دراسة تكشف سر صمود المعابد الرومانية لآلاف السنوات

time reading iconدقائق القراءة - 8
رسومات توضح "خلطة الجير" التي استخدمتها الحضارة الرومانية في تشييد المباني التاريخية - science.org
رسومات توضح "خلطة الجير" التي استخدمتها الحضارة الرومانية في تشييد المباني التاريخية - science.org
القاهرة-محمد منصور

صمدت الأبنية والمعابد الرومانية في وجه الزمن لآلاف السنوات، وظلت قائمة حتى يومنا هذا رغم الظواهر الطبيعية العديدة التي طالتها. فما السر وراء قدرة تلك المباني الضخمة على تحمل هذه العوامل؟

قال بحث جديد نُشرت نتائجه في دورية "ساينس.. أدفانسس"، إن مواد البناء التي تم استخدامها في تلك المباني والهياكل الضخمة، تمتلك قدرة على "الشفاء الذاتي"، أي أنها تُرمم نفسها، وذلك بسبب وجود "خلطة من الجير" داخل مواد البناء ساعدتها علـى البقاء.

سر المادة القديمة

شقّ الرومان شبكات واسعة من الطرق والقنوات المائية والمعابد والموانئ والمباني الضخمة، واستخدموا الخرسانة في بناء العديد من هذه الهياكل، ومنها البانثيون الشهير في روما، والذي يضم أكبر قبة خرسانية غير مسلحة (من دون حديد) في العالم.

وفي محاولة لاكتشاف سر مادة البناء القديمة، أمضى الباحثون عقوداً عديدة لدراسة أسباب عدم انهيار الخرسانة، لا سيما في الهياكل التي تحمّلت ظروفاً قاسية بشكل خاص، مثل عوامل النحر وتعرضها لمياه الصرف الصحي وهواء البحر وغيرها.

خطأ الخلط المُعتقد

من المعروف أن الرومان استخدموا الرماد البركاني، والملاط، لعمل الخرسانة. وقد كشف تحليل تلك المواد وجود القليل من الجير في تركيبها. وطوال عقود، ظن العلماء أن الجير وُضع من دون قصد داخل الخرسانة.

إلا أن البحث الجديد كشف أن وجود الجير كان عن عمد، بل يؤكد أيضاً أن نسب خلطه بالخرسانة ظلت ثابتة في كل المواقع والمباني.

وفي حديث لـ"الشرق"، قال عالم الهندسة المدنية في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" والمتخصص في دراسة الأبنية الأثرية أدمير ماسيك، إن السمات المعدنية البيضاء الصغيرة المميزة، المعروفة باسم "كسور الجير" لعبت دوراً حاسماً في قدرات الشفاء الذاتي للخرسانة القديمة.

وأشار ماسيك وهو المؤلف الرئيسي لتلك الدراسة، إلى أن لهذه النتائج آثار كبيرة على صناعة البناء الحديثة، إذ تُعد الخرسانة من أكثر المواد التي صنعها الإنسان استخداماً في العالم.

ومن خلال دمج وظائف الإصلاح الذاتي "يُمكن أن يكون للخرسانة عمراً أطول، مما يقلل الحاجة إلى عمليات الإصلاح والصيانة المكلفة"، بحسب قول ماسيك، والذي أكد أيضاً أن "دراسة الماضي قد تلهمنا لصناعة مستقبل مُستدام".

وفي الوقت الحالي يُعتبر الأسمنت العادي مكوناً رئيسياً للخرسانة، وهو أكثر مواد البناء انتشاراً في العالم. لكن إنتاجه له عواقب بيئية خطيرة، إذ تطلق عمليات تصنيعه ما يصل إلى 7 في المئة من غاز ثاني أكسيد الكربون في العام، بمعدل يصل إلى طن متري من الانبعاثات لكل طن متري من المواد المنتجة.

ويُنظر للاستراتيجيات الحالية للحد من هذا التأثير على أنها غير كافية في ظل استمرار ارتفاع الطلب على هذا الإسمنت.

وتتمثل إحدى طرق تقليل البصمة الكربونية للأسمنت في تحسين عمر الخرسانة من خلال دمج وظائف الإصلاح الذاتي، بينما يُمكن أن يؤدي عمر الاستخدام الممتد، جنباً إلى جنب مع تقليل الحاجة إلى عمل الإصلاحات الشاملة، إلى تقليل التأثير البيئي، وتحسين دورة الحياة الاقتصادية للإنشاءات الإسمنتية الحديثة.

ولذك قام ماسيك وفريقه بدراسة المعابد والمباني الرومانية القديمة، والتي صمدت طيلة قرون دون الحاجة لإصلاحات أو ترميم.

الرماد البركاني

لسنوات عديدة، افترض الباحثون أن مفتاح متانة الخرسانة القديمة هو المواد "البوزولانية" والتي تتكون من الرماد البركاني المستخرج من منطقة بوزولي الواقعة على خليج نابولي في إيطاليا.

