أشرت زيارة وفد حركة "حماس" برئاسة عضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق إلى العاصمة الروسية موسكو، إلى قدرة موسكو على لعب دور مستقبلي للوساطة في الصراع بين تل أبيب والحركة، ولكن الزيارة تطرح كما يبدو أسئلة أكثر مما تعطي أجوبة عن احتمالات تطور الموقف الروسي تجاه الصراع الجاري في المنطقة.
ووصل الغضب الإسرائيلي من الزيارة إلى مطالبة موسكو بـ"طرد" الوفد الزائر، ما دفع الكرملين لمحاولة تخفيف وقع الحدث من خلال التأكيد على أن وفد "حماس" أجرى محادثات في الخارجية الروسية، وأنه "لا خطط لاستقبال قيادتها في مؤسسة الرئاسة".
لكن هذا المدخل، لم يقلص من استياء الغرب الذي رأى في ترتيب الزيارة المفاجئة، مؤشراً إضافياً على اصطفاف موسكو إلى جانب معسكر "الإرهابيين" الذين تشن إسرائيل ضدهم حرباً شاملة، لكن تاريخ العلاقة بين روسيا و"حماس" أبعد من هذه الزيارة.
دلالات الزيارة
خلافاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لم تدرج موسكو حركة "حماس" على "لائحة الإرهاب"، بل حافظت على قنوات اتصال ثابتة معها في كل مراحل الأزمة الفلسطينية، وخلال المواجهات السابقة التي وقعت بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وإسرائيل.
وانطلقت موسكو في تعاملاتها مع حركة "حماس"، من أن المحافظة على قنوات الحوار مع كل أطراف الأزمات الإقليمية يُشكل "عنصر قوة، ويمنحها القدرة بشكل أكبر على لعب أدوار للوساطة، وتعزيز حضورها في الملفات المختلفة".
وانسحب هذا الأمر على العلاقة مع جماعة "حزب الله" اللبنانية، التي لا تعتبرها موسكو منظمة إرهابية أيضاً، ومع "الحوثيين" في اليمن الذين لديهم مكتب تمثيل دائم في روسيا، وكذلك مع حركة "طالبان" في أفغانستان، المدرجة على "لائحة الإرهاب" الروسية، لكن ممثليها يزورون موسكو بحرية، ويتجولون بين مكاتب المسؤولين الروس. كما انسحب الأمر ذاته في وقت سابق، على تعامل موسكو مع جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر.
ويدخل هنا بطبيعة الحال ما يُمكن اعتباره "عنصر المناكفة" مع الغرب من جانب، ورغبة موسكو في إظهار تميّز مواقفها عن الولايات المتحدة والمجتمع الأوروبي في تحديد أنماط العلاقة مع اللاعبين في الملفات الإقليمية الساخنة.
لكن السؤال المطروح "لماذا قررت موسكو استضافة حماس في هذا التوقيت؟"، علماً بأن نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوجدانوف كان على اتصال مستمر مع قيادة الحركة، وأجرى قبل أيام معدودة، محادثات مستفيضة مع مسؤوليها في قطر، بمعنى أنه لم يكن هناك حاجة روسية للقيام باستعراض سياسي من هذا النوع؟
قد يكمن الجواب في أن الكرملين قرر أن يذهب خطوة إضافية نحو إظهار تميّز مواقفه عن الخطاب الغربي، وفي مواصلة التأكيد على أن سياسات موسكو يمكن أن تشكل "البديل الواقعي" عندما تقتنع السياسات الغربية بأنها "فشلت في إدارة المعركة وتحقيق أهدافها المعلنة"، وخصوصاً تقويض حركة "حماس".
ومن المهم الإشارة إلى أن البيان الروسي المعلن بشأن الزيارة توقف بشكل أساسي عند المسعى الروسي لإقناع "حماس" بإطلاق "كل الأسرى المدنيين" من جنسيات مختلفة، وليس فقط الرهائن الروس، لكن كيف ستكون ردة فعل المجتمعات الأوروبية إذا نجح فلاديمير بوتين في إعادة بعض المحتجزين المدنيين من حملة الجنسيات المختلفة؟
يشكل هذا المنحى، جانباً واحداً فقط من المعادلة التي تسعى موسكو إلى بلورتها.
فبعد الزيارة مباشرة، ظهرت تساؤلات إسرائيلية عبّر عنها بوضوح السفير الإسرائيلي لدى موسكو ألكسندر بن تسفي، بشأن عدم مسارعة روسيا بإبلاغ تل أبيب بمجريات الزيارة وماذا نتج عنها، وهو ما أظهر غضباً إسرائيلياً معلناً من الموقف الروسي، ومن ناحية أخرى، أظهر تعويلاً خفياً على قدرة موسكو في الضغط على "حماس".
ووجد هذا الأمر رداً من خلال تفعيل الحديث عن جهود وساطة محتملة، برزت من خلال إشارات دبلوماسيين ومحللين روس بأن بوجدانوف قد يتوجه قريباً إلى إسرائيل حاملاً "بعض الأفكار" التي تبلورت خلال المحادثات مع "حماس"، أو ربما اقتراحات محددة من جانب الحركة.
