احتفلت هيئة الإذاعة البريطانية BBC العام الماضي بالذكرى المئوية لتأسيسها، ورغم أن الشبكة استطاعت خلال الـ100عام الماضية بناء إمبراطورية إعلامية تبث على مختلف المنصات المرئية والسمعية بأكثر من 40 لغة مختلفة عالمياً، غير أن رياح الأزمات بدأت تعصف بها في السنوات الأخيرة.
آخر الهزات التي طالت BBC، إعلان رئيسها ريتشارد شارب، الجمعة، استقالته بعد تحقيق وجد أنه انتهك القواعد لعدم الإفصاح عن دوره في ترتيب قرض لرئيس الوزراء السابق بوريس جونسون.
وكان شارب، الخبير والمصرفي الاستثماري السابق، عُيّن عام 2021 في منصبه، بعد فترة قصيرة من قيامه بمساعدة جونسون الذي كان رئيساً للوزراء حينذاك للحصول على قرض بقيمة 800 ألف جنيه استرليني (906 آلاف يورو).
وأكد التقرير أن ذلك يمكن أن يعطي انطباعاً بمحاولة شارب التأثير على جونسون للحصول على دعمه، عند إبلاغه بترشيحه لرئاسة هيئة الإذاعة البريطانية قبل تقديمه رسمياً.
وبعدما تحدث عن مخالفة "غير مقصودة"، أشار شارب إلى أنه يريد وضع "مصالح هيئة الإذاعة البريطانية أولاً". وستصبح استقالته سارية المفعول في نهاية يونيو المقبل.
وهذه الحادثة الثانية التي تهز هيئة الإذاعة البريطانية على مستوى شخصياتها البارزة هذا العام، إذ أوقفت في مارس الماضي جاري لينيكر مقدم برنامج "مباراة اليوم" (Match of the Day)، على خلفية انتقاده الشديد لسياسة اللجوء الجديدة للحكومة البريطانية، معتبرة أنه "انتهك إرشاداتها على وسائل التواصل الاجتماعي".
وكان لينيكر أعرب في تغريدة عبر تويتر، عن رفضه لقانون الهجرة الذي تتبناه وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، وقال "هذه مجرد سياسة قاسية تستهدف الأشخاص الأكثر ضعفاً بلغة لا تختلف عن تلك التي استخدمتها ألمانيا في الثلاثينيات"، في إشارة إلى الحكم النازي.
وتعرض لينيكر لانتقادات حادّة من حكومة المحافظين ومطالبات واسعة لـ BBC باتخاذ موقف حياله، قوبلت بحملة دعم واسعة من مؤيدي لينيكر على منصات التواصل.
وقد واجهت هيئة الإذاعة البريطانية انتقادات شديدة في السنوات الأخيرة، لا سيما من المحافظين الحاكمين الذين يتهمونها بالانحياز، بما في ذلك بشأن "بريكست"، وبالتركيز على اهتمامات نخب المدن بدلاً من الطبقة العاملة.
تأسيس BBC
في الساعة السادسة بتوقيت جرينيتش مساء 14 نوفمبر عام 1922 انطلق بث إذاعة BBC على الأثير لأول مرة، من العاصمة البريطانية لندن، وكان أول ما بثّته نشرة إخبارية من خلال وكالات الأنباء، تلتها نشرة جوية من إعداد خدمة الأرصاد الجوية الوطنية في المملكة المتحدة.
وكان مدير البرامج آرثر بوروز هو من يقرأ النشرة والأرصاد باللغة الإنجليزية مرتين، الأولى بسرعة والثانية ببطء حتى يتمكن المستمعون من تدوين الملاحظات إذا رغبوا في ذلك.
وحسب ما تذكر المؤسسة على موقفها الإلكتروني، تُمثل "BBC" أول خدمة إذاعية محلية على مستوى المملكة المتحدة.
وفي 19 ديسمبر 1932 انطلقت الخدمة العالمية للشبكة، إذ وجه الملك جورج الخامس أول رسالة ملكية له بمناسبة عيد الميلاد إلى المملكة وأجزاء من العالم. وخلال البث، الذي تم على الموجة القصيرة مستهدفاً بشكل أساسي المتحدثين باللغة الإنجليزية في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وصف الملك الخدمة الإذاعية الجديدة بأنها مخصصة "للرجال والنساء المعزولين بسبب الثلوج أو الصحراء أو البحر والذين لا يمكن أن تصلهم إلا الأصوات عبر الهواء".
