بدأ المتحف البريطاني التعاون مع شرطة لندن في رحلة استعادة نحو 2000 قطعة أثرية سرقت منه خلال مدة زمنية لم تحددها الجهات المختصة بدقة حتى الآن.
وثمة مجوهرات ثمينة وأحجار كريمة بين المسروقات، ولكن لا يمكن حصر كل ما اختفى وفقد، بسبب عدم وجود سجل بكل محتويات المتحف، وفقاً لرئيس مجلس إدارته جورج أوزبورن.
هذه السرقة التي اكتشفت قبل أيام تحولت إلى فضيحة مدوية، أجبرت مدير المتحف هارتويج فيشر ونائبه جوناثان ويليامز، إلى الاستقالة الفورية، خاصة بعدما تأكد تجاهلهما للعديد من التحذيرات بشأن ضعف الإجراءات الأمنية المتبعة في المتحف، وصلت إليهما عبر موظفين ومختصين منذ عام 2021.
الفضيحة لم تبق محلية الطابع، فقد أثارت ردود فعل خارجية بعدما جددت دول حول العالم، مطالبها لبريطانيا باستعادة آثارها الموجودة في المتحف البريطاني، بحجة أنه "ليس قادراً على حمايتها والمحافظة عليها"، وهي ذات الحجة التي لطالما ساقتها إدارة المتحف لرفض إعادة الآثار لدول يقول المتحف إنها "عاجزة عن صون أشياء ثمينة في تاريخها".
"سرقة غامضة"
وفقاً للتصريحات الرسمية الصادرة حتى الآن، اختفت القطع الأثرية من المتحف قبل بدء عام 2023، وقد امتدت عملية السرقة على فترة زمنية ولم تحدث في واقعة واحدة. أما الآلية التي اكتشف بها الأمر فلم تعلن بشكل واضح، وقد طلبت شرطة العاصمة من إدارة المتحف التحفظ في بياناتها بشأن تفاصيل العملية، وعدم الإفصاح عن كامل المسروقات.
رئيس مجلس إدارة المتحف ووزير الخزانة السابق جورج أوزبورن، قال في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، إن عدد 2000 قطعة، ليس نهائياً لقائمة المسروقات. فلا زالت عملية إحصاء المفقودات مستمرة، كما أن شرطة العاصمة تمنع المتحف من الإفصاح عن كامل القائمة، بالإضافة إلى أنه تمت استعادة مئات من القطع المسروقة.
وثمة مفقودات من المتحف كانت معروضة على موقع "ebay" من أجل بيعها، وكان هذا خيطاً من الخيوط التي تتبعتها شرطة لندن للكشف عن ملابسات السرقة وملاحقة الجناة، الذين يعتقد أن بينهم من كان يعمل في المتحف خلال العام الماضي. وبرأي أوزبورن، يصعب التفكير في احتمال غير وجود متورطين من داخل المتحف في الأمر.
رئيس مجلس الإدارة، أوضح أيضاً أن المتحف بدأ منذ عامين في مشروع تخزين آثار في مستودع جديد بمنطقة "وادي التايمز"، وقد اتضح أن نقل الآثار إلى هناك شكل "ثغرة أمنية" يسهل استغلالها، منوهاً إلى وجود أشخاص مطلعين على هذه العملية، وهم على دراية بعدم وجود سجل لكامل محتويات المتحف التي جمعت عبر قرون.
مسؤولية السرقة
تشير التصريحات الرسمية إلى أن القطع المسروقة تمتد في تاريخها بين القرن الخامس عشر قبل الميلاد وحتى القرن التاسع عشر الميلادي. وجميع المسروقات صغيرة الحجم ولم تعد تعرض على زوار المتحف، وإنما تستخدم فقط لأغراض البحث العلمي والتاريخي، وهو ما قد يكون سهل عملية سرقتها دون لفت الأنظار، وفق مختصين.
لم تلقي الشرطة حتى الآن القبض على أي شخص مشتبه بتورطه في حادثة السرقة، ولكن موظفاً في المتحف طرد من عمله بسببها ويخضع للتحقيق، فيما استقال مدير المنشأة ونائبه بشكل فوري، وأعلنا أنهما يتحملان مسؤولية ما حدث نتيجة تجاهلهما لتحذيرات بشأن الإجراءات الأمنية الضعيفة المتبعة في حماية محتويات المتحف.
أول التحذيرات التي تلقتها إدارة المتحف جاءت من الأكاديمي وتاجر التحف إيتاي جرادل عام 2021، ولكن لم تكن هناك أي محاولة لإغلاق الثغرات في البروتوكول الأمني المتبع.
وقال المؤرخ البريطاني جون ماكهوجو، إن السرقة الأخيرة أظهرت هشاشة الإجراءات الاحترازية التي لا يزال يتخذها المتحف رغم وقوع سرقات سابقة فيه.
