عندما اندلعت "الثورة" عام 2018 في السودان، لم يكن عمر عشاري يتخيل أنه سيكون يوماً ما لاجئاً في القاهرة، وأنه سيضطر إلى الفرار من الحرب المستعرة في بلاده منذ عام.
في ذلك الوقت، كان المحامي ابن الـ47 خلف القضبان، مثل العديد من المعارضين الذين اعتقلوا في عهد نظام عمر البشير الذي حكم البلاد 30 عاماً.
ومثل كل السجناء السياسيين، فرح عشاري بتلك الانتفاضة الشعبية التي أسقطت البشير في أبريل 2019، وقرر تحقيق حلم ظل يراوده سنوات طويلة هو أن يفتح مقهى ثقافياً، وبسرعة تحول المقهى الذي سماه "رتينة"، إلى ملتقى للأدباء والفنانين والناشطين يتداولون فيه بناء "سودان جديد".
لكن عندما اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو، "بدأ المكان يتآكل أمامي رويداً رويداً"، بحسب تعبير عشاري.
وعلى مدى أشهر بعد نشوب الحرب، وقبل أن يخرج من السودان، كان الشاب يذهب إلى مقهاه مستغلاً أي فترة هدوء في المعارك.
وقال لوكالة "فرانس برس": "كنت أضع كرسياً في وسط (رتينة) وسط ظلام دامس، بسبب انقطاع الكهرباء، واستغرب كيف تحول المقهى من مسرح حي للفنانين والموسيقيين والنشطاء السياسيين والمثقفين والأدباء، إلى مكان أسمع فيه من كل النواحي أصوات الرصاص وأصوات الراجمات.. شيء أشبه بالرواية".
وتابع: "تحول المقهى إلى زجاج متناثر في كل مكان بجانب شظايا الرصاص".
عام من الحرب أدى إلى سقوط آلاف الضحايا وانهيار "آلاف الأحلام"، بحسب عشاري الذي ودع ما تبقى من مقهاه مدركاً أن "الثورة سرقت".
كانت المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية التي أعقبت سقوط البشير، قد أوجدت في السودان "آمالاً وحماسة وجرأة" لدى الشباب، بحسب ما قالت لـ"فرانس برس" سارة سلمان التي كانت تعمل آنذاك في شركة استثمارية في الخرطوم، وانتقلت بعد الحرب إلى الولايات المتحدة.
وأوضحت أن الشركات الناشئة، "انتشرت في جميع أنحاء البلاد"، وكانت تتنافس في إبداع "حلول مبتكرة لتلبية الاحتياجات الحقيقية للسودانيين".
الشركة التي تعمل فيها سلمان تلقت وحدها عروض مشاريع من 50 شركة ناشئة تعمل في مجالات متنوعة من الخدمات الصحية عبر الإنترنت إلى الخدمات المالية.
ويتذكر عشاري أنه في ذلك الحين عندما قامت "الثورة، أحيت السودان، وأصبح البلد مختلفاً، وكان التفكير خارج الصندوق، في هذا الوقت كانت الآمال كبيرة أن السودان يوضع على المسار الصحيح كبلد نام منطلق تجاه الديمقراطية والحكم المدني والحرية".
مثل الكثير من السودانيات، ساهمت الخبيرة في الاتصالات رغدان أورسود (36 عاماً) في جهود التغيير.
شاركت الشابة، التي انتقلت بعد الحرب للإقامة في لندن، في تأسيس منصة رقمية للكشف عن الأخبار الكاذبة سميت "بيم ريبورتس"، إذ إنها كانت "مقتنعة بالدور الذي يمكن أن يؤديه الإعلام في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية"، وفق ما قالت لـ"فرانس برس".
بعد شهرين فقط من تأسيس المنصة، انهارت المرحلة الانتقالية عندما قام الجنرالان المتحاربان آنذاك، بـ"انقلاب" ضد الحكومة المدنية، وسيطرا معاً على السلطة، بحسب وكالة "فرانس برس".
وذكر عشاري، أنها "كانت مرحلة مؤلمة، وكان المتظاهرون يقتلون كل أسبوع" عندما يخرجون للمطالبة بعودة الحكم المدني.
احتراق رتينة
فجأة، استيقظ سكان الخرطوم في يوم سبت، بحدود نهاية رمضان على دوي المدافع، وأدركوا أن حرباً تدور في الشوارع.
غادر عدة ملايين من السودانيين العاصمة. واضطرت أورسود إلى ترك تجهيزات الصوت الجديدة والفرار من الخرطوم، وقالت: "كانت المعدات لا تزال داخل الصناديق" عندما استولت قوات الدعم السريع على البناية التي كانت تقيم وتعمل فيها.
وعندما كان عشاري يحاول إعادة ترتيب أموره في القاهرة، تلقى لقطات فيديو أظهرت نشوب حريق ضخم، وقال: "هكذا عرفت أن (مقهى) (رتينة) احترق".
العديد من السودانيين العاملين في الخارج استثمروا في بلادهم بعد الثورة، وأنفقوا مدخرات حياتهم في بناء منازل في الخرطوم، ولكنهم عجزوا عن أي فعل وهم يرون قوات الدعم السريع تسيطر على بيوتهم.
وقالت الطاهية المتخصصة في صنع الحلويات شيماء عدلان (29 عاماً)، إن والدها الذي يعمل في الرياض كان "يدعو الله أن تدمر قذيفة منزله بدلاً من أن يتحول إلى قاعدة لقوات الدعم السريع".
"السودان لنا"
عدلان التي كانت بدأت العمل متعهدة لتقديم الطعام، وجدت نفسها بعد الحرب في القاهرة، بعيداً من موطنها وبلا عمل.
ما زال الشباب السودانيون الذين كانوا يأملون في مستقبل واعد لبلادهم، وينظمون التظاهرات يحلمون بالديمقراطية.
أما من بقي منهم داخل السودان فقد باتوا يشرفون على شبكة المساعدات الإنسانية ويشكلون، وفق الأمم المتحدة "الخط الأول" لتلبية الاحتياجات الإنسانية الناجمة عن الحرب.
ورغم المنفى والألم، قال عشاري: "لا تزال هناك شعلة من الثورة موجودة في كل قلب"، فيما ذكرت أورسود، أن "السودان لنا، فماذا نفعل إن لم نواصل السعي لإعادة بنائه؟".