أرقام الفقر في المملكة المتحدة تصعد إلى أعلى مستوى في 30 عاماً، هذا ما كشفت عنه تقديرات رسمية لمعدل الفقر، وأرجعته إلى أسباب عدّة أبرزها "غلاء المعيشة"، وارتفاع كلفة الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا منذ عامين.
وذكرت التقديرات الرسمية التي تقيس الفقر، وفق معايير ومحددات معينة وتميز بين الفقر المدقع والنسبي، أن عدد من يعيشون فقراً مدقعاً في البلاد وصل نهاية العام الماضي إلى 12 مليون شخص، بواقع زيادة 0.78 نقطة مقارنة بعام 2022.
وقالت الحكومة البريطانية، إن قوائم الفقراء كان يمكن أن تضم أكثر من ذلك بكثير، لولا برنامج الدعم الذي أطلقته لمساعدة الناس على تحمل فواتير الطاقة منذ 2022، فيما يرى مراقبون ومختصون أن الواقع ربما يكون أسوأ مما تبوح به الأرقام.
العنوان الأبرز في إحصائيات الفقر التي أصدرتها الحكومة، هو انضمام 300 ألف طفل جديد إلى فئة المعدمين خلال العام الماضي، ما يعادل الثلثين تقريباً من هؤلاء الأطفال ينتمون لعائلات فيها أحد الوالدين على الأقل لديه عملاً، ما يؤكد الحاجة لإعادة النظر في طبيعة المساعدات التي تقدمها الحكومة لأصحاب الدخل المحدود.
مقاييس الفقر وانتشاره
ويقاس الفقر في المملكة المتحدة على أساس القدرة الشرائية للفرد بعد اقتطاع تكاليف السكن، فالمرجعية الرسمية لأساسيات العيش التي يحتاجها المرء تعود إلى عام 2011، فمن استعصى عليه شراء 40% منها وفق الأسعار القديمة، وضعته الدولة على قوائم "الفقر المدقع"، أما من عجز عن تلك النسبة بأسعار اليوم فيصنف على أنه "فقير نسبياً".
وفق هذا التصنيف، بات 18% من سكان المملكة المتحدة عام 2023، يعيشون في "فقر مدقع"، وهذا الفقر هو ما يتطرق إليه رئيس الوزراء ريشي سوناك عندما يصف أداء حكومته.
وبحسب وزير العمل والتقاعد ميل سترايد، كان يمكن لأعداد المعدمين أن ترتفع أكثر لولا الدعم الذي تقدمه الدولة منذ 2022 لمساعدة الناس في تحمل فواتير الطاقة وكلفة المعيشة.
وأكد سترايد في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، أن حزمة الدعم التي تقدمها الحكومة من أجل تحمل كلفة المعيشة هي الأعلى في أوروبا، حيث تبلغ قيمتها بالمتوسط 3800 جنيه إسترليني لكل عائلة، وهذه الحزمة جنبت ما يربو عن 1.3 مليون شخص من الانضمام لقوائم الفقر بين عامي 2022 و2023، حسب قوله.
وأوضح سترايد أن أعداد الفقراء لم تأخذ بعين الاعتبار ما أقرته الحكومة العام الماضي من زيادة في المعاشات والمزايا لموظفي القطاع العام والمنتفعين من إعانات الدولة.
وتلك المزايا والزيادات دخلت حيز التنفيذ في 2024، وبالتالي توقع الوزير البريطاني أن تتقلص قوائم الفقر مع نهاية العام، و"خاصة إذا تحسن الاقتصاد الوطني على نحو ملحوظ".
كلفة المعيشة
والسبب الرئيسي في اتساع دائرة الفقر في المملكة المتحدة هو ارتفاع كلفة المعيشة، الذي بدأ مع صعود أسعار الطاقة بعد حرب أوكرانيا، وقرار الدول الأوروبية بوقف استيراد الغاز الروسي عقاباً لموسكو، فيما كانت جميع البدائل مكلفة للحكومات والشعوب في القارة العجوز، وما أصاب قطاع الطاقة انعكس أو امتد على أسعار كافة السلع والمنتجات.
وقالت الباحثة في الشؤون الاقتصادية إيفيت كليمنس، إن الحرب الأوكرانية كانت "القشة التي قصمت ظهر البعير"، لكن "اقتصاد المملكة المتحدة تعرض قبلها لضربات موجعة جداً نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي ووباء كورونا، لذا لم تستطع حكومة حزب المحافظين فعل الكثير لتجنيب السكان تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف العيش".
وأضافت الباحثة لـ"الشرق"، أن "وجود عوامل داخلية وخارجية عدة زادت من أعباء الاقتصاد البريطاني منذ 2022، ولا تتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا"، من بينها "أزمة حزب المحافظين الحاكم، والخصومة مع الصين، والفشل في إبرام اتفاقات تجارية مؤثرة بعد بريكست، ومشكلة الهجرة غير الشرعية، وتراجع إنتاجية قطاعات عدة".
ووفقاً لوزيرة التوظيف والضمان الاجتماعي في حكومة الظل العمالية أليسون ماكجفرن، فإن حكومات المحافظين المتعاقبة منذ 2010، تتحمل وحدها مسؤولية انتشار الفقر المدقع في الدولة، مشيرةً إلى أنها "ثبطت الاقتصاد الوطني، وغلّبت مصالح الأثرياء على حاجات محدودي الدخل، كما تجاهلت تآكل الأجور مقابل كلفة المعيشة بحجة التقشف".
ولفتت ماكجفرن لصحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، إلى أن حزب العمال يخطط حال وصوله للسلطة عبر الانتخابات العامة المقبلة، إلى محاصرة كافة أسباب الفقر في الدولة، كما يخطط لبناء مزيد من المنازل معقولة الأسعار والإيجارات، إضافة إلى خفض تكاليف المدارس، وتوفير وجبات مجانية للطلبة في التعليم الأساسي.
الأطفال أبرز الضحايا
ويتصدر عدد الأطفال في إحصائيات الفقر الجديدة، الاهتمام الإعلامي في المملكة المتحدة، فالأرقام تقول إن 300 ألف طفل انضموا إلى قوائم الفقر المدقع في العام الماضي وحده، فازداد الإجمالي إلى 3.6 مليون طفل لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء دون مساعدة بنوك الطعام، أو دعم الحكومة لعائلاتهم التي تعجز عن تلبية احتياجاتها.
وفي تقرير لموقع "فاونديشن رزليوشن"، توقع الخبير الاقتصادي آدم كورلت، ارتفاع عدد الأسر التي تعجز عن سد احتياجات أطفالها في المملكة المتحدة، من 75 ألف أسرة في عام 2017 إلى 750 ألفاً في 2035.
ولفت إلى أن الرواتب والمساعدات الحكومية لا تواكب التزايد في تكاليف الحياة بالنسبة للعائلات، وانعكاسه على الأطفال.
وقالت صحيفة "جادريان" البريطانية، إن حوالي 69% من الأطفال الفقراء في المملكة المتحدة ينتمون إلى عائلات يعمل فيها أحد الوالدين، كما أن 2.9 مليون طفل تقريباً يعيشون في كنف أسر يقل دخلها عن خط الفقر بنسبة 50%.
وفي ظل هذه الأرقام، تستنتج الصحيفة البريطانية أن 46% من عموم الأسر التي تضم 3 إلى 4 أولاد، تصنف كفقيرة.
ونقلت الصحيفة عن الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "مواجهة فقر الأطفال" أليسون جرانهام، قولها إن "أجندة الأحزاب في المنافسة خلال الانتخابات العامة المقبلة يجب أن تتمحور حول إنقاذ الأطفال الفقراء الذي تجاوز عددهم 4.3 مليوناً في المملكة المتحدة عام 2023"، وهذا يعني أن الأرقام المعلنة من الحكومة تختلف عن إحصائيات جهات أخرى.
ورأى بيتر ماجيتك، كبير المحللين في مؤسسة "جوزيف روانتري"، أن "واقع الفقر في البلاد أسوأ من الأرقام الحكومية، سواء بشكل عام أو في ما يخص الأطفال تحديداً".
وأشار روانتري لصحيفة "ذا ميرور"، إلى أن الحكومة البريطانية تعتمد مبدأ "المعالجات قصيرة الأجل" للمشكلات الاقتصادية، لذلك لا تفلح بوقف تمدد الفقر مع مرور الوقت.
من جهته، قال الخبير في مؤسسة "الاقتصادات الجديدة" سام تيمز، إن الحكومة يمكنها إنقاذ ملايين الأطفال من الفقر إذا زادت حجم حزمة الدعم الاجتماعي للعائلات، والمعروفة باسم "يونفيرسال كريدت".
ونوّه تيمز في حديث مع الصحيفة ذاتها، إلى أن ما يقدم في الحزمة لا يلبي احتياجات العائلات، وخاصة تلك التي يزيد عدد الأولاد فيها عن اثنين.
ولفتت مديرة السياسات في مركز "مؤسسة الغذاء" شونا جودي، إلى أن مستويات الدعم الحكومي الحالية غير كافية، وتزيد من مخاطر انعدام الأمن الغذائي في المملكة المتحدة، مشيرةً إلى أن الرهان على "بنوك الطعام" لإشباع الفقراء في الدولة غير واقعي، خاصة وأن هذه المؤسسات باتت تئن تحت ضغط الطلب المتصاعد على خدماتها.
وأضافت جودي في حديث مع إذاعة "lbc" المحلية، أن نحو 3 ملايين شخص من سكان المملكة المتحدة يعتمدون اليوم على "بنوك الطعام"، بالمقارنة مع 60 ألفاً فقط عام 2010.
واعتبرت أن ادّعاء حزب المحافظين بتقليص أعداد الفقراء في الدولة بعد توليهم للسلطة قبل نحو 14 عاماً، "يخالف الواقع، ولا يأخذ بعين الاعتبار ارتفاع كلفة المعيشة".
ووفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، تحتاج الحكومة البريطانية لإعادة النظر في برامج دعم العائلات، وفي سياسة ربط هذا الدعم بولدين كحد أقصى للأسرة الواحدة. منوهة في تصريحات نقلتها "فاينانشيال تايمز" عن رئيسها التنفيذي في المملكة المتحدة جون سباركس، إلى أن "كل الخطط التي تتجاهل رفع الدعم لن تؤدي إلى وضع حد للفقر في البلاد".