وشهد ذلك الخطاب إطلاق خدمة "بي بي سي" الإمبراطورية، التي أصبحت الآن خدمة "BBC" العالمية.
ويُعد جون تشارلز أول مدير عام لهيئة الإذاعة البريطانية في 14 ديسمبر 1922، وكان يبلغ من العمر 33 عاماً، كما يعد أحد الشخصيات الرئيسية في تاريخها، إذ أدار تطوير أول خدمة تلفزيونية منتظمة في العالم عام 1936.
وفي 1 مايو من عام 1945، شكّل إذاعة BBC خبر انتحار أدولف هتلر إعلاناً لملايين المستمعين بانتهاء الحرب العالمية الثانية.
وتوقف البث التلفزيوني خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه استؤنف عام 1946. واحتفظت الهيئة باحتكارها لخدمة التلفزيون في بريطانيا حتى إقرار قانون جديد عام 1954.
وحدد الميثاق الأول للهيئة تركيز اهتمامها بشكل رئيسي على قضايا السياسة العامة، في حين أن المدير العام وكبار الموظفين مسؤولون عن التنفيذ التفصيلي لتلك السياسة.
وفي عام 1991 بدأ تلفزيون الخدمة العالمية البث. وبحلول القرن الـ21، كانت BBC تبث بأكثر من 40 لغة، لتكون بذلك أكبر هيئة إذاعية عالمية من حيث المساحة التي تغطيها وعدد اللغات والجمهور. وتُشير إحصائية نشرتها الشبكة عام 2020 إلى أن عدد متابعي كل منصاتها وصل إلى 468.2 مليون إسبوعياً، وهو أكبر رقم في تاريخها،
واليوم توفر الهيئة خدماتها عبر التلفزيون والراديو والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
هيكل الإدارة
تعمل BBC بموجب ميثاق ملكي متفق عليه مع حكومة المملكة المتحدة، بحيث يُكرس استقلالها عن الدولة.
وفق موقع هيئة الإذاعة البريطانية، ينص الميثاق على أن الشركة "يجب أن تكون مستقلة"، لا سيما في ما يتعلق بـ"القرارات التحريرية والإبداعية، والأوقات والطريقة التي يتم بها تقديم إنتاجها وخدماتها، وفي إدارة شؤونها".
ويتألف مجلس إدارة BBC من 10 أعضاء غير تنفيذيين، بما في ذلك رئيس المجلس، و4 أعضاء تنفيذيين بما فيهم المدير العام ورئيس التحرير، الذي يرأس اللجنة التنفيذية.
ويتم تعيين 4 من الأعضاء غير التنفيذيين كممثلين لكل دولة من دول المملكة المتحدة، في حين لم يتم تعيين عضو عن أيرلندا الشمالية بعد.
وبحسب ميثاق الهيئة، يقوم الملك بتعيين رئيس مجلس الإدارة والأعضاء غير التنفيذيين للدول، بناءً على توصية الحكومة، أما تعيين أعضاء مجلس الإدارة الآخرين، فيكون من خلال لجنة الترشيحات التابعة لمجلس إدارة BBC.
ويضع مجلس إدارة BBC استراتيجية الشركة، ويُقيم أداء المجلس التنفيذي في تقديم خدمات الهيئة ويُعين المدير العام. ومنذ عدة سنوات أصبحت مسؤولية تنظيم BBC على عاتق "Ofcom" وهي هيئة تنظيمية للاتصالات في المملكة المتحدة.
ووفقاً لميثاقها الملكي، تكمن مهمة BBC في "العمل من أجل المصلحة العامة" من خلال توفير محتوى "محايد وعالي الجودة ومميز"، والذي من شأنه "إعلام وتثقيف وترفيه" كل من يدفع رسوم الترخيص.
كما يشترط الميثاق أن تمتنع الهيئة عن بث أي رأي خاص بها عن الشؤون الجارية ومسائل السياسة العامة، والتزام الحياد في معالجة الخلافات.
مصادر التمويل
يأتي تمويل هيئة الإذاعة البريطانية من رسوم يدفعها من يمتلكون أجهزة التلفزيون، أو يشاهدون البث المباشر على أجهزة مثل الكمبيوتر في المملكة المتحدة، وتعادل الرسوم 159 جنيهاً استرلينياً (197 دولاراً) للاشتراك الواحد سنوياً، بينما تكون (53.50 جنيه إسترليني لأجهزة التلفزيون بالأبيض والأسود).
