كشفت دراسة أجريت على جمجمتين مصريتين قديمتين، عن أدلة جديدة للممارسات الطبية المتقدمة في العصور القديمة، إذ استخدمت أحدث تقنيات التصوير المقطعي المحوسب وتحليل سطح العظام المجهري؛ للكشف عن علامات أورام سرطانية وصدمات الجمجمة الشديدة، في الجماجم التي تم فحصها.
وحدد التحليل الذي أجراه باحثون من جامعات كامبريدج البريطانية، وتوبينجن الألمانية، وبرشلونة الإسبانية أن الجمجمة التي تحمل الرقم E270 تخص امرأة بالغة يزيد عمرها على 50 عاماً، ويعود تاريخها للفترة ما بين 663 و343 قبل الميلاد، فيما ترجع الجمجمة التي تحمل رقم 236 لرجل بالغ يتراوح عمره بين 30 و35 عاماً، ويعود تاريخها للفترة ما بين 2687 و2345 قبل الميلاد، تظهر على كلا الجمجمتين علامات المرض والإصابة.
كما كشفت الدراسة عن وجود ثقب كبير غير منتظم بين العظام الأمامية، والجدارية اليمنى للجمجمة الأولى، وتُظهر أيضاً مزيجاً من العظام المريضة، والتي من المحتمل أن تكون بسبب ورم خبيث في العظام، مثل الساركوما العظمية، أو الورم السحائي.
وتظهر الجمجمة أيضاً أثار إصابة ناجمة عن آلة حادة على العظم الجبهي الأيسر، وقد تسببت هذه الإصابة في حدوث كسر بحواف نظيفة وإزاحة بعض العظام، علاوة على وجود كسر مستدير ومنخفض في العظم الجداري الأيسر ناجم عن آلة حادة أخرى، وتقول الدراسة إن كلا الإصابتين تظهر عليهما علامات الشفاء.
بالنسبة للجمجمة والفك السفلي 236، لاحظ الباحثون وجود علامات أورام العظام الأولية والثانوية، وتقول الدراسة إن الإصابة الرئيسية في منطقة كبيرة، وغير منتظمة من تدمير العظام في تجويف الفك، مع تكوين عظام جديدة حولها، كما وجد الباحثون أيضاً مجموعة من الإصابات الأخرى في الفك السفلي، مما يشير على الأرجح إلى سرطان منتشر، ربما من سرطان البلعوم الأنفي.
وكشف التحليل المجهري أيضاً عن علامات قطع خطية واضحة مرتبطة بهذه الإصابات، والتي من المحتمل أنها حدثت خلال حياة صاحب الجمجمة، ولا تظهر هذه الإصابات أي علامات شفاء، ما يشير إلى أنها ظهرت في وقت قريب من الوفاة، وربما تكون تسببت في الوفاة.
ومن المثير للاهتمام أن الجمجمة رقم 236، تظهر علامات قطع قبل الوفاة بالقرب من السرطان النقيلي، ما يشير إلى إمكانية الاستكشاف الجراحي أو محاولات العلاج، وتم عمل هذه العلامات على العظام أثناء الحياة، ما يشير إلى أنها حدثت في وقت قريب من الوفاة، وليس أثناء عملية التحنيط.
علاج الأورام
وبينما كان المصريون القدماء متقدمين في علاج الإصابات، شكلت الأورام الخبيثة تحدياً كبيراً، وتظهر على كلا الجمجمتين "E270، و236" علامات السرطان، وتعتبر الجمجمة رقم 236، واحدة من أقدم حالات السرطان المعروفة في مصر القديمة، وتشير المرحلة المتقدمة إلى أن السرطان ربما يكون قد ساهم في الوفاة، ما يسلط الضوء على حدود الممارسة الطبية القديمة في علاج الأورام الخبيثة.
واستخدمت الدراسة التصوير المقطعي المحوسب لتوفير صور مفصلة ثلاثية الأبعاد للهياكل الداخلية للجماجم، ما يسمح بالتحديد الدقيق للإصابات وتشوهات العظام.
