الإنترنت سيكون بوابة الخدمات الصوتية لـ"بي بي سي" إن عادت للمنطقة العربية، ومن لا يمتلك نافذة على الشبكة العنكبوتية، أو تعاني خطوط اتصاله بها من الضعف، فلن يكون قادراً على سماع العبارة المشهورة "هنا لندن"، مرة ثانية.
تسع لغات أخرى سوف تتعرض لمصير راديو "بي بي سي عربي". فإدارة الهيئة تريد التحول بكل ما هو موجه لشعوب العالم إلى الرقمنة والإنتاج الإلكتروني.
الكلفة الكبيرة في ظل أزمة اقتصادية تعيشها البلاد بسبب التضخم وأسعار الطاقة، تحتم عليها التخلي عن مئات الوظائف، بحسب الهيئة.
منافسة تفرض التغيير
في بيان رسمي قالت مديرة خدمة "بي بي سي" العالمية، ليليان لاندور، إن الهيئة لن تتخلى عن دورها في تقديم المعلومة لملايين المتابعين حول العالم. ولن تتوقف أيضاً عن الإنتاج بجميع اللغات التي تعتمدها اليوم، ولكن شكل الإنتاج وتقنياته هو ما سيتغير ليواكب التقنية التي وصل إليها الإعلام، وباتت ميدان المنافسة اليوم.
لاندور أوضحت أن خطط "بي بي سي" في التحول إلى الرقمنة ليست وليدة اللحظة، وهي معلنة منذ بداية العام، ولكن الوقت قد حان إلى تسريعها.
أما كلفة هذا التحول فتبلغ مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية، وتوفيرها يحتاج لمزيد من التقليص في النفقات، وخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها المملكة المتحدة.
ووفقاً لمديرة الخدمات العالمية في "بي بي سي" يقتضي التحول المستهدف الاستغناء عن 382 وظيفة، وتوفير نحو 28.5 مليون جنيه إسترليني سنوياً. وهذا سيحدث من خلال وقف البث الإذاعي بعشر لغات، على رأسها العربية، والتحول إلى رقمنة الإنتاج في سبع أخرى. أما نجاح هذا الانتقال فسيقود إلى تعميم التجربة على مزيد من اللغات.
لاندور أوضحت أن هيئة الإذاعة البريطانية حققت نجاحاً كبيراً على منصاتها الرقمية خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث باتت خدمات المنصات تصل إلى نحو 150 مليون شخص تقريباً حول العالم.
وبلغة الأرقام زادت حصة تلك المنصات في انتشار الهيئة عالمياً، بأكثر من الضعف منذ 2018، فصعدت من 19% إلى 43%.
خارطة طريق
وتنطوي خطة التحول إلى الرقمنة على تغيير يبدأ من إدارة الهيئة ذاتها، ثم ينتقل إلى حلقات العمل المختلفة.
أما خطوات التغيير فهي تتلخص وفقاً للبيان الرسمي، في 9 نقاط رئيسية، تبدأ بتقليص الإنتاج التلفزيوني والإذاعي لصالح خدمات المنصات الرقمية، حيث الجمهور الذي تستهدفه الهيئة وتريد توسيع مشاركته التفاعلية.
وتسعى الهيئة إلى إنشاء مركز واحد للإنتاج الرقمي يخدم جميع منصاتها الناطقة بغير اللغة الإنجليزية.
كما تتطلع لنقل جزء من عملياتها إلى دول تتحدث باللغات المستهدفة في عملية الانتقال الرقمي. هذا بالإضافة إلى التركيز على أنواع معينة من الإنتاج الإعلامي الجاذب للمهتمين بخدمات الصوت، "الديجيتال" و"البودكاست".
اللغة العربية من اللغات التي ستحافظ هيئة الإذاعة البريطانية على وجودها في البث التلفزيوني وعبر موقعها الإلكتروني، كما ستعمل الهيئة على الاستثمار في تطوير بعض الخدمات الصوتية التي كانت تقدمها إذاعة "بي بي سي عربي" وتصلح للتحول إلى الإنتاج الرقمي، وبالتالي مواكبة خطة الهيئة في هذا المجال.
إشكالية الانتقائية
مدير الأخبار والبرامج الإخبارية العربية السابق في "بي بي سي"، فؤاد عبد الرازق، يرى في حديثه لـ"الشرق"، أن إغلاق خدمات الراديو يعني التخلي عن جمهور يقدر بالملايين من العرب الذين نشأوا على برامج هيئة الإذاعة البريطانية، وهذا الجمهور يصعب تعويضه من خلال التلفاز أو الإنترنت أو حتى التحول إلى "الديجيتال".
ويعتقد عبد الرازق، أن عملية التحول في خدمات الإذاعة نحو "الديجيتال" بدلاً من الراديو التقليدي، إذا بدأت في المنطقة العربية، ستؤدي إلى تغيرات جذرية في الجمهور المتابع لـ"بي بي سي"، والمستهدف من قبل خطة الهيئة لرقمنة الإنتاج عموماً. ليس فقط على مستوى الاهتمامات وإنما الفئات العمرية أيضاً.