وكان يتم شحن هذا النوع المحدد من الرماد في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الشاسعة لاستخدامه في البناء، حيث وُصف بأنه مكون رئيسي للخرسانة في الحسابات من قبل المهندسين المعماريين والمؤرخين في ذلك الوقت.

وأظهر الفحص المجهري الدقيق بحسب الدراسة، أن هذه العينات القديمة تحتوي أيضاً على سمات معدنية بيضاء ساطعة صغيرة ومميزة بمقياس ملليمتر، لوحظت منذ فترة طويلة كمكون في كل مكان من الخرسانة الرومانية.

وتتكون هذه القطع البيضاء، التي يُشار إليها غالباً باسم "الكلس الجيري" من الجير، وهو مكون رئيسي آخر لمزيج الخرسانة القديم، لكن تم تجاهل تلك المكونات باعتبارها مجرد دليل على ممارسات الخلط غير المتقنة، أو المواد الخام ذات الجودة الرديئة.

مع ذلك، لفتت الدراسة إلى أن هذه الكتل الجيرية الصغيرة أعطت الخرسانة قدرة شفاء ذاتية لم يتم التعرف عليها سابقاً، إذ اكتسب ماسيك وفريقه، باستخدام تقنيات التصوير متعدد النطاقات عالية الدقة ورسم الخرائط الكيميائية الرائدة، رؤى جديدة حول الوظائف المحتملة لهذه الكتل الجيرية.

تفاعل ساخن

تاريخياً، استخدم الرومان الجير مع الماء لتشكيل مادة شديدة التفاعل تُشبه العجينة، في عملية تُعرف باسم القطع. ولكن هذه العملية، لا تُفسر وجود الكتل الجيرية.

وهنا تساءل الباحثون: "هل استخدم الرومان الجير بشكل مباشر في شكله الأكثر تفاعلًا، والمعروف باسم الجير الحي؟".

من خلال دراسة عيّنات من الخرسانة القديمة، تأكد الفريق المشرف على الدراسة أن المواد البيضاء كانت بالفعل مصنوعة من أشكال مختلفة من كربونات الكالسيوم، إذ قدم الفحص الطيفي أدلة على أنها تشكلت في درجات حرارة قصوى، من التفاعل الطارد للحرارة الناتج عن استخدام الجير الحي بدلاً من الجير المطفأ في الخليط أو المضاف إليه.

وخلص الفريق إلى أن الخلط الساخن كان في الواقع مفتاح الخصائص الخرسانية فائقة التحمل، فعندما يتم خلط الخرسانة الكلية عند درجات حرارة عالية ناجمة عن استخدام الجير الحي، ينتج مركبات مرتبطة بدرجة حرارة عالية، والتي لن تتشكل بطريقة أخرى.

كما تُقلل درجة الحرارة المرتفعة هذه بشكل كبير من أوقات المعالجة والإعداد، نظراً لتسريع جميع التفاعلات، مما يسمح ببناء أسرع بكثير.

شفاء ذاتي

أثناء عملية الخلط الساخن، تقوم الكتل الجيرية بتطوير بنية جسيمات نانوية هشّة بشكل مميز، مما يخلق مصدراً للكالسيوم سهل التصدع والتفاعل، والذي، كما اقترح فريق الدراسة، يُمكن أن يوفر وظيفة شفاء ذاتي مهمة.

وبحسب الدراسة، مجرد أن تبدأ الشقوق الصغيرة في التكوّن داخل الخرسانة، يُمكن أن تنتقل بشكل تفضيلي عبر الكتل الجيرية لسد تلك الشقوق. كما يمكن أن تتفاعل هذه المادة بعد ذلك مع الماء، مما ينتج عنه محلول مشبع بالكالسيوم، والذي يمكن أن يتحول إلى كربونات الكالسيوم، ويملأ الشق بسرعة، أو يتفاعل مع المواد البوزولانية لزيادة تقوية المادة المركبة.

وتَحدث هذه التفاعلات عادة بشكل مستمر، وبالتالي تلتئم الشقوق تلقائياً قبل أن تنتشر.

وللتأكد من أن هذه الآلية هي المسؤولة بالفعل عن متانة الخرسانة الرومانية، أنتج الفريق عينات من الخرسانة المختلطة على الساخن، والتي تضمنت تركيبات قديمة وحديثة، وقاموا بتكسيرها عن عمد، ثم مرروا الماء عبر الشقوق.

وفي غضون أسبوعين، التئمت الشقوق تماماً، ولم يعد بإمكان الماء التدفق، في حين لم تلتئم قطعة متطابقة من الخرسانة المصنوعة بدون الجير الحي، وظل الماء يتدفق عبر العينة.

اقرأ أيضاً: