
كانت جين غريفز تعمل على التقارير الواردة من تلسكوب "جيمس كلارك ماكسويل"، حين لاحظت شذوذاً في بيانات أحدها، إذ أشارت معلومة إلى وجود غاز نادرٍ كان العلماء يظنون أن من المستحيل إيجاده في كوكب "الزهرة". ويُشير التقرير بشكل شديد الوضوح إلى وجود غاز "الفوسفين" في الغلاف الجوي للكوكب الصخري.
وتقول غريفز في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، إن ذلك الاكتشاف كان بمثابة "صدمة هائلة"، مستطردةً: "لم أصدق نفسي حين رأيت تلك البيانات".
الجُزيء الغريب
وقالت دراسة علمية نُشرت نتائجها في دورية "نيتشر استرونومي"، إن فريقاً دولياً من العلماء اكتشف "بصمة حيوية" في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة.
وبحسب ما ورد في الدراسة، عثر العلماء على "الفوسفين" في الغلاف الجوي لأكثر الكواكب لمعاناً في سماء الأرض. وهو جزيء "حيوي" بسيط، لا يُمكن إنتاجه على سطح كوكب الأرض إلا عن طريق البكتيريا أو من خلال العمليات الصناعية.
ولم يكتشف العلماء قط، وجود هذا الجزيء في أيّ غلاف جوي لأي كوكب "صخري" داخل مجموعتنا الشمسية أو خارجها، باستثناء كوكب الأرض.. ومؤخراً الزهرة.
ولا يُمكن ربط وجود "الفوسفين" في الغلاف الجوي للزهرة بعلاقة سببية مباشرة تشير إلى وجود حياة سابقة أو حالية على سطح الكوكب. لكن، يُعد ذلك الاكتشاف مثيراً للاهتمام؛ كونها المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف وجود ذلك الجزيء خارج كوكب الأرض.
ولا يعرف الباحثون حتى الآن تفسيراً "غير بيولوجي" للوفرة العالية نسبياً للجزيء في الغلاف الجوي للزهرة.
بداية القصة
تساعد عملية قياس الغازات في الغلاف الجوي للكواكب على استكشاف الظروف الكيميائية المختلفة التي يخضع لها كوكب الزهرة؛ التي تختلف بشكل قاطع عن كوكب الأرض.
ومنذ عقود، اتجه الباحثون لدراسة الغلاف الجوي لكوكب الزهرة في محاولة لتوفير معلومات عن أقرب جيران الأرض؛ وذلك للإجابة عن السؤال الذي حيّر العلماء منذ الأزل: كيف ولماذا نشأت الحياة على كوكب الأرض؟
وتكشف أيضاً دراسة الغلاف الجوي للكواكب الصخرية أدلة عن كيفية تفاعل المواد الكيميائية الموجودة في ذلك الغلاف مع سطح الكوكب؛ وما تحت سطحه أيضاً. كما يُمكن أيضاً أن تكشف عن وجود مركبات قد تعكس وجود الحياة.
واستخدم الباحثون في الدارسة تلسكوب "جيمس كلارك ماكسويل" في هاواي، ومصفوفة "أتاكاما" في تشيلي، للبحث عن مواد نادرة في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة، ليجدوا مفاجأة، بعد أن اكتشفوا جزيئات لغاز "الفوسفين" في الغلاف الجوي، بتركيز كبير نسبياً يبلغ 20 جزيئاً لكل مليار.
وقالت الباحثة في علوم الفلك بجامعة "كارديف" البريطانية جين غريفز، وهي المؤلفة الأولى لتلك الدراسة، في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، إن اكتشاف وجود "الفوسفين" في الغلاف الجوي للزهرة كان بمثابة "صدمة هائلة".
تهتم غريفز بعمليات تشكيل الكواكب حول النجوم الشابة. وطيلة السنوات الماضية قامت الباحثة بمراقبة الأقمار الجليدية لكوكب المشتري، وأقمار زُحل. علاوةً على استكشاف الكوكب القزم "بلوتو".
وتقول إنها لطالما تصورت أن أنظمة أقمار المشتري وزُحل "قد تحوي حياة ما". إلا أنها لم تتصور مُطلقاً أن يتواجد في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة جزيء حيوي، على حد تعبيرها.
"لم أصدق نفسي وأنا أنظر في نتائج التحليل الطيفي لغازات الزهرة. وطلبت من الفريق استخدام نظام رصد آخر لتأكيد الأمر.. ووقع اختيارنا على مصفوفة أتاكاما الكبيرة"، تقول غريفز في تصريحاتها لـ"الشرق".
وحين تأكد وجود "الفوسفين" في الغلاف الجوي للزهرة، بدأ الفريق البحثي بدراسة الاحتمالات للوقوف على سبب وجوده. لكنهم لم يتوصلوا قط للسبب "حتى الآن"، على حد تعبير العالمة.
غياب الفوسفين
الفوسفين، المعروف علمياً تحت اسم "فوسفيد الهيدروجين"، هو غاز سام كريه الرائحة عديم اللون، بتركيز سموم شديد يستخدم في صنع الأسلحة الكيماوية.
ويتكون الجزيء، الذي يأخذ شكل هرم، من ذرة فوسفور واحدة في قمة الهرم، فيما تشكل قاعدته ثلاث ذرات من الهيدروجين.
ولا يُمكن أن يتكون ذلك الغاز بشكل طبيعي في الغلاف الجوي أو التربة. فذرات الهيدروجين الثلاث تجعل الجزيء غير مستقر، وتنفصل في الغالب عن ذرة الفوسفور الوحيدة، لترتبط بذرات أخرى أكثر استقراراً وثباتاً.