وتقول أستاذة الأشعة التشخيصية بجامعة القاهرة سحر سليم، التي قامت بتحرير هذه الدراسة ومراجعتها، إن هذه الطريقة مفيدة بشكل خاص لتصور مدى وطبيعة الإصابات الورمية داخل العظام.
وتشير "سليم" في تصريحات لـ"الشرق" إلى أن الفريق استخدم التحليل المجهري لسطح العظام، لفحص السطح الخارجي للعظام من كثب، وتحديد التفاصيل الدقيقة مثل علامات القطع، وملمس سطح العظام، ما يساعد على تشخيص الصدمات، وفهم استجابة العظام للإصابات والأمراض.
وتؤكد أستاذ الأشعة التشخيصية التي لديها باع طويل في فحص المومياوات الملكية باستخدام الأشعة السينية، أن الأدلة تشير إلى أن المصريين القدماء كان لديهم فهم متقدم نسبياً للرعاية الطبية، بما في ذلك القدرة على علاج الإصابات المؤلمة، وربما إجراء التدخلات الجراحية "فبعض إصابات الدماغ الموجودة في المومياوات، والتي تم شفاءها تؤكد أن لديهم بعض المعرفة بعلاج الإصابات، وإدارتها بشكل فعال".
ومع ذلك، يبدو أن أسلوبهم في التعامل مع الأورام الخبيثة كان محدوداً أكثر، كما يتضح من المرحلة المتقدمة للسرطانات التي تم العثور عليها، والطبيعة الاستكشافية للعلامات المقطوعة على إحدى الجماجم، كما كان للمصريين القدماء، عدة طرق للعناية بالجروح، ربما تتضمن التنظيف، وتضميد الجروح، وحماية الإصابات لتعزيز الشفاء.
وتؤكد "سليم" أن تحديد العلامات الموجودة قبل الوفاة المرتبطة بالإصابات التحللية النقيلية السرطانية يشير إلى أن المصريين القدماء حاولوا عمل التدخلات الجراحية "على الرغم من أن الطبيعة الدقيقة لهذه التدخلات لا تزال غير واضحة، إلا أن الأدلة تشير إلى مستوى من الاستكشاف أو العلاج الجراحي، ما يشير إلى أنهم لم يكونوا على دراية بالأمراض الباطنية فحسب، بل بذلوا أيضاً جهوداً لمعالجتها جراحياً".
كما يظهر تحليل الإصابات الورمية أنه على الرغم من قدرتهم على التعرف على آثار الأورام الخبيثة وربما فهمها، إلا أن قدرتهم على علاج هذه الحالات كانت محدودة، إذ "تشير المرحلة المتقدمة من السرطانات التي تم اكتشافها إلى أن أساليبهم في تشخيص وإدارة مثل هذه الأمراض لم تكن فعالة مثل علاجات إصابات الرأس".
الطب المصري القديم
لكن، هل كان هناك أي أوجه للتشابه بين الطرق التي يُعالج بها المصريين القدماء مرضاهم، وبين سائر الحضارات الأخرى في الوقت نفسه، مثل المصريين، مارس سكان بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات، أيضاً أشكالاً متقدمة من الرعاية الطبية، بما في ذلك الجراحة، كما كان لديهم تقاليد طبية غنية موثقة في نصوص مثل قانون حمورابي، الذي حدد مختلف العلاجات الطبية والإجراءات الجراحية.
وغالباً ما يتشابك طب بلاد ما بين النهرين مع الممارسات الدينية، والسحرية بشكل أكثر وضوحاً مما هو عليه في مصر، إذ تم توثيق تقنياتهم الجراحية، لكن هناك أدلة مادية أقل على العمليات الجراحية المعقدة مثل تلك التي تشير إليها العلامات الموجودة على الجماجم المصرية.
وأكد اليونانيون، وخاصة في عصر أبقراط والذي ولد نحو عام 460 قبل الميلاد، على الملاحظة التجريبية، والدراسة المنهجية للأمراض، تماماً مثل التحليل التفصيلي الذي شوهد في الجماجم المصرية.