وتشمل خدمات BBC التلفزيون والراديو والموقع الإلكتروني والبودكاست و iPlayer والتطبيقات، وتصل إلى 95% من البريطانيين أسبوعياً.
وتزيد تكلفة الترخيص سنوياً حسب معدل التضخم، ونتيجة لذلك ارتفعت من 104 جنيهات إسترلينية في عام 2000، إلى ما هي عليه اليوم.
وبدأ العمل برسوم الترخيص عام 1946، عندما كانت BBC هي المزود الوحيد للبث في المملكة المتحدة.
وبحسب خطتها السنوية (2023/2024)، توقعت BBC عجزاً مالياً في ميزانيتها، مشيرة إلى الحاجة لإيجاد مدخرات متزايدة، معلنةً خفض 1000 ساعة سنوياً في محتواها.
كما توقعت الشركة أن يبلغ إجمالي دخلها 5.53 مليار جنيه إسترليني (6.8 مليار دولار) لهذه الفترة، بما في ذلك مصدر دخلها الرئيسي، رسوم الترخيص السنوية، والتي تبلغ 3.6 مليار جنيه إسترليني، أما النسبة المتبقية تأتي عادة من الأنشطة التجارية والمنح الحكومية وإيرادات الإيجارات، وفقاً لمكتبة مجلس العموم البريطاني.
وفي مارس الماضي، أعلن وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي عن تمويل جديد لحماية الخدمات الدولية التي تقدمها BBC بجميع اللغات البالغة 42 لغة، ودعم البث باللغة الإنجليزية، والتصدي للتضليل الإعلامي.
وقال في بيان "المبلغ الذي نقدمه لمرة واحدة سوف يتيح للخدمة العالمية أن تحتفظ بمكانتها التي لا منافس لها كأكبر هيئة بث دولية".
أبرز التحديات
في العام الماضي، أعلنت حكومة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون عن تجميد المساهمات الشهرية، التي يدفعها البريطانيون لمشاهدة قنوات شبكة BBC، دون زيادة لمدة عامين، على أن ترتفع تماشياً مع معدل التضخم، على أن يتم إلغائها بشكل كامل عام 2027.
ويُعد وجود رسوم ترخيص الاشتراك بخدمات الشبكة مكفولاً حتى 31 ديسمبر 2027 على الأقل من قبل الميثاق الملكي الخاص بـBBC، والذي يُحدد تمويل هيئة البث والغرض منها.
ومن المتوقع إذا ما طُبق قرار إلغاء الرسوم بشكل نهائي، أن تفقد الشبكة 4 مليارات دولار من مداخيلها، في وقت ليس من الواضح بعد كيف ستقوم بتعويضها، إلا أن هناك مفاوضات مع الحكومة لإيجاد طرق جديدة للحصول على التمويل.
وفي وقت سابق هذا الشهر، وضعت شركة "تويتر" إشارة بأن BBC ممولة من الحكومة، ما أثار استياء الهيئة التي تُعرفها الحكومة البريطانية كمؤسسة عامة محايدة.
كما واجهت الهيئة انتقادات بسبب تفاوت الأجور بين الرجال والنساء من موظفيها، بعد كشفها في مايو 2017 عن لائحة أجور نجومها، والذين يشكلون ثلثي أصحاب أعلى الأجور بين مذيعيها ومقدمي برامجها. وتلقت لجنة الإعلام في البرلمان البريطاني شكاوى من عاملات في BBC في هذا الشأن.
وفي 27 يناير 2023 أعلنت الهيئة توقف بث إذاعة BBC عربي بعد أكثر من 80 عاماً على انطلاقها، في إطار خطّة لإعادة الهيكلة والتوجّه إلى المنصات الرقمية بحسب ما أعلنت، ليغيب صوت "هنا لندن" الذي شكّل شعاراً للإذاعة طيلة عقود.
وشملت الخطة الأخيرة أيضاً إلغاء 382 وظيفة، وهو ما أرجعته الهيئة إلى أسباب اقتصادية، معتبرة أن التضخم والتكاليف المرتفعة وتسوية رسوم الترخيص النقدية الثابتة أدت إلى خيارات صعبة.
