جون كلارك.. عالم بريطاني كرّس حياته لدراسة ظواهر ميكانيكا الكم

time reading iconدقائق القراءة - 8
الفيزيائي البريطاني جون كلارك الفائز بجائزة نوبل للفيزياء 2025 - nobelprize
الفيزيائي البريطاني جون كلارك الفائز بجائزة نوبل للفيزياء 2025 - nobelprize
القاهرة -محمد منصور

بعد أكثر من أربعة عقود من العمل الدؤوب في أعماق ميكانيكا الكم، وقف الفيزيائي البريطاني جون كلارك أمام لحظة محورية في مسيرته العملية، بعد إعلان الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، منحه جائزة نوبل في الفيزياء، مناصفة مع زميليه جون مارتينيس (أميركي) وميشيل ديفوري (فرنسي) لاكتشافهم "النفق الكمي الماكروسكوبي وتكميم الطاقة في الدوائر الكهربائية"، وهي عبارة علمية تختصر ثورة حقيقية في طريقة فهم العالم الكمي.

في أول مقابلة له بعد إعلان فوزه بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025، بدا جون كلارك مذهولاً، وقال بابتسامة مترددة: "ما زلت مصدوماً وسعيداً للغاية"، مشيداً باختيار زميليه جون مارتينيس، وميشيل ديفوريت، "اللذان كانا جزءاً لا يتجزأ من كل ما أنجزناه، واللجنة كانت تدرك ذلك تماماً".

تعود قصة هذا الإنجاز إلى نحو أربعين عاماً مضت، حين كان كلارك يدير مختبراً في جامعة كاليفورنيا-بيركلي، وكان ميشيل ديفوريت يعمل باحثاً بعد الدكتوراه، بينما كان جون مارتينيس طالباً يحضر لشهادة الدكتوراه.

يستعيد كلارك تلك الأيام قائلاً: "كنت أشعر بامتياز كبير لأنني أعمل مع أشخاص بهذه العبقرية، قضينا أياماً طويلة في النقاش والتجريب ومحاولة فهم الظواهر الجديدة.. استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تمكنّا من ترتيب الأمور وفهم ما كنا نراه".

نشأ كلارك البالغ من العمر 83 عاماً، في بيئة أكاديمية جعلت الفيزياء خياراً طبيعياً له، حيث واصل دراساته العليا بعد البكالوريوس في مختبر الجمعية الملكية "موند" تحت إشراف الفيزيائي الشهير براين بيبارد، الذي أثر فيه بعمق علمياً وإنسانياً. وابتكر كلارك هناك جهازاً لقياس "الفولتية الصغيرة" (لضمان السلامة الكهربائية)، وهو إنجاز مبكر كشف عن شغفه الدائم بالقياس الدقيق، والظواهر فائقة الحساسية.

وفي عام 1965، أصبح كلارك أحد أوائل طلاب كلية داروين، بل وكان أول رئيس لاتحاد طلابها. ونال درجة الدكتوراه في عام 1968، ثم غادر إلى جامعة كاليفورنيا–بيركلي كباحث ما بعد الدكتوراه، ليبدأ رحلة مهنية امتدت لأكثر من نصف قرن، في واحدة من أعرق جامعات العالم.

ظواهر ميكانيكا الكم

في جامعة كاليفورنيا–بيركلي، تدرج كلارك سريعاً من أستاذ مساعد في عام 1969، إلى أستاذ في عام 1973، ليصبح أحد أعمدة الفيزياء التجريبية هناك.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، شكّل فريقاً بحثياً صغيراً، لكنه كان بالغ التأثير، ضم الباحث الفرنسي ميشيل ديفوري، وطالب الدكتوراه الأميركي جون مارتينيس.

وفي مختبرهم الصغير، حدثت النقلة الكبرى، بعد إثباتهم أن ظواهر ميكانيكا الكم التي كان يُعتقد أنها لا تحدث إلا داخل الذرات والجزيئات، يمكن أن تظهر على مستوى دوائر كهربائية مرئية بالعين المجردة.

وباكتشافهم لظاهرة "النفق الكمي الماكروسكوبي وتكميم الطاقة في الدوائر الكهربائية"، مهّد العلماء الثلاثة الطريق للحوسبة الكمية الحديثة.

لقد برهنوا أن الإلكترونات في دوائر فائقة التوصيل يمكنها الانتقال بين حالتين للطاقة دون المرور بالمسار الكلاسيكي بينهما، وأن الطاقة في تلك الدوائر تتكمم، أي تأخذ قيماً منفصلة لا مستمرة. 

تمكن كلارك ومارتينيس وديفوري، من إثبات أن القوانين الكمية لا تتوقف عند حدود الميكروسكوب، بل يمكن إخضاعها في دوائر إلكترونية تصمم هندسياً، وهو المفهوم الذي مهد الطريق لاحقاً إلى الحوسبة الكمية.

ويتحدث كلارك باعتزاز عن علاقاته العلمية الأولى في كامبريدج مع زميله براين جوزيفسون، الحاصل على نوبل في عام 1973 لاكتشافه "تأثير جوزيفسون" الشهير، والذي ألهم جزءاً كبيراً من عمل كلارك لاحقاً.

ففي عام 1985، نشر الثلاثي نتائجهم التي أظهرت لأول مرة أن "وصلة جوزيفسون" Josephson Junction، يمكن أن تُظهر سلوكاً كمياً على مستوى يمكن قياسه، أي أن الإلكترونات لا تخضع للقوانين الكلاسيكية حتى داخل دائرة كهربائية.

و"وصلة جوزيفون" أو "تأثير جوزيفون"، هي دائرة كهربائية تتكون من مادتين فائقتي التوصيل يفصل بينهما حاجز رقيق من مادة عازلة، يسمح بمرور تيار كمّي عبر ظاهرة "النفق الكمّي"، حتى في غياب فرق جهد كهربائي بين الطرفين.

طوال مسيرته، جمع كلارك بين البحث والتدريس، ونال في عام 1983 جائزة التميز في التدريس من جامعة كاليفورنيا. كما اختير زميلاً لعدد من المؤسسات العلمية الكبرى مثل الجمعية الملكية البريطانية، والجمعية الأميركية الفيزيائية، والجمعية الأميركية لتقدم العلوم، ومعهد الفيزياء البريطاني.

ومن أبرز الجوائز التي حصل عليها جون كلارك خلال مسيرته العلمية، Sloan Research Fellowship في عام 1970، وهي جائزة تمنح للعلماء الشباب الواعدين في مجالات البحث العلمي.

كما نال Guggenheim Fellowship في عام 1977، تقديراً لإبداعه في تطوير أدوات القياس فائقة الحساسية. وفي عام 1987، نال جائزة "فريتز لندن للفيزياء منخفضة الحرارة"، اعترافاً بمساهماته الرائدة في دراسة الظواهر الكمية عند درجات الحرارة القريبة من الصفر المطلق. 

وبعد عقد من ذلك، حصل على جائزة "جوزيف كيثلي" لقياس العلم من الجمعية الأميركية للفيزياء  في عام 1998، تلتها جائزة كومستوك في الفيزياء من الأكاديمية الوطنية الأميركية في عام 1999، ثم ميدالية هيوز من الجمعية الملكية البريطانية في عام 2004، وهي من أرفع الجوائز التي تُمنح للإنجازات البارزة في الفيزياء. 

وفي عام 2021، توجت مسيرته الحديثة بـ "جائزة ميكيوس" الكمية تقديراً لإسهاماته في ترسيخ أسس الحوسبة الكمية. كما انتخب عضواً أجنبياً في الأكاديمية الوطنية للعلوم الأميركية عام 2012، وعضواً في الجمعية الفلسفية الأميركية عام 2017، في اعتراف دولي بمكانته بين أبرز علماء الفيزياء في عصره.

المواد فائقة التوصيل

تركزت أبحاث جون كلارك على المواد فائقة التوصيل، خصوصاً في تطوير أجهزة التداخل الكمي فائقة التوصيل، وهي مجسّات شديدة الحساسية تستطيع رصد أضعف المجالات المغناطيسية التي لا يمكن لأي جهاز تقليدي قياسها.

وأحدثت هذه الأجهزة ثورة في تطبيقات الرنين المغناطيسي منخفض التردد، والتصوير بالرنين المغناطيسي في الحقول الضعيفة للغاية، لتفتح آفاقاً جديدة في الطب التشخيصي والفيزياء الحيوية.

وفي السنوات الأخيرة، اتجه كلارك إلى مشروعات أكثر طموحاً، منها استخدام أجهزة SQUID (جهاز التداخل الكمّي فائق التوصيل لقياس المجالات المغناطيسية الصغيرة جداً) في البحث عن "جسيم الأكسيون" Axion.

و "الأكسيون" هو جسيم افتراضي يتمتع بصفات تجعله مرشحاً قوياً ليكون أحد مكونات المادة المظلمة، التي تشكّل معظم كتلة الكون. 

وعن اللحظة التي أدركوا فيها أنهم أثبتوا ظاهرة "النفق الكمي الماكروسكوبي وتكميم الطاقة في الدوائر الكهربائية"، يقول كلارك: "كنا ندرك إلى حد ما أهمية ما أنجزناه، فقد طُلب منا إلقاء محاضرات في مؤتمرات علمية كبرى، لكن لم يخطر ببالنا إطلاقاً أن يظل تأثير هذا العمل مستمراً لأربعين عاماً".

وينظر إلى جون كلارك باعتباره أحد الآباء المؤسسين لـ"فيزياء الظواهر الكمومية الماكروسكوبية" التي تدرس الظواهر الكمية، وكجسر بين عالم الذرات وعالم الدوائر الإلكترونية المرئية.

وحوّل مع زميليه ديفوري ومارتينيس، ما كان لغزاً فلسفياً، إلى هندسة يمكن التعامل معها، ممهدين الطريق أمام  الحاسوب الكمي، الذي يعد  مستقبل التكنولوجيا الحديثة.

والحاسوب الكمي هو نوع جديد من الحواسيب يستخدم قوانين "ميكانيكا الكم"، وهي القوانين التي تشرح كيف تتصرف الجسيمات الصغيرة جداً، مثل الإلكترونات والذرات.

تصنيفات

قصص قد تهمك