ولفت ماكهوجو في حديث مع "الشرق" إلى أن متحفاً يضم ملايين القطع الأثرية يحتاج إلى كثير من التقنيات والمراقبة البشرية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمقتنيات صغيرة الحجم يسهل سرقتها وإخفاؤها بين الملابس أو داخل الحقائب، كما يسهل بيعها والترويج لها في هذا العصر الذي تنتشر فيه أدوات البيع الإلكتروني ومتاجر الانترنت.
وأشار المؤرخ البريطاني إلى أن الطامة الكبرى في السرقة الأخيرة هي غياب سجل شامل لمحتويات المتحف الوطني، التي جمعت على مدار مئات السنين، فكان يجب صناعة مكتبة كاملة لمحتويات المتحف خلال العقود الماضية، خاصة بعدما توفرت أدوات الأرشفة والحفظ الرقمية التي يمكن تحديثها بسرعة وعبر خيارات تزداد سهولة سنوياً.
سمعة المتحف البريطاني
أقر رئيس مجلس إدارة المتحف جورج أوزبورن بالضرر الكبير الذي أحدثته السرقة الأخيرة في سمعة المتحف.
وقال أوزبورن إن الحادثة سوف تشكل عامل ضغط كبير تستغله الدول المطالبة باستعادة آثار لها؛ رفضت لندن إعادتها سابقاً بحجة أن هذه الدول لا تستطيع "حماية تاريخها"، ورغم ذلك شدد المسؤول البريطاني على أن الأمر "يمكن أن يحدث لأي متحف كبير حول العالم".
ونشرت صحيفة "الجارديان" تقريراً يكشف أن حادثة السرقة الأخيرة أحيت مطالبات دول عدة باستعادة آثارها من المتحف البريطاني، بحجة ضعف الإجراءات الأمنية المتبعة فيه، وعلى رأس هذه الدول جاءت اليونان التي قالت وزيرة الثقافة فيها لينا ميندوني، إن الوقت قد حان لإعادة الآثار إلى متحف الأكروبوليس في أثينا.
كذلك، من الدول التي تريد استعادة آثارها مصر التي تطالب بعودة حجر رشيد الشهير، وعدد آخر من قطعها الموجودة في المتحف، وإثيوبيا التي تطالب بصلبان ومجوهرات وأسلحة، وضعت المملكة المتحدة يدها عليها في واقعة مقدالا شمال البلاد عام 1868. وتطالب النيجر باستعادة 900 قطعة برونزية، وتضغط غانا لاسترداد مجموعة كبيرة من القطع الذهبية.
وبينما تعول إدارة المتحف على استعادة القطع المفقودة بأسرع وقت ممكن لوقف مطالبات الدول باسترداد آثارها، قال رئيس قسم الآثار في جامعة أكسفورد دان هيكس لصحيفة "التليجراف" إن الطموحات في هذا الشأن غير قابلة التحقق، لأنه يصعب العثور على آثار غير مسجلة أصلاً في المتحف، وبالتالي قد تبقى الأزمة لسنوات طويلة".
حوادث مشابهة
وتأسس المتحف البريطاني عام 1753، وهو أول متحف وطني عام في العالم، يضم أكثر من 8 ملايين قطعة أثرية تعود إلى حضارات ودول مختلفة، جمعت في غالبيتها خلال حقبة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، عندما كان عشرات الدول تحت حكم التاج البريطاني، وقد نقلت كنوزها وآثارها إلى متاحف المملكة المتحدة.
ولا تعد سرقة اليوم هي الأولى من نوعها التي يتعرض لها المتحف. فقد شهد حوادث مشابهة على امتداد نصف قرن. ففي عام 1970 سرق عدد من القطع النقدية والميداليات الأثرية، كما سرق لصوص دخلوا المتحف بعد كسر سطحه عام 1993، قطعاً نقدية رومانية ومجوهرات بقيمة 250 ألف جنيه استرليني وفق تقديرات مختصين.
حادثة أخرى وقعت عام 2002، عندما سرق زائر تمثال يوناني عمره 2500 عام، ويعتقد أن قيمته تبلغ 25 ألف جنيه استرليني، ودفعت هذه السرقة إدارة المتحف إلى مراجعة الإجراءات الأمنية المتبعة مع زوار المتحف، إذ كان التمثال في مكان مفتوح لا يخضع لحراسة، ولا يوجد ما يعيق لمسه أو حمله والمضي به من الزائرين.
ووقعت سرقة في المتحف ذاته أيضاً خلال 2004، حين تم الإبلاغ عن فقدان 15 قطعة أثرية من التاريخ الصيني تضم مجوهرات وحلي نسائية، سرقها أحد الزوار، أما في 2017، فقد اكتشفت إدارة المتحف أن ماسة من نوع كارتيه باهظة الثمن سرقت منذ 2011، ولم ينتبه أحد لغيابها إلا بعد مضي 6 سنوات، وفق التصريحات الرسمية.