وألغت الخدمة العالمية عام 2011 نحو 650 وظيفة في لندن، وتم إغلاق الخدمة في 5 لغات، وأوقفت خدمتها باللغات الألبانية والمقدونية والصربية والبرتغالية في إفريقيا والإنجليزية للكاريبي".
وجاءت تلك الاقتطاعات نتيجة قرار حكومة رئيس الوزراء المحافظ السابق ديفيد كاميرون بخفض الميزانية السنوية لخدمة BBC بنسبة 16% على مدار 6 سنوات، في إطار خطة تقشف صارمة.
الخدمة العربية
في عام 1938 انطلقت الخدمة العربية في هيئة الإذاعة البريطانية، وكانت الأولى بغير اللغة الانجليزية، وقد تم اختيار المذيع أحمد كمال سرور أفندي من الإذاعة المصرية ليكون صوتها.
وأجرت الخدمة العربية من BBC لقاءات مع العديد من الشخصيات العربية المؤثرة، في السياسة والفن والثقافة والرياضة والموسيقى والغناء وغير ذلك.
ومن أبرز تلك الأسماء فيصل الثاني ملك العراق، الذي سجل في أبريل 1951 لقاء بثته BBC بمناسبة عيد ميلاده السادس عشر حين كان طالباً في مدرسة هارو، والأمير فهد بن عبد العزيز، وزير الداخلية السعودي آنذاك.
وأجرت الهيئة لقاءات مع مشاهير في عالم الغناء، أبرزهم أم كلثوم خلال زيارتها إلى لندن عام 1949 وفيروز في 1961.
وشكّلت حرب السويس عام 1956 تحدياً أمام استقلالية الإذاعة البريطانية، بعد مشاركة بريطانيا لكل من فرنسا وإسرائيل في الحرب.
وفي بداية التسعينات كان يعمل بالقسم العربي نحو 80 شخصاً، بين مذيع ومنتج وفني وإداري، بعضهم تحول للتلفزيون الوليد الذي بدأ بثه عام 2008.
شخصيات بارزة
استقطبت BBC خلال الـ100 عام الماضية، عدداً من نخبة مقدمي البرامج والصحافيين الذين تركوا تأثيراً في مسيرتها.
وفي 2017، أزيح الستار عن تمثال للروائي البريطاني الشهير جورج أورويل في باحة مبنى هيئة الإذاعة البريطانية الجديد (نيو برودكاستنج هاوس)، وذلك على بعد دقائق قليلة من مكان عمل أورويل كصحافي إذاعي خلال الحرب العالمية الثانية.
وعمل أورويل من أغسطس 1941 حتى نوفمبر 1943. وبعد مرور عام انتقل إلى الخدمة الشرقية الأجنبية وكان يعمل في قبو اشترته BBC خلال فترة الحرب.
ومن بين مشاهير الهيئة، ديفيد أتينبارا المذيع البريطاني المعروف بدفاعه عن الطبيعة، من خلال أفلامه الوثائقية عن الحياة البرية التي تعود إلى 8 عقود، حيث ساهم في تثقيف الناس وتوعيتهم بالتغير المناخي، وحصل على لقب بطل الأرض عام 2021 من قبل برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة.
وصنعت أونا مارسون التاريخ لأنها أصبحت أول صحفية غير بيضاء تعمل في BBC عام 1939، وهي في الأصل من جامايكا.
وفي مقال نشره بوكالة "بلومبرغ"، قال الكاتب كلايف كروك إن BBC تعاني من مشكلات طويلة الأمد، إذ يؤدي اشتداد المنافسة والتوسع المتسارع في السوق إلى استمرار فقدانها للمشاهدين وولاء الجمهور.
وأضاف "عاجلاً أم آجلاً، سوف يصبح نموذج رسوم الترخيص غير مستدام سياسياً، وسينهار النموذج العظيم الذي يقدم الصالح العام، والذي كان من المستبعد انهياره".
ويتوقع كروك أن تتحول BBC في وقت ما إلى مجرد شركة إنتاج تلفزيوني وإذاعي، تزايد من أجل الحصول على نصيبها المتواضع من الدعم العام، معتقداً أن BBC التي سعت إلى "الإعلام والتثقيف والترفيه" لمدة قرن من الزمان، لن تكون هي ذاتها أبداً في بريطانيا أو في أي مكان آخر.
اقرأ أيضاً: