دراسة: "شيطان البحر" يغوص لأعماق غير مسبوقة لبناء خرائط ذهنية

time reading iconدقائق القراءة - 12
سمكة شيطان البحر العملاقة المعروفة علمياً باسم المانتا المحيطية. 19 أبريل 2020 - X@AMNH
سمكة شيطان البحر العملاقة المعروفة علمياً باسم المانتا المحيطية. 19 أبريل 2020 - X@AMNH
القاهرة -محمد منصور

أفادت دراسة حديثة بأن أسماك "شيطان البحر" العملاقة، المعروفة علمياً باسم "المانتا المحيطية"، قد تغوص إلى أعماق غير مسبوقة تصل إلى أكثر من 1200 متر تحت سطح البحر في سلوك يبدو أنه يساعدها على بناء خرائط ذهنية للمحيط الشاسع الذي تعيش فيه.

وأشارت الدراسة التي نُشرت في مجلة Frontiers in Marine Science، إلى أن هذه الكائنات البحرية العملاقة تمارس هذا السلوك بعيداً عن السواحل، في محاولة لفهم بيئتها والتنقل بدقة داخل المساحات المائية المفتوحة.

وأوضح فريق الباحثين الدولي الذي عمل في كل من بيرو وإندونيسيا ونيوزيلندا، أن مرات الغوص العميق غير المسبوقة تمثّل قفزة معرفية في فهم سلوك هذا النوع من الأسماك الذي يُعد الأكبر بين جميع أنواع أسماك الراي (Rays).

وقاد البحث كالفن بيل الذي أكمل دراسته للدكتوراه في جامعة مردوخ الأسترالية، حيث أكد أن الغوص العميق يرتبط بزيادة واضحة في حركة المانتا الأفقية بعد الرحلات العمودية إلى الأعماق، وهو ما يرجح أن تلك السلوكيات تؤدي دوراً مهما في مساعدتها على التعرف إلى الإشارات البيئية اللازمة للملاحة في عرض المحيط.

"وسم إلكتروني"

ونفّذ الباحثون عملية وسم إلكتروني لـ24 سمكة من أسماك "المانتا" في 3 مناطق متباعدة جغرافياً، "راجا أمبات" في شرق إندونيسيا، و"تومبيس" قبالة الساحل الشمالي لبيرو، و"وانجاروا" في شمال نيوزيلندا.

وجرى تتبع سلوك الغوص لهذه الكائنات بين عامَي 2012 و2022، ما أتاح قاعدة بيانات طويلة المدى عن أنماطها وسلوكياتها.

واستعاد الفريق 8 أجهزة من تلك التي كانت مبرمجة للتحرر بعد عدة أشهر والطفو إلى السطح، بينما أرسلت الأجهزة الأخرى بياناتها عبر الأقمار الاصطناعية.

وواجه الباحثون صعوبات كبيرة في استعادة الأجهزة الطافية، إذ وصف بيل العملية بأنها "بحث عن إبرة في كومة قش"، نظراً لصغر حجم الأجهزة ولونها الرمادي الذي يجعلها شبه غير مرئية وسط الأمواج والحطام البحري.

ومع ذلك تمكَّن الفريق من تحميل بيانات دقيقة عالية التردد سجلت كل 15 ثانية من الأجهزة المستعادة، بينما أرسلت الأجهزة الأخرى ملخصات بيانات عامة عبر الأقمار الاصطناعية، ما أتاح للباحثين تكوين صورة شبه كاملة عن سلوك الغوص لدى هذه الأسماك في البيئات المختلفة.

وجمع الفريق ما مجموعه 2705 أيام من بيانات الوسم، سجل خلالها 79 يوماً من مرات الغوص العميق الاستثنائي التي بلغت في أقصاها 1250 متراً.

ولوحظ أن 71 من مرات الغوص العميق وقعت في المياه النيوزيلندية تحديداً، ما يشير إلى ارتباط هذا السلوك بالبيئات البحرية العميقة.