وإذا حدث ذلك ستكون موسكو دخلت مباشرة على خط الجهود التي تقودها قطر ومصر حالياً، ليس فقط في إطار مساعي الإفراج عن الرهائن، بل وفي مجال أوسع يتعلق بصفقة كاملة لتخفيف وتيرة الصراع الحالي.
ويشكك كثيرون في روسيا وإسرائيل في قدرة موسكو حالياً على لعب دور للوساطة، خصوصاً على خلفية المواجهة المتفاقمة مع الغرب، واتساع الهوة بين موسكو وتل أبيب، على خلفية مواقف إسرائيل من الحرب الأوكرانية، لكن هذا لا يمنع من وجهة النظر الروسية العمل على هذا المسار الذي "يعزز النفوذ الروسي، ويشكل مؤشراً إضافياً على فشل سياسة عزل موسكو".
فوائد روسية
ولا بد هنا من التوقف عند منطلقات الموقف الروسي حيال الحرب الجارية، وأسباب تبني موسكو مواقف وُصفت في إسرائيل بأنها "عدائية".
وعزا خبراء السبب الرئيسي في ذلك، إلى أن موسكو تستفيد حالياً من صرف الانتباه عن الحرب في أوكرانيا، ومن الارتباك الغربي الحاصل على صعيد توزيع الجهد في إمداد إسرائيل وأوكرانيا بالسلاح، والمعلومات الاستخباراتية، والموازنات المالية الكبرى.
وبعبارة أخرى، فإن بعض المجتمعات الغربية وخصوصاً في أوروبا، ستبدأ بطرح تساؤلات بشأن الجدوى من استمرار دعم أوكرانيا بالسلاح والمال، وهذا ما أظهره فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق بشأن الموضوع أخيراً.
كما أن تركيز العالم كله ينصبُّ على إسرائيل وقطاع غزة، ما يمنح روسيا حرية أوسع للتصرف، كما يقول الخبير نيكولاي كوزانوف، الذي يستشهد كمثال بتمكن موسكو من التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي، إذ اعتمد مجلس الدوما قانوناً بهذا الشأن مؤخراً.
وبالإضافة إلى ذلك، حصلت روسيا على فرصة لتنشيط دبلوماسيتها، والانفتاح بشكل أنشط على الأطراف الدولية ومنظمات المجتمع الدولي، ما يعني تقويض محاولات عزلها، وظهر هذا في النشاط المتزايد لموسكو في مجلس الأمن الدولي، وفي الاتصالات مع الأطراف المختلفة.
ورغم أنه من الصعب تصور أن تقبل إسرائيل بوساطة روسية في الحرب الجارية، إلا أن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة فوائد بسبب الوضع الحالي.
اتساع الهوة مع إسرائيل
تركيز بعض الخبراء على فكرة "الفوائد الروسية" من الصراع المتفاقم في الشرق الأوسط، لا يعكس وحده منطلقات الموقف الروسي من الصراع الحالي، إذ لا بد من ملاحظة "مستوى الانزلاق" الذي وصلت إليه العلاقة بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة، على خلفية المواقف الإسرائيلية من الحرب الأوكرانية.
وهنا يدخل عاملان رئيسيان على خط السجالات. أولهما، العلاقة الروسية الإيرانية التي وصلت إلى مستويات من التنسيق والتحالف، جعلت محللين إسرائيليين يتحدثون عن مواجهة "محور يضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وبلدان أخرى عديدة".
وثانيهما، يتعلق بتبلور رؤية روسية جديدة للتحالفات على خلفية الصراع المتفاقم مع الغرب، ما يعني أن موسكو بدأت تدريجياً تفقد اهتمامها بإقامة توازنات صعبة مثل تلك التي أقامتها منذ حلول قواتها العسكرية في سوريا.
ومن المهم التذكير بأن الانخراط الروسي المباشر في الحرب السورية عام 2015، دشّن مرحلة جديدة معقدة وشائكة للغاية في علاقات روسيا وإسرائيل، فمن جهة، واصلت أوساط روسية الرهان على تل أبيب "الصديقة" للعب دور مهم في تخفيف الضغوط الغربية وتقليص العقوبات.
ولكن من جهة أخرى باتت روسيا "جارة" لإسرائيل بعد ترسيخ وجودها على البحر الأبيض المتوسط، ونشر قواعدها العسكرية على أراضي سوريا، ما حمل رزمة من التعقيدات المتعلقة بالدرجة الأولى بالعلاقة الوثيقة بين موسكو وطهران، وبحقيقة أن روسيا باتت لديها مصالح مباشرة في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن تجاهلها عند أي تحرك سياسي أو عسكري.
وصحيح أن موسكو وتل أبيب نجحتا على مدى سنوات بفضل العلاقات الشخصية الوثيقة بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ترتيب تفاهمات تضمن مصالح الطرفين، كان عنوانها الأبرز أن تل أبيب لا تعرقل تحركات روسيا في المنطقة، في مقابل أن تغض موسكو الطرف عن خطوات إسرائيل الموجهة لحماية مصالحها ومتطلباتها الأمنية، على غرار الهجمات الجوية ضد مواقع في سوريا.
