أعلن مختبر لورانس ليفرمور الوطني التابع لوزارة الطاقة الأميركية، نجاح فريق من العلماء في تحقيق "اختراق علمي كبير" في مجال الاندماج النووي، وهي وسيلة من وسائل إنتاج الطاقة يُمكن أن تُحدث ثورة في المستقبل.
وقال علماء المختبر إنهم تمكنوا من توليد طاقة عبر الاندماج النووي، أكبر من الطاقة المستخدمة في أجهزة الليزر لبدء التفاعل، ووصفوا الإنجاز بأنه "انفراجة ستغيّر مستقبل الطاقة النظيفة للأبد".
ماذا حدث في مختبر لورانس ليفرمور؟
قبل أسبوع، تمكّن العلماء في مختبر لورانس ليفرمور من تخطّي عتبة الاندماج النووي بتوليد كمية من الطاقة أكبر من تلك المستخدمة في أشعة الليزر التي حثت التفاعل على البدء.
قام العلماء في تلك المنشأة باستخدام مبدأ حبس البلازما بالقصور الذاتي، وهي عملية يتم خلالها توليد شرارة ساخنة في البلازما عالية الكثافة لبدء الاندماج النووي.
في تلك العملية، استخدم الباحثون أشعة ليزر بطاقة قدرها 2.05 ميجاجول لبدء التفاعل الاندماجي، نجم عن تلك العملية توليد حرارة مُقدرة بنحو 3.15 ميجاجول، وبزيادة صافية قدرها 1.1 ميجاجول، أيّ أن كفاءة توليد الطاقة على ذلك المستوى بلغت نحو 65٪.
بالمقارنة، تبلغ كفاءة الانشطار النووي حوالي 37٪ وتبلغ كفاءة محطات الطاقة المعتمدة على الفحم حوالي 33٪، فيما تبلغ أقصى كفاءة لمحطات توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية نحو 20٪.
ما هي الطاقة النووية؟
الطاقة النووية هي شكل من أشكال الطاقة المنبعثة من نواة الذرات، المكونة من البروتونات والنيوترونات. ويمكن إنتاج مصدر الطاقة هذا بطريقتين، الأولى هي الانشطار وفيه تنقسم نوى الذرات إلى عدّة أجزاء مُطلقة طاقة هائلة أثناء تلك العملية، أو الاندماج عندما تندمج النوى معاً.
وتعتمد الطاقة التي يتم الحصول عليها من تفاعلات الاندماج والانشطار على الاختلافات في طاقة الربط النووية. فكتلة نواتج تفاعل الاندماج أصغر من كتلة المواد المتفاعلة، بمعنى أن الكتل في تلك الحالة تقل سواء نتيجة الانشطار أو الاندماج، وبالتالي يتم تحويل الفرق أو "الكتلة المفقودة" إلى طاقة وفقاً لمعادلة أينشتاين الشهيرة.
والوقود الرئيسي المستخدم في ابتكارات الاندماج النووي هو الديوتيريوم والتريتيوم، وكلاهما نظائر ثقيلة للهيدروجين، إذ يُنتجان أكبر قيمة للطاقة المنبعثة من التفاعل.
كيف بدأ التفكير في توليد طاقة الاندماج؟
قبل عقود، نجح العلماء في تسخير الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء والأسلحة من خلال الانشطار النووي، بينما ظلت تكنولوجيات توليد الكهرباء من الاندماج في مرحلة البحث والتطوير.
بدأ العلماء في التفكير في استخدام عملية الاندماج لتوليد الطاقة في ثلاثينيات القرن الماضي، وتأكدت تلك العملية حين اكتشف العالم الألماني "هانز بيته" الحائز على جائزة نوبل عام 1967، أن الاندماج النووي هو مصدر الطاقة في الشمس.
لماذا يصعب إتمام عملية الاندماج النووي؟
تمتلك النجوم، مثل شمسنا، خاصية مهمة، فجاذبيتها القوية تُبقي النوى قريبة جداً من بعضها البعض وساخنة لدرجة أن عملية الاندماج تنطلق تلقائياً، مما ينتج عنه قدراً هائلاً من الطاقة.
