هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".
بقلم د. باتريك بيري
- أستاذ مساعد في الأمن بجامعة باث، ومحلل سابق في الناتو ونقيب سابق بالجيش البريطاني.
- محاضر أول في الأمن بجامعة باث في المملكة المتحدة، متخصص في الحروب ومكافحة الإرهاب، وله 20 عاماً من الخبرة في قطاع الأمن كممارس ومحلل وأكاديمي.
- قبل دخوله المجال الأكاديمي، خدم باتريك في الجيش البريطاني كنقيب لفرقة المشاة والهجوم الجوي. ونشرت مذكراته بعنوان "Callsign Hades" عن جولة فرقته في سانجين بأفغانستان عام 2010. بعد تركه الجيش، عمل محللاً أمنياً لدى حلف الناتو ثم في شركة أمنية خاصة.
أكد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير عودة ظهور التهديدات التي تأتي من جانب الدول. والدول بطبيعة الحال تملك من الموارد السياسية والاقتصادية والعسكرية أكثر بكثير مما تملكه أعتى الجماعات الإرهابية، ومواجهة تهديداتها تقتضي استراتيجيات مختلفة وحشداً مكثفاً للسلاح والعتاد.
وعليه، فإن الزيادة في التهديدات القادمة من دول نتيجة للحرب الكاسحة التي شنتها روسيا على أوكرانيا، وفي أجواء التغوّل الصيني المتنامي على تايوان، قد حَدَت بدول كثيرة إلى زيادة إنفاقها الدفاعي بقدر كبير. وفي ظل التهافت الجديد على حيازة السلاح والعتاد، فإن المخزون المتوفر من شتى أنواع القذائف والأسلحة، سواء في ترسانات روسيا أم الغرب، يتآكل بوتيرة سريعة في أوكرانيا؛ ما أوجد طلباً إضافياً عاجلاً على السلاح وسبّب مشكلات استراتيجية أوسع أيضاً.
وبينما نأسى للتكلفة البشرية المؤلمة في حرب روسيا على أوكرانيا، لا ننسى التكلفة الباهظة التي تكبّدها الاقتصاد والخسائر في السلاح.
سباق "الشيكات والذخائر"
تطلق روسيا في المتوسط 20.000 قذيفة مدفعية يومياً، وذلك ينهك مخزونها من الذخائر التقليدية بأسرع مما تستطيع تعويضه، بحسب الاستخبارات الأميركية. وينطبق هذا على المخزون الروسي الأصغر من القذائف ذاتية التوجيه النادرة ومرتفعة التكلفة التي تستعملها روسيا في تعطيل البنية التحتية الأوكرانية لتوليد الطاقة في هذا الشتاء. وقد تكبّدت روسيا مئة ألف إصابة بشرية، وخسرت 1500 دبابة، و2500 مدرعة وناقلة جنود، و2000 شاحنة، وأزيد من 130 طائرة وعمودية، بحسب "أوريكس". كذلك، عبأت روسيا 300.000 من جنود الاحتياط لإنقاذ جيشها من الانهيار. وبينما تتباين الأرقام بشأن تكلفة الحرب بالنسبة لروسيا، فإن الرئيس فلاديمير بوتين أمر بزيادة ميزانية الدفاع في 2023 بنسبة 40%، ما يرفع مجموع إنفاق روسيا على الجيش والأمن ووكالات إنفاذ القانون إلى 143 مليار دولار، وهو ما يمثل نحو ثلث ميزانية الحكومة بأكملها أو أكثر.
تُقدّر وزارة المالية الأوكرانية كلفة الحرب بعشرة مليارات دولار شهرياً، وبناء عليه فإن مستوى الدعم الغربي كان حاسماً في إبقاء أوكرانيا في المعركة. كان الدعم الأميركي بالتحديد متميزاً إذ بلغ 19.3 مليار دولار. وهذا يتضمن 38 نظام صواريخ مدفعية متنقلة (HIMARS) مع قذائفها (استطاعت 12 وحدة من هذا السلاح تغيير دفة الحرب عندما شُرع في استعمالها في يونيو)، وأنظمة صواريخ أرض-جو متطورة (NASAMS)، و45 دبابة من طراز T-72B، و1600 نظام ستينجر المضاد للطائرات، و8500 نظام مضاد للدروع من طراز جافلين، وأكثر من 2500 طائرة مسيّرة تكتيكية، و142 من مدافع هاوتزر مع نحو مليون قذيفة مدفعية، وسوى ذلك من الأسلحة.
في المرتبة الثانية من الداعمين عسكرياً بريطانيا التي قدمت ما قيمته 2.3 مليار جنيه إسترليني، وتضمن الدعم أكثر من 10.000 قذيفة قصيرة المدى (NLAW)، وقذائف جافلين وصواريخ ستارستريك، و100.000 قذيفة مدفعية. وقدم الاتحاد الأوروبي معونات بقيمة 2.1 مليار دولار ضمن "مرفق السلام الأوروبي".