لكن العلاقات واجهت أكثر من مرة تحديات كبرى، من بينها تباين الرؤى الروسية والإسرائيلية بشأن التموضع الإيراني في سوريا، وسيناريوهات الحل النهائي للأزمة في هذا البلد.
كما أن دخول العلاقات في منعطف جديد بعد انفجار الحرب في أوكرانيا، أسفر عن أكبر وأعنف هزة في تاريخ العلاقات، خصوصاً مع ميل الجانب الإسرائيلي إلى توجيه انتقادات غير مسبوقة لموسكو، ترافقت مع تحرك عملي لدعم أوكرانيا تمثَّل في إمدادها ببعض شحنات الأسلحة المحدودة، ومساعدات إنسانية واسعة، وكذلك من خلال انتقال مئات المدربين ورجال الوحدات الخاصة الذين ساعدوا كييف، وفقاً لتقارير، في مواجهة هجمات الطائرات المسيرة، والتقنيات العسكرية الأخرى الروسية أو الإيرانية الصنع.
وفي تلك المرحلة بدا أن التوازن الدقيق الذي أقامته موسكو لسنوات في العلاقات بين تل أبيب من طرف وطهران من طرف آخر، تعرض لتصدع كبير.
التحالف الروسي الإيراني
شكّل تعزيز التحالف الروسي الإيراني أبرز تحد أمام محاولة إصلاح العلاقات مع إسرائيل. وقال خبراء روس إن إسرائيل وسعت نشاطها في إطار تزويد كييف بمعلومات استخباراتية لمكافحة الطائرات الإيرانية بدون طيار، وبدأت تدرس تزويدها بأنظمة صاروخية متطورة لمواجهة الهجمات الجوية.
وفي هذا الإطار، بدا أن إسرائيل تسعى إلى فحص تداعيات "التحالف الروسي الإيراني" من جانب، والعمل على توسيع نشاطها لفحص قدرات المسيرات الإيرانية المقدمة إلى روسيا، والأنظمة العسكرية الأخرى، التي قد يكون جزءاً كبير منها موجوداً أيضاً لدى "حزب الله" في لبنان.
ويشير خبراء إلى أن التحذيرات الروسية من خطر "الحرب الإقليمية" هو في الواقع تعبير مباشر عن مواقف مشتركة مع إيران، التي لا ترغب أيضاً بالانخراط في مواجهة واسعة وشاملة، لكنها قد تكون مضطرة لها إذا سارت إسرائيل نحو تقويض مراكز نفوذها الإقليمية.
ويفسر هذا في جانب منه، درجة الغضب الإسرائيلي تجاه روسيا، برغم أن الأخيرة لم تعلن رسمياً دعم مواقف "حماس".
وفي المحصلة، تندرج تلك العناصر في محددات روسيا لموقفها الحالي تجاه الصراع. كما أظهرت التطورات، وفقاً لخبراء، أنه لم يعد من الممكن النظر إلى أي إجراءات تتخذها روسيا في الشرق الأوسط بمعزل عن الحرب في أوكرانيا وعلاقات موسكو العسكرية مع طهران.
كيف يتطور الموقف الروسي؟
بناءً على ذلك، من الصعب توقُّع تراجع روسيا عن مواقفها المعلنة، ومن الناحية الجيوسياسية ترى موسكو أن المواجهة الكبرى الحالية مع المخاوف من اتساع رقعتها وتحولها كما حذر بوتين إلى "حرب إقليمية" تشكل فرصة مواتية لتعزيز التحركات الروسية على صعيد بلورة ملامح نظام دولي جديد دعت إليه مراراً موسكو وبكين.
وفي هذا الإطار يُنتظر أن تواصل موسكو نشاطها السابق في مجلس الأمن، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يهدف لتشكيل أوسع جبهة ممكنة معارضة للحرب، التي سيؤدي إيقافها من دون تحقيق هدف تغيير الخرائط في المنطقة، إلى إضعاف نفوذ وتأثير واشنطن الإقليمي من وجهة النظر الروسية.
وعلى صعيد متصل، رغم أن موسكو لن يكون بمقدورها تجديد الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، أو طرح مبادرات كبرى، لأنها لن تكون وسيطاً مقبولاً من جانب الغرب، إلا أنها ستكون قادرة على دعم مبادرات عدة قد تصدر من جهات مختلفة، مثل الدعوة الصينية لعقد مؤتمر للسلام.
كما أن بمقدور موسكو تحفيز مجموعات إقليمية عدة، من بينها المجموعة العربية لطرح آليات مختلفة عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن.
ومن المؤكد أن موسكو ترى في الحرب الجارية في غزة مؤشراً إلى اتساع المأزق الغربي في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفرصة لتجديد حضورها المؤثر في هذه الأزمات، وإن كانت ستشغل على الأرجح في هذه المرة، مقعداً يتموضع مباشرة خلف المقعد الصيني، وليس إلى جانبه.