تحول مشروع خفض الانبعاثات الكربونية في العاصمة البريطانية لندن والمعروف باسم "أوليز"، إلى قضية رأي عام في بريطانيا بعد وضعه حيز التنفيذ قبل أيام قليلة.
وأصبح المشروع موضع سجال داخلي كبير، شعبياً وسياسياً. فلا يهدأ مؤيدوه، ولا يتوقف المعارضون عن محاولة تعطيله أو دفع القائمين عليه للتراجع والتخلي عنه.
لم يتخل عمدة لندن العمالي صادق خان عن تطبيق المشروع رغم الضغوط الكبيرة التي تعرض لها من داخل حزبه وخارجه.
وتُرجم السخط الشعبي على "أوليز" إلى احتجاجات، وتخريب للكاميرات التي تراقب حركة السيارات في العاصمة، فتسجل الضريبة والمخالفة على كل من يتجاهل الشروط البيئية الجديدة.
كما لم يعد "أوليز" بحسب مراقبين ومحللين مجرد قضية اقتصادية أو بيئية، وإنما تحول لمعركة سياسية بين أحزاب البرلمان، ستكون المواجهة الأولى فيها خلال انتخابات عمدة لندن مطلع شهر مايو المقبل.
ولن يدخر المحافظون جهداً للاستفادة من النقمة الشعبية على المشروع لحشد الشارع ضد حزب "العمال" داخل العاصمة لندن وخارجها.
الجدوى والضرر
يهدف المشروع لخفض التلوث في سماء العاصمة البريطانية عبر الحد من عدد السيارات والشاحنات ذات المستوى المرتفع في الانبعاثات، ليس فقط تلك التي يملكها سكان لندن، وإنما أيضاً التي تدخل من المدن الأخرى لأسباب مختلفة. أما الآلية فهي فرض ضريبة على كل مركبة لا توافق المعايير البيئية الجديدة.
ومنح مجلس بلدية المدينة الذي يرأسه العمدة العمالي صادق خان، منذ مايو 2016، اللندنيين أكثر من عام كمهلة لاستبدال سياراتهم القديمة بأخرى توافق معايير "أوليز".
كما وفر قروضاً محدودة للراغبين بشراء سيارات جديدة، إضافة إلى استثناء أصحاب الاحتياجات الخاصة، وبعض الفئات من الضريبة حتى 2027.
ولم تكف هذه التسهيلات لاحتواء المعارضين للمشروع بحجة أن كلفة الحياة في بريطانيا مرتفعة جداً دون فرض ضريبة جديدة على السكان، وطالبوا العمدة مراراً بتأجيل "أوليز" إلى حين عودة التضخم لمعدلاته الطبيعية، وتراجع الغلاء المتزايد في البلاد منذ عام 2022، ولكن خان رفض دعوات التأجيل والتأخير.
وقال عمدة لندن إن كلفة الضريبة على البريطانيين يقابلها تراجع التلوث في العاصمة بمعدل 50٪، وهذا بدوره يجنب مليون شخص دخول المستشفيات للعلاج بسبب الانبعاثات السامة حتى عام 2050. ناهيك عن أن مركبة واحدة من كل 10 مركبات تدخل لندن يومياً، تخالف المعايير البيئية المطلوبة في مشروع "أوليز".
التعطيل والتوسعة
وكشف استطلاع جديد تلا تطبيق "أوليز" مباشرة، أن 47٪ من سكان العاصمة لندن يؤيدون المشروع الجديد، فيما يرفضه 42٪ ويحتار به 11٪.
ويشير الاستطلاع الذي أجرته شركة "يوجوف"، إلى أن نسبة المؤيدين بين القاطنين في مركز المدينة تصل لـ 62٪، فيما يرفضه 51٪ من الذين يعيشون على أطراف العاصمة.
وشجع تأييد نحو نصف اللندنيين، صادق خان على توسعة "أوليز" ليشمل كامل العاصمة وليس فقط مركز المدينة.
ولكن التطبيق لم ولن، يمر بسلام، فلا زال العمدة ومجلس البلدية وشرطة العاصمة يحاربون من أجل إجبار المعارضين على الاستسلام، والتوقف عن تخريب وتدمير كاميرات المراقبة التي يقوم عليها المشروع.
وأورد أحدث تقارير الشرطة أن أكثر من 750 كاميرا من أصل 1762يعتمد عليها المشروع، سرقت أو دمرت بالكامل.
ولكن متحدث باسم هيئة النقل في لندن أكد أن التخريب لن يوقف تطبيق "أوليز"، وستقوم بلدية المدينة بإصلاح الكاميرات المعطلة واستبدال التي سرقت، مع مواصلة ملاحقة الشرطة للمخربين ومعاقبتهم.
وأكد المسؤول اللندني في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية، على أن توسعة مشروع "أوليز" ماضية في طريقها، وسينشر مجلس المدينة أكثر من 3 آلاف كاميرا في الطرق المؤدية إلى العاصمة.
ولكنه رفض الكشف عن حجم الخسائر التي تعرضت لها خزينة البلدية نتيجة لتخريب وسرقة الكاميرات منذ تطبيق المشروع.
ثمة تقارير مختصة نشرها موقع "أخبار بريطانيا العظمى"، تقول إن مجلس مدينة لندن مول "أوليز" بقيمة 800 ألف جنيه إسترليني حتى الآن.
أما عائدات المشروع فلا تزال تقديرية وغير معروفة بدقة، ولكن كل مركبة تخالف الشروط البيئية الجديدة سوف تدفع 12.5 جنيه إسترليني مقابل كل رحلة من أو إلى لندن.
تداعيات أمنية
ورداً على تخريب الكاميرات الثابتة، نشر عمدة لندن في شوارع المدينة أسطولاً من الشاحنات الصغيرة التي تحمل كاميرات على سطحها.
ويصعب هذا الحل على الناقمين إفشال المشروع تقنياً، ولكن نفقاته سوف تزيد من كلفة المشروع، وتقتطع من خزانة العاصمة، أي من أموال دافعي الضرائب في نهاية المطاف.
ولا تتوقف تداعيات الرفض الشعبي لـ"أوليز"، عند الخسارة المالية، وإنما تشمل أيضاً توتر شرطة العاصمة بسبب الجهد الكبير الذي تبذله لملاحقة مخربي وسارقي 750 كاميرا مراقبة، وحماية تلك التي بقيت قيد التشغيل. وهي مهمة تحتاج إلى تفرغ كثيرين من عناصر السلك، وتصرف انتباه السلطات عن مشكلات أخرى.
أزمة الشرطة لا تتوقف هنا، فقد ظهر محتالون يبيعون الناس شهادات إعفاء من رسوم "أوليز" عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويعدون الناس بالاحتيال على الأنظمة الإلكترونية للسيارات لجعلها مطابقة للمعايير البيئية مقابل ألف جنيه إسترليني. وهذا مبلغ بسيط مقارنة بكلفة شراء سيارة جديدة أو تعديل محرك القديمة.
وأكدت هيئة النقل على تعاونها مع الشرطة والسلطات الأمنية المختصة في ملاحقة المحتالين على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
وقالت إنها خاطبت شركات السيارات العاملة في السوق المحلية، لمراقبة أنظمتها ومنع المحتالين من تعديل بيانات العربات بكافة أنواعها، لتطابق المعايير البيئية المطلوبة في "أوليز".
منصب العمدة
ويرى الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، أن تجاهل عمدة لندن للاعتراضات الشعبية على المشروع، دفع العاصمة بسكانها وشرطتها وفعالياتها الاقتصادية والمجتمعية، لتوتر لم يكن ضرورياً، أو قابل للتأجيل حتى يتحسن اقتصاد الدولة. ونتيجة هذا التوتر لن تظهر خلال أيام، وإنما في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وقال مطر في حديث لـ"الشرق"، إن "أوليز" تحول إلى حالة من الاصطفاف السياسي بين المؤيدين والمعارضين لصادق خان.
وبالتالي قد يصبح المشروع عنوان المنافسة المقبلة على منصب العمدة في الانتخابات المقبلة خلال مايو 2015، ليس في تطبيقه بحسب، وإنما في كامل إفرازاته وتداعياته على العاصمة.
ويلفت الباحث إلى أن ما أحدثه "أوليز" من جلبة وانقسام مجتمعي، استغلته منافسة خان على منصب العمدة في انتخابات 2024، فقد تبنت المرشحة عن حزب المحافظين الحاكم سوزان هول، مطالب الرافضين للمشروع، ورفعت من فرص فوزها بالكرسي بدعم كثيرين من سكان "لندن الكبرى"، أي العاصمة وضواحيها.