وأظهرت البيانات أن "المانتا" في نيوزيلندا كانت تبدأ عادة أول غوص عميق في غضون يوم واحد بعد مغادرتها الرف القاري ودخولها المياه السحيقة، وأن هذه المرات كانت تتم بشكل متدرج مع توقفات متقطعة ونادراً ما تمضي الأسماك وقتاً طويلاً في القاع.

واستبعد الباحثون أن يكون هذا الغوص بهدف البحث عن الطعام أو الهروب من المفترسات، إذ أن بعض هذه الكائنات المفترسة قادرة على الغوص إلى أعماق مماثلة.

ورجّح الفريق أن "المانتا" تستخدم إشارات طبيعية مثل تغيرات المجال المغناطيسي للأرض، أو التفاوت في مستويات الأكسجين ودرجات الحرارة، أو حتى شدة الإضاءة، كمؤشرات تساعدها في تحديد مواقعها في المحيط.

المانتا العملاقة

  •  المانتا نوع من أسماك الشِفنين العملاقة (من فصيلة الراي)، وتُعرف أيضاً باسم شيطان البحر بسبب شكلها المثلث وزعانفها التي تبدو كأجنحة تطير بها تحت الماء.
  • يمكن أن يصل عرض جناحي المانتا إلى أكثر من 7 أمتار، ويصل وزنها أحياناً إلى 1500 كيلوجرام، ما يجعلها أكبر أنواع الشفانين في العالم.
  • تتحرك المانتا في الماء بحركات انسيابية تشبه الطيران، مستخدمة زعانفها الصدرية الضخمة كأجنحة تدفعها برشاقة مذهلة.
  • تتغذى على العوالق والكائنات الصغيرة، حيث تفتح فمها الواسع أثناء السباحة لتصفي الماء من خلال خياشيمها باستخدام صفائح دقيقة تُعرف باسم "المرشحات الخيشومية".
  • تتميز المانتا بذكاء عالٍ، فقد أظهرت الدراسات قدرتها على تمييز نفسها في المرآة، وهو سلوك نادر في الحيوانات البحرية.
  • تمتلك دماغاً كبيراً نسبياً مقارنة بحجم جسمها، ما يمنحها قدرات إدراكية واجتماعية متقدمة.
  • لا تمتلك المانتا شوكة سامة كما في بعض أنواع الشفانين الأخرى، وهي غير مؤذية تماماً للبشر.
  • تقضي المانتا وقتاً في محطات تنظيف تحت الماء، حيث تتوقف لتسمح لأسماك صغيرة بتنظيف جلدها من الطفيليات.
  • يمكن للمانتا القفز عالياً خارج الماء في عرض مثير، ويُعتقد أن هذا السلوك قد يكون للتواصل أو التخلص من الطفيليات أو للعب فقط.
  • تتكاثر المانتا بطريقة ولودية، أي أن الأنثى تلد صغاراً أحياء بعد حمل يدوم نحو سنة تقريباً.
  • تُعد المانتا من الأنواع المهددة بالانقراض، إذ تتعرض للصيد الجائر بسبب استخدام خياشيمها في الطب التقليدي الآسيوي.
  • تعيش المانتا في المياه الاستوائية وشبه الاستوائية حول العالم، وغالباً ما تُشاهد قرب الجزر المرجانية والمناطق الغنية بالعوالق.
  • تسهم المانتا بدور بيئي مهم في الحفاظ على توازن النظم البحرية لأنها تساعد في تدوير العناصر الغذائية عبر حركتها الواسعة في المحيطات.

وأوضح كالفن بيل أن المانتا قد "تغوص لتأخذ عينات من هذه الإشارات كي ترسم خريطة ذهنية تعينها على التنقل في المساحات الواسعة الخالية من المعالم البصرية"، مشيراً إلى أن "الأعماق الكبيرة أكثر استقراراً من حيث البيئة الفيزيائية مقارنة بسطح البحر، وهو ما يجعلها مصدراً موثوقاً للإشارات الملاحية".

"معلومات ملاحية"

وأنهت المانتا مرات الغوص العميق بعملية صعود تدريجية إلى السطح تلاها فترات طويلة من التعافي على السطح، وغالباً ما كانت هذه الفترات تسبق تحركات أفقية تمتد لأيام عدة، وتغطي مسافات تتجاوز 200 كيلومتر، وفسر الباحثون هذه الظاهرة بأنها تعزز الفرضية التي تقول إن "الغوص العميق يؤدي وظيفة ملاحية أو استكشافية أكثر من كونه سلوكا غذائياً".

وقلت وتيرة الغوص العميق في بيرو وإندونيسيا مقارنة بنيوزيلندا، وربط الباحثون ذلك بطبيعة البيئات الساحلية الضحلة في تلك المناطق، إذ تميل المانتا هناك إلى البقاء في المياه القريبة من الشاطئ حيث لا تتوافر الفرص الجيولوجية للغوص الكبير.

ففي منطقة "راجا أمبات" الإندونيسية مثلاً، يتسم قاع البحر بالضحالة وغالبية الممرات العميقة قصيرة، ما يقلل حاجة المانتا إلى الغوص في الأعماق للحصول على معلومات ملاحية.

أما في نيوزيلندا، حيث تنحدر قيعان البحر بسرعة إلى الأعماق البعيدة، فإن المانتا تضطر إلى ممارسة هذا السلوك بشكل متكرر لتتكيف مع طبيعة البيئة المفتوحة.

وبيَّن بيل أن فهم طبيعة الغوص العميق ووظائفه يساعد العلماء على تفسير الكيفية التي تتمكن بها الحيوانات البحرية من عبور مساحات شاسعة من المحيطات المجهولة وربط النظم البيئية المتباعدة بآلاف الكيلومترات عن بعضها البعض.

ونوّه إلى أن الدراسة، رغم نتائجها المهمة، استخدمت عدداً محدوداً من أجهزة الوسم وقدمت لقطات سلوكية محددة بدلاً من تتبع مستمر، ما يعني أن ثمة حاجة إلى دراسات مستقبلية تستخدم بيانات أكبر وأكثر شمولاً لتأكيد فرضية الوظيفة الملاحية للغوص العميق لدى المانتا.

وتسلط النتائج الضوء على مدى اعتماد الأنواع المهاجرة على كل من المواطن الساحلية والمياه العميقة في المحيط، ما يبرز ضرورة التعاون الدولي في جهود حمايتها.

ودعا بيل إلى تعزيز التنسيق بين الدول التي تمر عبرها مسارات هذه الكائنات، معتبراً أن أي خلل في التوازن البيئي بين السواحل والمياه العميقة قد يؤثر في الأنظمة البيئية العالمية.

وذكر بيل أن أعماق المحيطات، التي لا تزال مجهولة إلى حد كبير، تؤدي دوراً حاسماً في تنظيم مناخ الأرض ودعم مصايد الأسماك العالمية، محذراً من أن فهم هذا الجزء "المنسي" من الكوكب يمثّل شرطاً أساسياً للحفاظ على التوازن البيئي الذي تعتمد عليه الحياة على سطح الأرض.

ولفت إلى أن هذه الدراسة ليست فقط عن سلوك مخلوق بحري مذهل، بل عن علاقة معقدة بين العلم والطبيعة، تذكر الإنسان بمدى ضآلة ما يعرفه عن الكوكب الذي يسكنه.

ذكاء فطري

وأظهرت البيانات الميدانية التي جمعت من الأجهزة المزروعة في "المانتا" أن النمط الزمني للغوص يعكس ذكاءً فطرياً في التكيف مع تغير الظروف، فكل مرة غوص كانت تتبعها مرحلة استقرار على السطح قد تمتد لساعات طويلة، وكأن الأسماك "تستعيد توازنها الداخلي" قبل أن تواصل رحلتها. وربما يشير ذلك إلى عمليات فسيولوجية معقدة تمكنها من التعامل مع فروق الضغط والحرارة الهائلة التي تواجهها خلال انتقالها من الأعماق الباردة إلى السطح الدافئ.

واعتمد الباحثون في تفسيرهم للسلوك الملاحظ على مقارنة بين البيئات الثلاث، ليكتشفوا أن اختلاف تضاريس القاع وأنماط التيارات البحرية يلعب دوراً محورياً في تحديد عمق الغطس ومدته.

ففي حين تجبر "المانتا" في نيوزيلندا على التعامل مع محيط متدرج العمق وسلسلة من الانحدارات المفاجئة، تتيح البيئة الإندونيسية فرصاً محدودة لمثل هذه الرحلات العميقة، وهو ما يعزز فكرة أن السلوك ليس عشوائياً بل استجابة بيئية دقيقة.

وتمثّل الدراسة أول توثيق شامل للغوص العميق لدى "المانتا المحيطية" في عدة محيطات، ما يفتح الباب أمام إعادة النظر في تصورنا لقدرتها على التنقل في البحار المفتوحة.

ونبّه بيل إلى أن قدرة الكائن على ربط الإشارات المغناطيسية بالتغيرات الفيزيائية والكيميائية في المياه قد تمثّل أحد أعقد أشكال الملاحة الطبيعية في عالم الحيوان.

وتابع بالقول إن هذه "الخرائط الذهنية" التي تبنيها "المانتا" ربما تشبه إلى حد بعيد أنظمة الملاحة الاصطناعية التي يستخدمها الإنسان، ولكنها تطورت عبر ملايين السنين من التفاعل مع البيئة.

آلية أساسية لتوجيه "المانتا"

واستنتج الباحثون أن الغوص إلى الأعماق ليس مجرد سلوك عارض، بل آلية أساسية لتوجيه "المانتا" في بيئة لا تحتوي على معالم ثابتة، فعندما تغوص إلى ما بعد 1000 متر، تكون في منطقة تُعرف بـ"المنطقة المظلمة" التي لا يصلها الضوء تقريبا، لكن الاستقرار الفيزيائي لتلك الأعماق يجعلها مرجعاً ممتازاً للمقارنة.

ومن خلال تكرار هذا الغوص في نقاط مختلفة من المحيط، تستطيع "المانتا" بناء تصور دقيق لاتجاهات التيارات والتدرجات المغناطيسية، وهو ما يساعدها على الانتقال لمسافات طويلة دون أن تضل طريقها.

وتؤكد هذه النتائج أن "المانتا" ليست مجرد كائن ضخم يتنقل في المياه ببطء، بل مخلوق يمتلك منظومة حسية متطورة وقدرة إدراكية مدهشة تسمح له بفهم عالمه تحت الأمواج.

وتعكس تلك الدراسة جانباً من عبقرية الطبيعة في تطوير أدوات تكيف تتجاوز حدود ما كنا نعتقد أنه ممكن في عالم الأحياء البحرية.

وتبرز الدراسة أيضاً أن حماية هذه الكائنات لا تقتصر على السواحل فحسب، بل تشمل أعماق المحيطات التي تعتمد عليها في سلوكها المهاجر، فالمخاطر التي تهددها، مثل التلوث البلاستيكي والصيد العرضي وتغير المناخ، قد تؤثر على قدرتها في أداء هذه الغطسات، ما يهدد توازن النظام البيئي بأكمله.

لذلك شدد الباحثون على ضرورة وضع سياسات بحرية متكاملة تتعامل مع المحيط كوحدة متصلة لا كمساحات مجزأة بين الدول.

وأوضحت النتائج أن "المانتا"، رغم ضخامتها التي قد تصل إلى سبعة أمتار عرضاً، تمارس سلوكيات دقيقة تعتمد على إشارات لا يمكن إدراكها بسهولة من قِبل الإنسان.

وتبيَّن أن فهم هذه الإشارات قد يسهم في تطوير تكنولوجيا جديدة للملاحة البحرية تعتمد على استلهام مبادئ الطبيعة، كما يمكن أن يقدم مؤشرات مبكرة عن التغيرات في النظم البيئية البحرية التي ترتبط بالمناخ العالمي.

تصنيفات

قصص قد تهمك