ولا تملك الأرض مثل تلك الخاصية، لذا بدأ العلماء في البحث عن طرق لبدء تفاعلات الاندماج والتحكم فيها لإنتاج طاقة مفيدة على الأرض. كانت المهمة صعبة منذ البداية، لأن تفاعلات الاندماج تتطلب درجات حرارة تصل إلى مئات الملايين من الدرجات، لا يُمكن أن تتحمل المواد والمعادن تلك الحرارة الهائلة، إذ تذوب بسهولة أثناء التجارب.
لذلك، سعى الفيزيائيون إلى احتواء البلازما الساخنة بالمجالات المغناطيسية. يُشبه الأمر تعليق البلازما في الهواء بين تيارات كهربائية تتحرك في نفس الاتجاه. يسمى هذا النهج "الحبس المغناطيسي".
هل هناك تطبيقات عسكرية للطاقة الاندماجية؟
في البداية، كان هذا العمل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفيتي سرياً. وبحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كان المسؤولون والعلماء على حد سواء مقتنعين بأن أبحاث الاندماج التي يتم التحكم فيها ليس لها تطبيقات عسكرية، وعلى وجه الخصوص لا علاقة لها بتطوير الأسلحة النووية الحرارية.
وجاء أول تفجير لأسلحة نووية حرارية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
وفي القنبلة الهيدروجينية، أو السلاح النووي الحراري، تُستخدم الطاقة الهائلة للسلاح النووي القائم على الانشطار لتسخين كمية كبيرة، تصل إلى عشرات أو مئات الكيلوجرامات من وقود الاندماج لإطلاق طاقة الاندماج في الانفجار.
هل يُمكن تحويل الطاقة الاندماجية لقنبلة هيدروجينية؟
لا، فعلى الرغم من أن القنابل الهيدروجينية تستخدم تفاعلات الاندماج، إلّا أنها تتطلب قنبلة انشطارية إضافية لتفجيرها. تتطلب ظروف عمل مفاعل الاندماج كمية محدودة من الوقود في المفاعل. ويتم حقن هذا الوقود واستهلاكه باستمرار؛ لذلك لا توجد أبداً كمية كافية من الوقود لإنتاج القوة اللحظية المطلوبة لأيّ سلاح.
لكن وعلى النقيض من ذلك، في أبحاث الاندماج المتحكَم فيه، وفي مولد الاندماج المستقبلي، لن يتم تسخين حتى جرام واحد من الوقود إلى درجة حرارة عالية في أي وقت. هذه الكمية الضئيلة من الوقود عالي التسخين أصغر بكثير من أن تكون بمثابة "شرارة" للكيلوجرامات من الوقود اللازمة لسلاح.
وأي اتصال بين كمية ضئيلة من بلازما الوقود الساخن وجسم أكبر، مثل وقود القنبلة، سيخمد على الفور تفاعل الاندماج عن طريق خفض درجة حرارة البلازما. وبالتالي، فإن تحويل مولد الاندماج إلى قنبلة، الذي يصور أحياناً في الخيال العلمي، أمر مستحيل.
ونظراً لعدم وجود تطبيقات عسكرية لأبحاث الاندماج، فقد رفعت عنها السرية من قبل الدول المشاركة الرئيسية، وبدأ التعاون في الاندماج بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
ما هي الطريقة التي استخدمها العلماء لبدء الاندماج؟
ابتداءً من الستينيات، بعد اختراع الليزر الذي استخدمه اليوم باحثو لورانس ليفرمور، سعى باحثون آخرون إلى تسخين الوقود باستخدام الليزر فجأة، لدرجة أن البلازما لن يكون لديها وقت للهروب قبل أن يتم حرقها في تفاعل الاندماج. إذ ستكون تلك البلازما محاصرة بسبب القصور الذاتي. وهكذا سمي هذا النهج الجديد "الحبس بالقصور الذاتي".
في الستينيات، افترض مجموعة من العلماء الرواد في مختبر "لورانس ليفرمور" أنه يمكن استخدام الليزر للحث على الاندماج في بيئة معملية.
وبقيادة الفيزيائي "جون نوكولز" والذي شغل فيما بعد منصب مدير المختبر من 1988 إلى 1994، أصبحت هذه الفكرة الثورية، وهي الاندماج بالحبس الذاتي، وبدأ طريق طويل من البحث والتطوير في مجالات الليزر والبصريات والتصنيع المستهدف ونمذجة الكمبيوتر والمحاكاة وتصميم تجريبي.