لذا، يُمكن أن يتواجد الفوسفين بطريقتين فقط: إما عن طريق إطلاقه من خلال العمليات الحيوية الأيضية، أو من خلال العمليات الصناعية.
لكن، يُمكن أن يتواجد ذلك الجزيء في الكواكب التي تحظى بظروف بيئية شديدة التعقيد، من قبيل العمالقة الغازية.
وتتواجد في مجموعتنا الشمسية أربعة كواكب غازية، هي المشتري وزحل وأورانوس ونبتون. واكتشف العلماء سابقاً وجود "الفوسفين" في الغلاف الجوي للمشتري وزحل، وهي كواكب "غازية" يتكون لُبها من الهيدروجين والهيليوم وغازات أخرى.
وفي كلا الكوكبين يُمكن أن تتسبب قوى الجاذبية الخارقة، في تكوين الفوسفين بصورة طبيعية والاحتفاظ به كمركب مستقر في الغلاف الجوي.
وبالمقابل يتم إنتاج الغاز في الغلاف الجوي العميق لكوكبي المشتري وزُحل عند درجات حرارة وضغوط هائلة؛ ثم يتم تجريفه إلى أعلى بواسطة الحمل الحراري، وهي عملية يتم فيها نقل الحرارة بواسطة الغاز عن طريق انتقال الغاز الأسخن من مكان لآخر، ليحل محله غاز يتمتع بدرجات حرارة أقل من الغاز أو المائع الأول.
لكن، ماذا عن الزهرة؟
الزهرة كالأرض؛ كوكب صخري، أي أن نواته مكونة من الصخور والمعادن. وحسب ما نعرفه حالياً؛ لا يُمكن أن تخلق قوى الجاذبية الضعيفة ذلك الغاز. فرغم الارتفاع الهائل في درجات حرارة ذلك الكوكب؛ لا يعاني غلافه الجوي من ظروف بيئية متطرفة كتلك المتواجدة على سطح المشتري أو زُحل.
فالكوكب الذي يحل ثانياً في ترتيب كواكب المجموعة بُعداً عن الشمس، له غلاف جوي يتميز بارتفاع مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون، ودرجات حرارة سطح تزيد على 420 درجة مئوية. كما أن الغلاف الجوي الكثيف للكوكب يُمارس ضغطاً يزيد على 93 بار، على أي شيء على السطح. وهو أكثر من 90 ضعف الضغط الجوي على كوكب الأرض.
وتظل درجات الحرارة، رغم ارتفاعها، "معتدلة"، وكذلك الضغط ومستويات الإشعاع الشمسي. وفي المجمل، وطبقاً أيضاً لمعلوماتنا الحالية، لا يُمكن أن يتكون هذا الغاز في بيئة كوكب الزهرة من تلقاء نفسه.
البحث عن تفسير
وفكر الباحثون، الذين أعدوا الدراسة، في العديد من التفسيرات، تقول المؤلفة المُشاركة في تلك الدراسة هيلين فريزر، المتخصصة في فيزياء الكواكب، في تصريحات لـ"الشرق".
وأوضحت أن الفريق بحث العديد من السيناريوهات على مدار العامين السابقين، بما في ذلك التأثيرات الداخلية كدرجات الحرارة العالية لسطح الكوكب؛ وتفاعل مواده مع بعضها والبراكين؛ والتأثيرات الخارجية القادمة من الفضاء كاصطدام النيازك بسطح الزهرة.
وأشارت إلى "أننا لم نصل إلى شيء، كل البيانات والمعلومات المعروفة عن كوكب الزهرة تشير إلى صعوبة تكوّن ذلك الغاز بشكل تلقائي في الغلاف الجوي للزهرة".
لكن غياب سبب معروف غير بيولوجي لوجود "الفوسفين" لا يعني بالضرورة وجود سبب بيولوجي أو حيوي، تقول فريزر بوضوح شديد، لافتةً إلى أن الادعاء بوجود حياة حالية أو سابقة على كوكب الزهرة "أمر يستلزم دليلاً كبيراً للغاية، لا نملكه في الوقت الحالي".
حياة ما بين المريخ والزهرة
طيلة القرون الماضية جذب الكوكب الأحمر (المريخ) الأنظار في ما يتعلق باحتمالية وجود حياة على سطحه.
ومنذ عدة سنوات، اكتشف العلماء وجود مياه على ذلك الكوكب؛ كما اكتشفوا أيضاً وجود غاز "الميثان". وهي أمور عززت من الأبحاث العلمية الهادفة للبحث عن أثر للحياة خارج الأرض.
لكن يبدو أن الكواكب الأخرى تحتاج إلى نظرة جديدة. فوجود "الميثان" في الغلاف الجوي للمريخ أمر مهم بطبيعة الحال؛ لكن له العديد من التفسيرات غير البيولوجية. على عكس وجود "الفوسفين" في غلاف "الزهرة"، فذلك الغاز لا يُمكن أن ينتجه الكوكب من تلقاء نفسه.
وتقول سوزا سيلفا المؤلفة المشاركة في الدراسة في تصريحات نقلتها وسائل إعلام دولية، إنها أمضت سنوات في دراسة "الفوسفين" كإشارة حيوية محتملة في الأغلفة الجوية للكواكب الخارجية كتلك الكواكب التي تدور حول النجوم البعيدة، لكنها لم تفكر في البحث عن "الفوسفين" داخل نظامنا الشمسي.
وتشير إلى أن ادعاء وجود حياة خارج كوكب الأرض "أمر كبير، ويحتاج لمزيد من التحقيق"، إلا أن الوجهة المثالية لبحث فرضية بذلك الحجم "أصبحت الزهرة لا المريخ".