وقد تقدم الطب اليوناني بشكل ملحوظ مع أعمال أبقراط ولاحقاً جالينوس، الذي وثَّق التقنيات الجراحية، وعلم التشريح بقدر كبير من التفصيل، وقام اليونانيون أيضاً بإجراء العمليات الجراحية، لكن نصوصهم الطبية وأطرهم النظرية كانت أكثر تطوراً مقارنة بما هو معروف من مصر.
وأظهر الطب الروماني، الذي تأثر بشدة بالممارسات اليونانية، تقنيات جراحية متقدمة، ونظام رعاية صحية منظم، وكان لديهم مستشفيات عسكرية وأدوات طبية متخصصة، وكان لدى الرومان نهج أكثر تنظيماً تجاه الصحة العامة، بما في ذلك البنية التحتية للصرف الصحي والصحة العامة، وتم توثيق ممارساتهم الجراحية جيداً من قبل شخصيات مثل سيلسوس، وجالينوس، ما يوفر صورة أوضح لقدراتهم الطبية.
وكان الطب الصيني، مثل الطب المصري، متقدماً للغاية في عصره، مع ممارسات مثل الوخز بالإبر وطب الأعشاب، إلى جانب العمليات الجراحية، إلا أن الممارسات الطبية الصينية كانت متجذرة بعمق في الإطار النظري القائم على موازنة الطاقات الجسدية، والذي يختلف عن النهج التجريبي والعملي إلى حد ما الذي شوهد في الممارسات الطبية المصرية، كما تم التركيز على الممارسات الجراحية بشكل أقل مقارنة بأشكال العلاج الأخرى.
وشمل الطب الهندي القديم، ممارسات جراحية، كما هو موثق في نصوص مثل سوشروتا سامهيتا، الذي يصف مختلف الإجراءات الجراحية والأدوات؛ وكانت الممارسات الجراحية الهندية متقدمة جداً، مع وصف تفصيلي لإجراءات مثل تجميل الأنف (الجراحة الترميمية)، وقد قدم إطارهم النظري، القائم على موازنة الأخلاط الجسدية، منهجاً شمولياً للصحة، والذي يختلف عن الأدلة الأكثر تركيزاً على العلاج التي شوهدت في الجماجم المصرية القديمة.
علم الأمراض القديمة
وتقول "سليم" إن الدراسة تكشف عن جانب مهم لا يتعلق بنتائجها فحسب؛ إذ إن التعاون بين علماء الآثار، والباحثين الطبيين، والمؤرخين يمكن أن يعزز بشكل كبير دراسة الممارسات الطبية القديمة، من خلال الجمع بين الخبرات والمنهجيات المتنوعة، إذ يساهم علماء الآثار بخبراتهم في التنقيب عن البقايا القديمة وتحليلها، وتقديم أدلة مادية على الحالات الطبية والعلاجات، فيما يجلب الباحثون الطبيون تقنيات التصوير المتقدمة مثل التصوير المقطعي والفحص المجهري؛ لتحديد الحالات المرضية والتدخلات الجراحية دون تدخل جراحي "باختصار يُمكن القول إن مشاركة تقنيات الأشعة تجلب اليقين للممارسات الأثرية".
وفي الوقت الذي يضع المؤرخون هذه النتائج في سياقها ضمن أطر تاريخية، وثقافية أوسع، ويربطونها بالسجلات المكتوبة والممارسات المجتمعية، تتيح الرؤى المتعددة دراسة الحالات المرضية في البقايا القديمة بشكل أكثر يقيناً "يمكن للباحثين إعادة بناء ملامح المرض، وفهم التحديات الصحية التي يواجهها السكان القدماء، وتحديد الأمراض المتوطنة، واستكشاف الاستجابات المجتمعية للأزمات الصحية".
ويسمح التعاون أيضاً لعلم الآثار التجريبي والأبحاث الإثنوجرافية، المعنية بوصف الأعراق البشرية، بالتحقق من صحة الفرضيات بشأن الممارسات الطبية القديمة، وأدوات التكرار، والعلاجات والتقنيات الجراحية، لتقييم فعاليتها واكتساب نظرة ثاقبة للخبرة الطبية القديمة.
ويستعد التقدم التكنولوجي لإحداث ثورة في دراسة علم الأمراض القديمة من خلال تقديم أدوات وأساليب جديدة تعزز الدقة والعمق والاعتبارات الأخلاقية في البحث، وتقول "سليم" إن تقنيات التصوير مثل المسح المقطعي المحوسب والتصوير بالرنين المغناطيسي عالي الدقة تسمح بإجراء فحص تفصيلي وغير جراحي للعظام والأنسجة، ما يتيح التحديد الدقيق للحالات المرضية وتحليلها.
كما توفر تقنيات التحليل الجزيئي مثل الحمض النووي القديم والتحليل النظائري نظرة ثاقبة بشأن الاستعداد الوراثي، والنظام الغذائي، وحركات السكان، وتسليط الضوء على أصول المرض وانتشاره. وتقدم التطورات في الفحص المجهري وعلم الأنسجة فحصاً تفصيلياً للبنية المجهرية للعظام وعلم الأمراض، ما يساعد على فهم تطور المرض وعمليات الشفاء.
دراسة الماضي من أجل المستقبل
وترى "سليم" أن دراسة الأمراض القديمة أمر بالغ الأهمية لا يتعلق بالماضي فحسب، بل المستقبل أيضاً، فالأساليب الحسابية بما في ذلك المعلوماتية الحيوية والنمذجة الإحصائية تعمل على تسهيل تحليل مجموعات البيانات الكبيرة، وتحديد أنماط انتشار الأمراض والتغيرات بمرور الوقت، كما توفر النمذجة ثلاثية الأبعاد، وعمليات إعادة البناء الافتراضية المستندة إلى بيانات التصوير رؤى أكثر وضوحاً عن الهياكل التشريحية، وتأثيرات الأمراض.
كما تقدم دراسة الأمراض القديمة، رؤى قيمة يمكن أن تعزز بشكل كبير قدرتنا على مواجهة التحديات الصحية المستقبلية "فمن خلال تتبع تطور مسببات الأمراض مع مرور الوقت، يمكن للباحثين توقع الطفرات المستقبلية والتكيف مع الأمراض".
وتقول الباحثة في علوم الأمراض القديمة، إن تحليل أنماط الأمراض القديمة يساعد على تحديد العوامل البيئية والوراثية وعوامل نمط الحياة التي تساهم في تفشي الأمراض، وتوجيه استراتيجيات الصحة العامة الحديثة للتخفيف من المخاطر، ومنع انتشار الأمراض "ففهم كيفية استجابة البشر تاريخياً لمسببات الأمراض يساعد الباحثين على فهم تكيفات واستجابات الجهاز المناعي، ما قد يساعد على تطوير اللقاحات والعلاجات".
ويمكن أن توفر بيانات الأمراض التاريخية لعلماء الأوبئة معلومات عن انتشار المرض، وطرق انتقاله، وتوزيعه الجغرافي، مما يسترشد بالجهود الحالية في مراقبة الأمراض وإدارتها، ومن خلال دراسة الحمض النووي الميكروبي القديم، يمكن للباحثين تتبع التطور التاريخي لمقاومة مضادات الميكروبات، وهو أمر بالغ الأهمية لمكافحة التحديات الحالية.
وترى "سليم" أن نتائج هذه الدراسة توفر نظرة ثاقبة لمستوى المعرفة الطبية، والأهمية التي تولى للرعاية الصحية في المجتمع المصري القديم "فالقدرة على علاج الإصابات الخطيرة، يؤكد القيمة المجتمعية التي يتم وضعها على شفاء المصابين، ورعايتهم وهو أمر يسلط الضوء على التفاعل بين المعرفة الطبية والقيم المجتمعية في رعاية المرضى والجرحى".