رصد علماء من معهد "ماكس بلانك" لسلوك الحيوانات، ذكر إنسان غاب سومطري بري، وهو يمارس "التطبيب الذاتي" لعلاج الجروح.
واستخدم إنسان الغاب نباتاً متسلقاً يستخدمه البشر في الطب التقليدي لعلاج الجروح والسكري والملاريا، وتمثل النتائج المنشورة في دورية "ساينتفك ريبورتس"، أول دليل على استخدام النباتات الطبية من قِبَل الحيوانات لعلاج الجروح.
ولوحظت سلوكيات التطبيب الذاتي في الحيوانات غير البشرية عبر مختلف الأنواع، لكن كان من الصعب توثيقها بشكل منهجي بسبب طبيعتها التي لا يمكن التنبؤ بها، وهناك أدلة قوية تشير إلى وجود مثل هذه السلوكيات بين القردة العليا الإفريقية، وإنسان الغاب، وقرود الجبون، والعديد من أنواع القردة في مناطق مختلفة.
وسُجّلت هذه الملاحظة في الغابات الاستوائية في جنوب شرق آسيا، حيث أصيب ذكر إنسان الغاب السومطري بجرح في الوجه، وبعد 3 أيام من الإصابة، انخرط في سلسلة من السلوكيات التي تشير إلى علاج فعَّال للجرح.
وجَمَع إنسان الغاب الأوراق بشكل انتقائي من نبات "ليانا" المعروف باسم "فيبروريا تينكتوريا Fibraurea tinctoria"، والذي يتمتع بأهمية كبيرة في ممارسات الطب التقليدي بسبب خصائصه الدوائية واحتوائه على العديد من المركبات النشطة بيولوجياً، والتي تُظهر أنشطة دوائية متنوعة مثل الخصائص المضادة للبكتيريا والالتهابات والفطريات ومضادات الأكسدة، كما يحتوي على مواد ذات تأثيرات مسكّنة، وخافضة للحرارة.
وبعد ذلك، مَضَغ هذه الأوراق، واستخرج عصارتها ووضعها مباشرة على جرح الوجه، ثم غطَّى الجرح بالكامل بالأوراق الممضوغة، كما وضع العصارة الناتجة بشكل متكرر على جرح في خده الأيمن لمدة 7 دقائق، ثم قام بتلطيخ الأوراق الممضوغة على الجرح حتى تمت تغطيتها بالكامل، واستمر في التغذي بالنبات لأكثر من 30 دقيقة.
وأبلغ الباحثون عن عدم وجود علامات لعدوى الجرح في الأيام التالية لملاحظاتهم، كما التأم الجرح خلال 5 أيام، وتم شفاؤه بالكامل خلال شهر واحد، وتُمثّل هذه الملاحظة علامة فارقة كأول حالة موثّقة بشكل منهجي لعلاج الجروح النشطة بأنواع نباتية تحتوي على مواد نشطة بيولوجياً بواسطة حيوان بري.
وفي أوائل الستينيات، وثَّقت عالمة الأحياء جين جودال، لأول مرة وجود أوراق كاملة في براز الشمبانزي في جومبي ستريم بتنزانيا، وعلى مدى العقود اللاحقة، لوحظ هذا السلوك، الذي يُطلق عليه الآن "ابتلاع الأوراق الكاملة"، في العديد من مواقع دراسة القردة العليا الإفريقية، جنباً إلى جنب مع مضغ اللب المر، وتبيَّن أنه يمتلك خصائص علاجية ومضادة للطفيليات، ومنذ ذلك الحين، لوحظت أشكال متنوعة من العلاج الذاتي لدى القردة العليا البرية.
التطبيب الذاتي للحيوانات
ويتم تصنيف التطبيب الذاتي للحيوانات إلى 5 أنواع متميزة، تتمثل في ابتلاع الأوراق بغرض مكافحة السلوكيات المرضية مثل فقدان الشهية، وسلوكيات الإبطال مثل تجنب البراز أو الطعام الملوث، والسلوكيات الوقائية التي تنطوي على استهلاك الأطعمة ذات الآثار الوقائية، والسلوكيات العلاجية التي تتميز بتناول مواد نشطة بيولوجياً أو سامة؛ للعلاج والأغراض والتطبيقات العلاجية الموضعية للنباتات النشطة دوائياً على الجسم، أو العش لعلاج الحالات الصحية الخارجية أو صد الحشرات.
في حين أن السلوكيات المرضية شائعة بين الحيوانات غير البشرية، فإن العلاج الذاتي من خلال تناول أجزاء نباتية معينة وليس ابتلاعها بالكامل منتشر، ولكنه يحدث بوتيرة منخفضة.