ما هو النظام المستخدم لتوليد الليزر في تلك التجربة؟
قام المختبر ببناء سلسلة من أنظمة الليزر القوية بشكل متزايد، مما أدّى إلى إنشاء نظام معروف باسم NIF، وهو نظام الليزر الأكبر والأكثر نشاطاً في العالم.
يبلغ حجم ذلك النظام ملعب رياضي، ويستطيع أن يوجه بدقة ويضخم ويعكس ويركز 192 حزمة ليزر قوية في هدف يقارب حجم ممحاة قلم الرصاص في بضعة أجزاء من المليار من الثانية، مما يوفر أكثر من مليوني جول من الطاقة و500 تريليون واط من ذروة الطاقة.
يستخدم ذلك النظام أشعة ليزر قوية لخلق درجات حرارة وضغوط مثل تلك الموجودة في قلب النجوم والكواكب العملاقة، وداخل الأسلحة النووية المتفجرة.
لكن لا تزال هناك حاجة إلى العديد من التطورات العلمية والتكنولوجية المتقدمة، لتحقيق تفاعل الاندماج النووي بالقصور الذاتي بسيطة وبأسعار معقولة لتزويد المنازل والشركات بالطاقة.
يوفر ذلك النوع من التفاعل إنتاج غير محدود للطاقة، ولا يخضع مثل بعض مصادر الطاقة المتجددة كالرياح والشمس للتذبذب نتيجة اختلاف الفصول، كما أن ذلك النوع من الطاقات لا يُسبب انبعاث غازات الاحتباس الحراري، كما أن العملية الفيزيائية آمنة تماماً ولا يُمكن أن ينجم عنها أيّ انفجارات؛ ولا تتواجد أيّ نفايات خطرة على الإطلاق.
هل عملية الاندماج النووي آمنة؟
على الرغم من أن الانشطار والاندماج يُشبهان بعضهما البعض في كون كلاهما عمليتان نوويتان، من حيث أنهما يتطلبان قوى نووية لتغيير نواة الذرات. يقسم الانشطار عنصراً ثقيلاً (برقم كتلة ذرية مرتفع) إلى أجزاء، بينما يضم الاندماج عنصرين خفيفين (برقم كتلة ذرية منخفض)، مكوناً عنصراً أثقل. في كلتا الحالتين، يتم تحرير الطاقة لأن كتلة النواة المتبقية أصغر من كتلة النوى المتفاعلة.
ولا ينتج الاندماج نفايات نووية مشعة بالطريقة نفسها التي ينتجها الانشطار، فمحطات الطاقة الانشطارية النووية لها مساوئ توليد نوى غير مستقرة؛ تظل بعض هذه المواد مشعة لملايين السنين. وعلى العكس، لا ينتج الاندماج أي نفايات نووية مشعة طويلة العمر.
ما هي نواتج التفاعلات الاندماجية؟
ينتج مفاعل الاندماج الهيليوم، وهو غاز خامل. كما أنه ينتج ويستهلك التريتيوم (نظير من نظائر الهيدروجين) داخل المصنع في دائرة مغلقة. والتريتيوم عنصر مشع ولكن عمره قصير. كما يتم استخدامه فقط بكميات منخفضة، لذلك لا يمكن أن ينتج عنه أي خطر جسيم.
ولا يُمكن أيضاً أن يتسبب الاندماج النووي في وقوع حادث نووي، لأن إنتاج طاقة الاندماج لا يعتمد على تفاعل متسلسل، كما هو الحال بالنسبة للانشطار. إذ يجب حفظ البلازما في درجات حرارة عالية جداً بدعم من أنظمة التدفئة الخارجية وحصرها بمجال مغناطيسي خارجي.
يؤدي كل تغيير في تكوين العمل في المفاعل إلى تبريد البلازما أو فقدان احتوائها، في مثل هذه الحالة، سيتوقف المفاعل تلقائياً في غضون ثوانٍ قليلة، حيث تتوقف عملية إنتاج الطاقة، ولن تحدث أيّ آثار خارج بيئة التفاعل. لهذا السبب تعتبر مفاعلات الاندماج آمنة بطبيعتها.