كان من الواضح أن أوكرانيا تحتاج إلى المساعدة، فأخرج الغرب دفتر شيكاته وفتح مخازنه.
الغرب لم يكن مستعداً
تتزايد أهمية المخزون يوماً بعد يوم، فقد تقلص مخزون الأسلحة التقليدية منذ انتهاء الحرب الباردة، أسهم في ذلك تضاؤل التهديدات الناشئة عن دول، كما أن الجيوش الغربية اتجهت في الخمس وعشرين سنة الماضية إلى تطوير الأنظمة اللوجستية المتطورة سعياً لتقليل النفقات. وقد خلصت من بحثي إلى نتيجة مفادها أن هذه الأنظمة اللوجستية أقل مناعة وأدنى تحملاً للصدمات الاستراتيجية رغم كونها أكثر كفاءة. وما أثر على التجهيزات الحربية تغير شكل الاحتياجات العسكرية في الحملتين على العراق وأفغانستان.
في المحصلة فإن قاعدة الصناعة العسكرية الأميركية والأوروبية لم تكن مستعدة لفقدان مخزونها بهذه السرعة. وتقول تحليلات صدرت مؤخراً إن مخزون الجيش البريطاني من الذخيرة سينفد في غضون أسبوع لو أنه تعرض لهجوم كثيف كالذي تعرّضت له منطقة دونباس الأوكرانية في الصيف. وثمة قلق مماثل في الولايات المتحدة، حيث انتقد محلل سياسات الأمن القومي أوستن دامر "قدرة القاعدة الصناعية العسكرية" الأميركية وقال إنها "تعاني من الأنيميا"، إذ إن تجديد مخزون صواريخ (HIMARS) للمدفعية، وصواريخ جافلين يتطلب سنتين منذ تقديم الطلب، وهو يُقدّر أن 45% من مخزون جافلين ربما يكون قد أرسل إلى أوكرانيا. وهو يشير أيضاً إلى أن إعادة ملء المخازن الأميركية من هذه الأسلحة ستتطلب الاعتماد على شركة لوكهيد المنتجة لها، ما يعني أن تلبية الشركة لطلبيات أخرى تعد أكثر فاعلية في صراع من نوع آخر سيتراجع على سلم الأولويات.
عين على التهديد الصيني
ما كان هذا ليمثل مشكلة لو لم تكن هناك تهديدات أخرى آتية من جانب دولة. لكن الصين ماضية في الإنفاق السخي والتحديث السريع لجيش التحرير الشعبي كي تكون في وضع يمكنها من غزو تايوان مع إبقاء الولايات المتحدة عاجزة عن التدخل. ويشعر كبار ضباط البحرية الأميركية والمحللون بقلق متزايد من أن الصين قد تصل إلى مثل هذا الوضع قريباً. وبينما يبدي شي جين بينج قلقه حيال الغزو الروسي لأوكرانيا، فهو يشعر بلا شك بالرضا لهذه الفرصة التي جعلت الاهتمام السياسي الأميركي وضخ السلاح ينصب على أوكرانيا بدل تايوان.
وفي الواقع، فإن الأنباء تشير إلى أن طلب تايوان 208 صواريخ جافلين و215 صاروخ ستينجر أرض-جو، الذي تم تقديمه عام 2015، ما زال ينتظر، والسلاح لم يشحن من شركة لوكهيد الأميركية. وهذا مؤشر على الضغط الذي تتعرّض له الصناعة الحربية في وجه الطلب المتصاعد. ويقول مسؤولو الدفاع الأميركيون إن حرب أوكرانيا ليست السبب، فالأسلحة التي أرسلت إلى أوكرانيا كانت من المخزون، وليست من الإنتاج الجديد المخصص لتايوان. على أن المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي أقرّ بأن جهود الولايات المتحدة لتأهيل ترسانتها من جهة، ومساعيها لمساعدة حلفائها من جهة أخرى مسألة تحتاج إلى "التوازن". وهذا يؤيد أبحاث دامر المعمقة التي تشير إلى وجود قلق بشأن مرونة القاعدة الصناعية الحربية الأميركية.
إنفاق قياسي
هذا الأمر ينطبق على أوروبا وعلى العالم أيضاً، فبحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI، فإن الإنفاق العسكري عالمياً ارتفع بمقدار 0.7% في عام 2021 ليبلغ 2.113 تريليون دولار، وبهذا فقد تخطى حاجز التريليونين لأول مرة. ويمكن بسهولة الافتراض بأن هذا الرقم سيزيد كثيراً بسبب الحرب هذا العام في أوكرانيا. ومن الدول التي أعلنت زيادة في الإنفاق: أميركا، والصين، والهند، وتايوان، واليابان، وبريطانيا، وروسيا، وأوكرانيا، وبولندا، وألمانيا، وفرنسا، والزيادة في كثير من هذه الدول كبيرة جداً، وسنشهد تدافعاً للحصول على الموارد والمنتجات الحربية.
