
طور باحثون نموذج تعلم عميق قادر على التنبؤ، دقيقة بدقيقة، بكيفية تغير الخلايا الفردية أثناء المراحل الأولى من تطور ذبابة الفاكهة، في خطوة تعد من أكثر المحاولات تقدماً لفهم الكيفية التي تتشكل بها الأنسجة والأعضاء منذ اللحظة الأولى لنشأتها، وتهدف الدراسة لاستخدام النموذج للتعرف على الأنماط الخلوية المرتبطة بالأمراض في مراحلها المبكرة، مثل الربو والسرطان.
وأظهرت الدراسة، التي نشرتها دورية Nature Methods، أن نموذج الذكاء الاصطناعي يستطيع متابعة آلاف الخلايا بدقة عالية، والتنبؤ بكيفية طيها وانقسامها وتحركها المتواصل خلال المرحلة الأولى من التطور، ما يفتح آفاقاً واسعة لتطبيقات مستقبلية قد تشمل التنبؤ بتكون أعضاء أكثر تعقيداً، بل والتعرف المبكر إلى الأنماط الخلوية المرتبطة بالأمراض.
وتسعى الدراسة إلى الإجابة عن سؤال جوهري ظل يؤرق علماء الأحياء التطورية لعقود، يتمثل في فهم الطريقة التي تنسق بها آلاف الخلايا حركتها وتفاعلاتها لتشكيل البنى الحيوية الأساسية للكائن الحي.
وتعد مرحلة "التمعج الجنيني" واحدة من أكثر المراحل حسماً، حين يبدأ الجنين في التحول من شكل ناعم خال من التفاصيل إلى بنية معقدة مليئة بالطيات والانبعاجات والتخصصات الخلوية.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة، مينج جوو، الأستاذ المشارك في الهندسة الميكانيكية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، إن هذه المرحلة - التي لا تستغرق سوى ساعة واحدة تقريباً - تشهد تغيرات هائلة تجري على مقياس دقائق، وأن القدرة على نمذجتها بدقة تمثل خطوة أساسية نحو فهم كيف تنتج التفاعلات المحلية الصغيرة بين الخلايا أنسجة وهياكل معقدة.
وطبق الباحثون النموذج الجديد على مقاطع فيديو عالية الدقة لجنين ذبابة الفاكهة، يتألف كل منها من نحو 5 آلاف خلية تبدأ تدريجياً في الانقسام والالتواء وإعادة ترتيب مواقعها مع مرور الوقت.
كشف الاختبار أن النموذج يستطيع التنبؤ بدقة تصل إلى 90%، بما تفعله الخلايا لحظة بلحظة، بما في ذلك احتمال طي الخلية أو انقسامها أو محافظتها على اتصالها بخلايا مجاورة.
واعتمد الباحثون على بنية حسابية مبتكرة أطلقوا عليها اسم "الرسم البياني المزدوج"، وهي بنية تجمع بين مقاربتين كانتا محل جدل طويل في أوساط النمذجة البيولوجية، الأولى تسمى مقاربة "السحب النقطية" التي تتعامل مع كل خلية كنقطة تتحرك في الفضاء، أما الثانية فتسمى مقاربة "الرغوة" التي ترى الخلايا كفقاعات متلاصقة تتزاحم وتنزلق وتتكيف مع بعضها.
وأكد الباحثون أن كلتا المقاربتين ليستا سوى تمثيلين مختلفين للبنية نفسها، وأن الجمع بينهما يتيح التقاط قدر أكبر من التفاصيل الهندسية المتعلقة بالخلايا، مثل موقع النواة، وحدود الخلية، وطبيعة اتصالها بالخلايا المجاورة، وحالات الطي أو الانقسام التي تمر بها.
وبدأ فريق البحث باستخدام هذه البنية المزدوجة لتعليم النموذج كيفية تحليل الديناميكيات الخلوية لجنين ذبابة الفاكهة أثناء التمعج الجنيني، وأظهرت المقاطع التي استخدمها الباحثون - والتي التقطها متعاونون من جامعة ميشيجان - تسجيلات فريدة بدقة شبه ميكرونية وبإطار زمني سريع يغطي الحجم ثلاثي الأبعاد الكامل للجنين، مع تفاصيل دقيقة لنوى الخلايا وحدودها.
وتشكل هذه البيانات مادة تدريبية استثنائية نادرة الحصول، إذ تتيح للنموذج فهم التغيرات الميكانيكية والهندسية التي تمر بها كل خلية على حدة.
بدأ فريق البحث تدريب النموذج على 3 من أصل 4 مقاطع فيديو، ثم اختباره على المقطع الرابع الذي لم يسبق وضعه ضمن بيانات التدريب، وأظهر النموذج قدرة عالية على التنبؤ بكيفية تغير كل خلية من الـ 5 آلاف خلية لحظة بلحظة، سواء في ما يتعلق بما إذا كانت ستنقسم أو تطوي نفسها، أو تستمر في مشاركة حافة مع خلية أخرى، ويستطيع النموذج كذلك تحديد توقيت هذه الأحداث بدقة، مثل توقع لحظة انفصال خليتين بعد 7 أو 8 دقائق من الزمن المستقبلي.