ووفق تقرير لصحيفة "بولتيكو" قد يحرم "أوليز" خان من الفوز بمنصب العمدة للمرة الثالثة، وخاصة بعدما اصطفت تيارات اليمين ضد المشروع، ووقفت خلف المرشحة هول المحافظة. فالصحيفة تعتقد أن خلاف كثيرين في العاصمة مع العمدة، قد تجاوز كلفة تنقية هواء "لندن الكبرى"، وحرك لديهم اعتبارات عنصرية.
وتلفت الصحيفة إلى أن التفاف تيارات اليمين حول مرشحة الحزب الحاكم قد يغير قواعد اللعبة السياسية العام المقبل، فاستحقاق عمدة لندن يسبق الانتخابات العامة بـ6 أشهر عادة، وإن ظفرت هول بإدارة العاصمة الكبرى، فهذا قد يعزز آمال المحافظين بالفوز على "العمال"، ومخالفة كل التوقعات واستطلاعات الرأي.
معركة سياسية
بلمحة بسيطة، تمثل سوزان هول اليمين المتشدد في الحزب الحاكم، وتحسب على تيارات اليمين المتطرف.
وهي من أنصار "بريكست"، ويشبهونها برئيسة الحكومة السابقة ليز ترس. استطلاعات الرأي حتى الأمس القريب كانت تستبعد فوزها على خان، ولكن "أوليز" جعل الرياح تمضي وفق ما تشتهي سفن هول.
وبحسب شركة "يوجوف" يؤيد نصف أعضاء حزب المحافظين في العاصمة لندن، تخريب كاميرات "أوليز"، وهم لن يفوتوا فرصة استبدال خان في انتخابات عام 2024.
ولكن هل كان لدى المحافظين إمكانية وقف المشروع البيئي، إلا أنهم فضلوا التراجع حتى تتفجر مشكلة بين حزب العمال وسكان العاصمة؟
الرئيس السابق لحزب "بريكست" نايجل فراج، قال إن وزير النقل مارك هاربر كان بإمكانه استخدام القانون الصادر عام 1999، ووقف توسعة "أوليز" على كامل العاصمة. ذلك لأن هذا القانون يتيح للحكومة تعطيل المشاريع التي يمكن أن تخالف سياساتها، أو تسبب الضرر للسكان خارج حدود مدينة "لندن الكبرى".
وأوردت صحيفة "ايفنينج ستاندرد"، أن نصيحة قانونية وجهت للحكومة بعدم محاولة وقف توسعة "أوليز" ليشمل العاصمة بأكملها.
ولكن العضوة في حزب المحافظين سامنثا سونز، تقول في حديث مع "الشرق"، إن الحزب الحاكم يؤيد المطالب بإلغاء هذا المشروع، أو على الأقل وقف توسعته ليشمل كل مناطق "لندن الكبرى".
وتلفت سونز إلى أن الانتخابات البرلمانية الفرعية التي جرت قبل أشهر قليلة في منطقة أوكسبردج، دللت بوضوح على أن المزاج اللندني العام ضد "أوليز".
واختار سكان تلك المنطقة المرشح المحافظ لخلافة بوريس جونسون، في البرلمان لأنه أعلن رفضه للمشروع. وقد اعترف "العمال" بذلك صراحة حينها.
"موقف العمال"
ورفض صادق خان في حديثه مع صحيفة "الاندبندنت"، الإجابة على سؤال إذا ما كان يخشى أن يؤدي "أوليز" إلى خسارة العمال في الانتخابات البرلمانية المقبلة؟ ولكن صحيفة "ديلي أكسبريس" نقلت عن قيادين في الحزب أنهم يخشون هذه النتيجة، وزعيم العمال كير ستارمر يعيش حيرة من أمره بسبب المشروع.
الوزير العمالي السابق خالد محمد، قال لـ ديلي أكسبريس"، إن أعضاء كثر في الحزب قلقون من أن يتحمل "العمال" فاتورة مشروع "أوليز".
وبالتالي يعاقب اللندنيون مرشحو الحزب في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فيصوتوا للمرشحين الأخرين كما حدث في انتخابات منطقة أوكسبردج التي خسرها العمال قبل أشهر.
وتتجسد أكبر مخاوف العمال في احتمال تقدم زعيم الحزب السابق جيرمي كوربين، كمرشح مستقل لانتخابات عمدة لندن المقبلة. فحينها ستنقسم أصوات الحزب بينه وبين خان، وترتفع حظوظ سوزان هول بقيادة العاصمة، ثم تصعد حظوظ "المحافظين" بالفوز في الانتخابات العامة المتوقع إجراؤها مطلع عام 2025.
اقرأ أيضاً: