توقد الفلسطينية نعيمة عاشور، الحطب أسفل إناء تطهو فيه الفاصوليا المعلبة لعائلتها وعائلات أبنائها على ركام منزلها في وسط مدينة خان يونس المدمرة بقطاع غزة، وإلى جانبها أحفادها الذين يلعبون بين الركام والحجارة.
تنقل نعيمة (67 عاماً) يديها بين تقليب الفاصوليا وين تحريك الأرز في إناء آخر، وبينهما لا تتوقف عن تزويد الموقد بالحطب حتى لا تنطفئ النار وتنجح في إعداد وجبة الغداء مبكراً، بعدما فشلت كل محاولات أبنائها في الحصول غاز الطهي.
تنفخ نعيمة في الحطب ليزداد اشتعالاً، على أمل أن تتمكن من إعداد الطعام في الوقت المناسب لزوجها الذي يرتبط بتناول أنواع عديدة من أدوية أمراض مزمنة تنهش جسده منذ سنوات.
ترفع ملعقة خشبية إلى أعلى الإناء لتظهر حبات الفاصوليا البيضاء لتدلل على سوء الأطعمة التي تعدها كونها وفرتها من معلبات، وهي المعلبات التي ألفتها عائلتها منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتكثف الاعتماد عليها منذ بدء رحلة نزوحها في ديسمبر الماضي.
غير أن العودة للحياة في خان يونس المدمرة، لا تتعلق بسوء التغذية أو الطهي على النار فحسب، لكنها ترتبط كذلك بتفاصيل يومية قاسية تجعل حياة العائدين إلى المدينة لا تطاق، وهم يواجهون صعوبات جمة في توفير أدنى متطلبات حياتهم، فضلاً عن نومهم بين أكوام الركام والدمار.
وجع وغضب
تمتلئ كلمات نعيمة بالوجع والغضب معا، وهي تكابد مرارة الحياة القاسية بين الركام الممتد على طول نظرها بعدما عاشت الأشهر الستة السابقة في خيام مع عائلات أبنائها في رفح التي نزحت منها قبل شهر ونصف الشهر لتعود إلى مكان إقامتها الأصلي في خان يونس وقد وجدت بيتها وبيوت أبنائها أثراً بعد عين.
تتحدث نعيمة عن معاناة عائلتها اليومية في توفير مياه الشرب والمواد الغذائية، فضلاً عن البحث عن مصادر الطاقة البديلة لشحن بطاريات الإضاءة الخافتة والهواتف المحمولة، بالتوازي مع جمع الحطب من مزارع أشجار الحمضيات والزيتون المجرفة القريبة.
يضاف إلى هذا المعاناة اليومية من الذباب والبعوض الذي انتشر نتيجة تراكم أكوام القمامة وطفح الصرف الصحي، بالإضافة إلى الرمال والغبار الذي يغطي الأمتعة داخل الخيام التي تم إقامتها على ركام المنازل المهدمة.
توضح نعيمة، التي تملك 16 حفيداً، أن العودة إلى مكان سكنها السابق كان إجبارياً، لأن الجيش الإسرائيلي أجبرهم على النزوح من رفح، ولم يكن هناك سوى أي مكان ينزحون إليه سوى منازلهم المدمرة.
وبينما تؤكد الفلسطينية أنها كانت تدرك الصعوبات التي تنتظرها عند عودتها إلى بقايا مدينة منكوبة مثل خان يونس، فإنها لم تتوقع أن يكون الواقع "بهذا البؤس" في ظل التدمير شبه الكامل للمنازل والطرق وشبكات المياه والصرف الصحي والمزارع والمتاجر وكل مظاهر الحياة.
جحيم الخيام
وقالت نعيمة لوكالة أنباء العالم العربي AWP "انتقلنا من جحيم الخيام في رفح إلى ذات الجحيم والبؤس للخيام والركام معا في خان يونس، في رفح كنا نعيش بمنطقة كثبان رملية وهنا خيامنا على الركام وبين الدمار".
وأضافت بابتسامة تخفي خلفها حزناً عميقاً "لا شيء يوحي بالحياة هنا سوى أنني أري أبنائي وأحفادي يتنفسون وعلى أقدامهم، أما الحياة البشرية المعتادة فلا يوجد منها حتى أبسطها، نحن نعيش في العصور البدائية أو أشد سوءاً".
وتتعدد وجوه البؤس والمعاناة للعائدين إلى خان يونس، من صعوبة التنقل بين الشوارع والأحياء السكنية إلى شح الوقود والاعتماد بشكل رئيسي على أعداد محدودة من العربات التي تجرها الحيوانات في التنقل، وإغلاق المحال التجارية والأسواق وغياب المؤسسات التي تقدم الخدمات الأساسية.
ويقضي العائدون إلى خان يونس نهارهم في توفير احتياجاتهم خصوصا من المياه التي لم تصل إلى معظم مناطق المدينة، إذ يتم الاعتماد على المياه الجوفية التي تنقل في جالونات.
تعطل إمدادات المياه
وبينما أعلنت بلدية خان يونس، الأحد، تعطل خط المياه الرئيسي القادم من الجانب الإسرائيلي، مما أدى إلى توقف ضح المياه بشكل كامل، فإنها بدأت في فتح وتوسعة شارع البحر لتسهيل حركة المركبات والمواطنين.
بيد أن هذه الجهود تبقى محدودة للغاية أمام حجم الدمار في معظم أحياء المدينة، بجانب قلة الآليات وشح الوقود والمطالبات المستمرة للعائدين إلى خان يونس بتوفير متطلبات الحياة الأساسية.
الفلسطيني أشرف عاطف، كاد أن يفقد عينه خلال فصله بين مجموعة من الشبان الذين تعاركوا على دورهم في تعبئة جالونات المياه من برميل كبير في أحد أحياء المدينة، وقضى نحو أسبوعين في مستشفى غزة الأوروبي في جنوب خان يونس قبل عودته إلى عريشته المقامة في ساحة مجاورة لمنزله المدمر.
عاطف الأب لستة أبناء، آثر العودة إلى الحي المدمر رغم إدراكه للصعوبات التي سيواجهها في الحياة اليومية، لكن الحنين إلى مسقط رأسه ورغبته في البقاء حتى بجوار ركام منزله المدمر كان دافعه الأساسي.
وقال عاطف (46 عاماً) وملامح الحزن تسيطر على محياه "لك أن تتخيل أن الدمار على مدى العين والركام أسفل منك وحولك، وأنت تسكن في عريشة تغطيها أقمشة مهترئة وكل هذا مع غياب أي أفق للتغيير".
وأضاف: "بالتأكيد نحمد الله أننا ما زلنا نحافظ على عقولنا، وإلا فالواقع يدعو إلى الجنون ولا يمكن لبشر عاديين احتماله، إنها إرادة الله التي تمدنا بهذا الصبر والجلد".
وكان الجيش الإسرائيلي قد وسع المنطقة الآمنة في خان يونس قبل اجتياحه رفح في مطلع الشهر الماضي لتشمل مركز المدينة وصولاً إلى طريق صلاح الدين إلى جانب منطقة المواصي غرب المدينة المصنفة سابقاً بأنها منطقة آمنة.