ويوضح أن "بي بي سي" عبر الراديو، موجهة لكل شرائح المجتمعات العربية على اختلاف ثقافاتها ومشاربها وفئاتها العمرية. ولكن التحول إلى الرقمنة قد يعني أن الهيئة باتت "أكثر تحديداً وانتقائية" في الجمهور المستهدف. وعلى سبيل المثال، تثير خدمات "الديجيتال" اهتمام فئة الشباب أكثر من غيرها.
ويشير فؤاد عبد الرزاق إلى أن توافر الإنترنت سيلعب دوراً كبيراً في انتشار الخدمات الرقمية لـ"بي بي سي" في المنطقة العربية. ومع وجود صعوبات تقنية، وضعف الإنترنت في دول عدة بالمنطقة، "يمكن توقع تراجع حضور الإذاعة الرقمية مقارنة بالانتشار الواسع لراديو الهيئة في الوقت الحالي".
الناجون من "الرقمنة"
يبدو أن كبار السن هم الفئة الأكثر تضرراً من عملية الانتقال الرقمي للهيئة في خدماتها الدولية، ليس على مستوى الجمهور فقط، وإنما الموظفين في أقسام اللغات الأخرى. حيث أن العاملين وفق مفاهيم وقواعد العمل للراديو التقليدي منذ عقود، يصعب عليهم الانتقال إلى الإنتاج بأدوات الديجيتال و"البودكاست" المنتشرة حالياً.
أحد منتجي البرامج في "بي بي سي عربي"، والذي فضّل عدم ذكر اسمه، قال لـ"الشرق"، إن الهيئة منفتحة على مقترحات العاملين فيها بشأن عملية الانتقال نحو الرقمنة، كما أنها مدركة لما قد تحمله هذه العملية من تغيرات سلبية وإيجابية، سواء على بيئة العمل، أو الجمهور المستهدف، أو حجم انتشار الخدمات الدولية للهيئة حول العالم.
ويلفت إلى أن عدداً من العاملين في القسم العربي للهيئة، قد تكون أمامهم فرصة لمواكبة التغير المنشود نحو رقمنة الإنتاج في الهيئة. وخاصة أولئك الذين يتابعون التطورات التقنية في الإعلام، ويحرصون دائماً على مجاراتها سواءً في ثقافتهم ومعرفتهم العامة، أو في مواقع عملهم الحالية.
وينوه المنتج إلى أن خطة الهيئة نحو الانتقال الرقمي في منصات لغات مختلفة، "تراهن على تكامل واسع بين إنتاج مختلف أقسام بي بي سي الدولية"، ويضيف "هذا التكامل قد يفتح الباب أمام خيارات جديدة في العمل".
مصر والسعودية في المقدمة
وتشير أرقام هيئة الإذاعة البريطانية إلى أن راديو "بي بي سي عربي" هو الأوسع حضوراً في المنطقة العربية.
أما على مستوى خدماتها الرقمية فقد شهدت زيادة بنسبة 131٪ في انتشارها خلال العام 2020 مقارنة بالعام السابق، وباتت هذه الخدمات تصل إلى نحو 13 مليون شخص يسكنون المنطقة أو يتحدثون اللغة العربية.
وتوضح الأرقام أن أكبر جمهور رقمي لـ"بي بي سي عربي" يتركز في مصر والسعودية. كما شهد هذا الجمهور زيادة قدرها 200% في كل من الجزائر والمغرب خلال العام 2020 مقارنة بسابقه. أما إجمالي متابعي الهيئة بمنصاتها المختلفة في المنطقة العربية فقد تجاوز عددهم 42 مليون شخص في العام المشار إليه.
وفي أواخر شهر مارس عام 2020، ومع انتشار فيروس كورونا، تزايد الطلب على مصادر موثوقة للمعلومات، حيث سجلت "بي بي سي" أعلى حضور لمؤسسة إعلامية دولية في العالم مع وصول عدد متابعيها إلى 310 ملايين شخص يستخدمون 42 لغة، ويتوزعون على عشرات الدول في قارات الأرض المختلفة.
وتتصدر 10 دول قائمة الجمهور الأكثر متابعة لخدمات "بي بي سي" عالمياً، أولها الهند بما يزيد على 60 مليون شخص، ثم أميركا بنحو 50 مليوناً، وبعدها نيجيريا بـ37 مليوناً، وكينيا بـ15مليوناً، وتنزانيا بـ14 مليونا، بنجلاديش بنحو 12 مليوناً، وحلت أفغانستان بعدها، ثم إيران بما يزيد عن 11 مليوناً، ثم كندا وباكستان على التوالي بحوالي 10 ملايين، وفقا للأرقام المعلنة عن الهيئة في عام 2020.