وقد لوحظت سلوكيات علاجية ذاتية، مثل مضغ اللب المر لنبات Vernonia amygdalina لعلاج عدوى الديدان لدى الشمبانزي. ويظهر هذا السلوك، بشكل موسمي، بالتزامن مع فترات ارتفاع معدلات الإصابة بالديدان وتوافر النبات، وفي إنسان الغاب البورنيوي، أظهر تحليل البراز الابتلاع المتعمد لأنواع معينة من النباتات ذات الخصائص الطبية.
فعلى سبيل المثال، لوحظ أن إنسان الغاب الصغير المصاب بجروح خطيرة يستهلك أوراق الزنجبيل وسيقانه، المعروفة بخصائصها المضادة للالتهابات والمضادة للميكروبات.
وبالمثل، حدد المعالجون التقليديون في كاليمانتان الوسطى، إحدى مقاطعات إندونيسيا، أنواعاً نباتية يستهلكها إنسان الغاب، وتُستخدم لعلاج الأمراض الداخلية والأورام، ورغم هذه الملاحظات، فإن الأدلة على استهلاك النباتات للتطبيب الذاتي في إنسان الغاب لا تزال محدودة بشكل عام.
كما كشفت ملاحظات سابقة عن قيام أنثى إنسان الغاب البورني البالغة والمراهقة بمضغ أوراق نبات Dracaena cantleyi لعدة دقائق، قبل فرك الرغوة الناتجة على أذرعها وأرجلها لفترات طويلة.
وأكدت الدراسات اللاحقة هذا السلوك لدى المزيد من إنسان الغاب ضمن المجموعة، ما يشير إلى طبيعته المتعمدة، إذ تم استهداف أجزاء معينة من الجسم، وتكرر السلوك عدة مرات حتى أصبح الشعر مبتلاً بالكامل.
أول حالة موثّقة
كما تستخدم المجتمعات الأصلية نبات Dracaena cantleyi في علاجات طبية مختلفة، الذي يمتلك خصائص مضادة للالتهابات من خلال التحليلات الدوائية.
كما توجد أدلة أيضاً على استخدام الشمبانزي أوراق الشجر لمسح الدم من الجروح، وفي الآونة الأخيرة، تم توثيق علاج الجروح النشط الذي يتضمن العلاج بالحشرات على الجروح، لأول مرة في أنواع القردة العليا.
ولوحظ كذلك أن القرود الكبوشية الأسيرة تشارك في علاج الجروح عن طريق الاستمالة بأداة مغطاة بالسكر، وقد يشير هذا إلى السلوك المتعلم من علاجات الجروح السابقة باستخدام مرهم مضاد للبكتيريا يطبّقه مقدمو الرعاية.
لكن الدراسة الجديدة تعرض أول حالة موثّقة لعلاج الجروح بمادة نباتية نشطة بيولوجياً بواسطة ذكر إنسان الغاب السومطري في البرية، وتؤكد وجود شكل من أشكال العلاج الذاتي لعلاج الجروح، وربما منْع العدوى وتسريع التئام الجرح.
السلوك الحيواني والتقاليد الطبية البشرية
ولا تسلط الدراسة الجديدة الضوء على الذخيرة السلوكية المتطورة لإنسان الغاب فحسب، بل تُقدم أيضاً رؤى جديدة بشأن أصول ممارسات العناية بالجروح عند البشر، فالاستخدام البديهي لإنسان الغاب للنباتات الطبية لمعالجة مشكلة صحية محددة يشير إلى مستوى من التعقيد المعرفي والقدرة على التكيف، وهو مستوى تم الاستهانة به سابقاً في الرئيسيات غير البشرية.
كما تؤكد الحالة الموثّقة لعلاج الجروح النشطة في إنسان الغاب السومطري على أهمية استكشاف، وفهم سلوكيات التطبيب الذاتي في الحيوانات غير البشرية.
وبعيداً عن مجرد غرائز البقاء، تعكس هذه السلوكيات فهماً دقيقاً للبيئة ومواردها، مع ما يترتب عليه من آثار محتملة على علم الأحياء التطوري، وأبحاث صحة الإنسان.
ويمكن لمزيد من الدراسات بشأن السلوكيات المماثلة عبر الأنواع أن تكشف عن أمثلة إضافية لممارسات الرعاية الصحية المبتكرة في مملكة الحيوان، ما يثري فهمنا لكل من السلوك الحيواني، والتقاليد الطبية البشرية.