أظهرت النتائج أن البنية الحسابية المبتكرة ليست قادرة فقط على التنبؤ بديناميكيات خلايا ذبابة الفاكهة، بل يمكن نظرياً تطبيقها على أنظمة حيوية أكثر تعقيداً، مثل أنسجة بعض الفقاريات والأسماك وحتى الثدييات.
وأكد فريق البحث أن ما يحد من هذا التوسع ليس قدرات النموذج نفسه، بل ندرة البيانات المصورة عالية الجودة على مستوى الخلية الواحدة في الكائنات الأكبر والأكثر تعقيداً.
وقال الباحثون إن النموذج "جاهز" من الناحية الحسابية، وإن التحدي الحقيقي يكمن في توفير بيانات مشابهة في الجودة والدقة.
وتهدف الدراسة إلى استخدام هذا النموذج في المستقبل للتعرف على الأنماط الخلوية المرتبطة بالأمراض في مراحلها المبكرة، مثل الربو والسرطان.
وأوضح الباحثون أن أنسجة الرئة المصابة بالربو تظهر خصائص خلوية مختلفة بوضوح عن الأنسجة السليمة، لكن الكيفية التي تتطور بها هذه الفروق منذ المراحل الأولى لا تزال لغزاً بيولوجياً.
ويرى الباحثون أن النموذج الجديد قادر على التقاط "الفروق الديناميكية الدقيقة" التي تظهر عند تصوير أنسجة محتملة الإصابة بالربو، وهي تتطور خلوياً.
وأوضح الباحث المشارك في الدراسة هايقان يانج، أن هذا النوع من التحليل يمكن أن يقدم فهماً أكثر شمولاً لسلوك الأنسجة، بحيث يساعد في تطوير وسائل تشخيصية مبكرة أو تحسين تقنيات اختبار الأدوية.
ويعمل فريق البحث في المرحلة المقبلة على دراسة إمكانية استخدام النموذج في تتبع تطور خلايا كائنات أخرى مثل أسماك الزرد والفئران، بهدف التعرف على الأنماط المشتركة بين الأنواع المختلفة.
ويأمل الباحثون أن يساعد النموذج في الكشف عن الآليات العامة التي تنظم تطور الأنسجة المعقدة، بما يمهد الطريق لنماذج أشمل لوصف تشكل أعضاء كاملة أو تشخيص اضطراباتها.
وأكد الباحثون أن البيئة المبكرة لذباب الفاكهة تمثل نموذجاً فريداً للتعلم، لأن الشكل العام للجنين في مرحلة التمعج يكون بيضاوياً تقريباً، في حين تجري على سطحه تغييرات ضخمة تفرز طيات معقدة في زوايا مختلفة.
وأوضح مينج جوو، أن الهدف من النموذج هو التنبؤ بكل تلك التحولات، سواء الكبرى منها أو الدقيقة، لحظة بلحظة وعلى مستوى الخلية الواحدة.
وتعكس الدراسة توجهاً متزايداً في علوم الأحياء الحاسوبية لدمج تقنيات التعلم العميق مع النمذجة الهندسية الدقيقة، بهدف التقاط التفاعلات المعقدة التي تحدث بين الخلايا أثناء النمو.
وتمنح هذه الأساليب الباحثين قدرة غير مسبوقة على رؤية التطور الحي كما لو كان تسلسلاً مدروساً، وليس مجرد عملية فوضوية تعتمد على الحظ أو الترتيب العشوائي.
وتبرز أهمية هذا النهج حين يتعلق الأمر بفهم الأمراض، إذ تعتمد العديد من الاضطرابات على تغيرات دقيقة في أنماط الحركة الخلوية، أو في تفاعلات الخلايا مع بعضها، ويؤدي هذا إلى أن يصبح تحديد "البصمة الخلوية" المبكرة للمرض هدفاً بالغ الأهمية، لما يتيحه من فرص التشخيص المبكر والعلاج الوقائي.
وأوضحت الدراسة أن إمكانية التعميم على أنظمة حيوية أخرى تعتمد على توفير تسجيلات بالمواصفات نفسها التي استخدمت في ذبابة الفاكهة، وهو أمر لا يزال تحدياً تقنياً في الكائنات الأكبر، ومع ذلك، أشار الباحثون إلى أن التطور المستمر في تقنيات التصوير المجهرية الرقمية يجعل هذا الهدف قابلاً للتحقق خلال السنوات المقبلة.
وقدمت الدراسة مقاربة جديدة لفهم كيفية تشكل الكائنات من كتلة أولية من الخلايا، وكيف تتجمع هذه الخلايا، وتتفاعل وتعيد تنظيم نفسها لتكوين الهياكل الأساسية للحياة.
وتؤكد النتائج أن الحوسبة المتقدمة أصبحت شريكاً أساسياً في فك ألغاز التطور المبكر، وأن الجمع بين الذكاء الاصطناعي وعلوم الأحياء التطورية يمكن أن يعيد رسم طريقة فهم أصل الأنظمة الحية وتكوينها.