بسبب جائحة كورونا وحرب أوكرانيا أيضاً، ازداد وعي الغرب بالحاجة إلى تمتين سلاسل الإمداد عن طريق إعادة توطين الشركات الضرورية للإمدادات العسكرية وتقليل الاستعانة بمصادر خارجية. ويقف صانعو السلاح في شتى دول الغرب الآن على أهبة الاستعداد. وقد شهدت أسهم شركة BAE ارتفاعاً ملحوظاً على خلفية ما استقبلته من طلبات أميركية وبريطانية لتعويض ما تم شحنه إلى أوكرانيا.
امتحان السلاح الروسي
من المظاهر التي لفتت أنظار المحللين وأهل الصناعة الحربية في حرب أوكرانيا أداء الأسلحة الروسية. على خلاف المتوقع، فإن بعض الأجهزة المتقدمة كالأسلحة الإلكترونية عملت بشكل جيد، غير أن الأسلحة التقليدية كانت سيئة الصيانة والأداء مما أوقع بها خسائر كبيرة في الميدان. حتى لو كانت هذه الآليات جيدة فإن منظرها وهي مدمرة ومتروكة ليس مما تفاخر به دولة مصدرة للسلاح مثل روسيا. والهند أكبر مستورد للسلاح الروسي مع فارق شاسع عمن يليها، ورغم أنها لن تتخلى عن الاعتماد على السلاح الروسي، فإنها نظرت بعين القلق إلى أداء هذا السلاح في ميادين أوكرانيا. وفي مقدور الهند أن تنوّع مصادرها فتستورد السلاح من الغرب، بعكس الصين التي لا تملك هذا الخيار وهي ثاني أكبر مستوردي السلاح الروسي.
تعتمد الجزائر ومصر والعراق على السلاح الروسي، وسنرى ما إذا كانت حرب أوكرانيا ستزعزع ثقة هذه البلدان. وعلى كل حال فإن من المستبعد أن تتمكن موسكو من الإيفاء بكثير من طلبات شراء السلاح والعتاد، ولا سيما أنها اضطرت إلى استيراد قذائف مدفعية من كوريا الشمالية وطائرات مسيّرة من إيران. ويعد استعمال الروس لمسيّرة Shahed-136 أمراً تفاخر به إيران، ليس فقط من باب استعراض قدرات المسيّرة، بل أيضاً بالنظر إلى ما حصلت عليه في المقابل، إذ تشير تقارير حديثة إلى أن طهران ستتلقى طائرات SU-35 الروسية.
يبدو أنها ستكون سنة تزدهر فيها صناعة السلاح حول العالم مع استمرار الحرب في أوروبا، وتصاعد الطلب إثر اشتداد التوتر في منطقة المحيط الهندي-الهادئ. وبقدر استطاعة الغرب تلبية طلبات الشراء، فإن الصناعة الحربية في الغرب مهيأة لتوسيع رقعة سوقها على حساب روسيا.
رهان مع الزمن
كل هذا سيتأثر بالتهديدات والمخاطر المحتملة على هاتين الجبهتين. فكيف سيكون مصير الحرب في أوكرانيا؟ تشير التعليقات الأخيرة من جانب الحكومة الأوكرانية والمسؤولين العسكريين إلى أن قدرات كييف تأثرت وستحتاج إلى استمرار الدعم الغربي لتحقيق التفوق.
ولكن العسكريين الأميركيين وبعض الساسة، وربما البيت الأبيض، قد بدأوا يشعرون بقلق متزايد من التكلفة العالية لضخ الدعم إلى أوكرانيا، نظراً إلى أن أولوية الولايات المتحدة تظل في منطقة المحيط الهندي-الهادئ.
ومن المهم في الاستراتيجية الناجعة توزيع الموارد بحسب المهام المنشودة. الأمر المهم الآخر يتعلق بالمراحل الزمنية، إذ يقول خبراء البنتاغون إنهم لا يتوقعون غزواً صينياً لتايوان في غضون السنتين المقبلتين. ويبدو الآن أن إدارة بايدن تراهن على أنها تملك الوقت الكافي، وتملك الثقة بما اجتمع لديها من مؤشرات وتحذيرات، بحيث يمكنها المضي في دعم أوكرانيا الآن قبل أن تضطر للتحول بعيداً عنها باتجاه تايوان. وسيثبت الزمن صحة أو فساد رهان واشنطن.
لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة: