قدَّم بحث جديد، منشور في دورية "Nature Geoscience"، أدلة على أن المياه العذبة، الضرورية لبدء الحياة، ظهرت على الأرض منذ حوالي 4 مليارات سنة، أي قبل 500 مليون سنة؛ مما كان يُعتقد سابقاً.
وحلل الباحثون البلورات القديمة من "جاك هيلز" وهي منطقة في الغرب الأوسط لقارة أستراليا، وأعطت تلك البلورات -المعروفة باسم بلورات الزركون- والتي يعود تاريخها إلى مليارات السنين، رؤى مهمة حول الدورة الهيدرولوجية المبكرة لكوكبنا.
وتدفع نتائج البحث الجدول الزمني، لظهور المياه العذبة على كوكبنا إلى بضع مئات الملايين من السنين فقط بعد تكوين الأرض.
ويقول المؤلف الأول للدراسة، حامد جمال الدين، وهو أستاذ مساعد يعمل في جامعة خليفة بالإمارات العربية المتحدة، إن الفريق استخدام نظائر الأكسجين في بلورات الزركون، ليكتشف توقيعات نظائرية للأكسجين خفيفة بشكل غير عادي يعود تاريخها إلى ما قبل 4 مليارات سنة.
ويشير جمال الدين، في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، إلى إن نظائر الأكسجين الخفيفة هذه ترتبط عادة بالمياه العذبة الساخنة التي تغير الصخور العميقة تحت سطح الأرض.
معدن الزركون
يعد الزركون أحد أقدم المعادن الموجودة على الأرض وأكثرها متانة، وهو مقاوم للغاية للعوامل الجوية الكيميائية والفيزيائية، ما يعني أنه يمكنه البقاء أثناء العمليات الجيولوجية التي قد تدمر، أو تغير المعادن الأخرى، وهذا يجعل الزركون مرشحاً ممتازاً للحفاظ على المعلومات الجيولوجية القديمة.
تحتوي بلورات الزركون على كميات ضئيلة من اليورانيوم الذي يتحلل إلى رصاص بمرور الوقت، ما يسمح للعلماء باستخدام التأريخ باليورانيوم والرصاص لتحديد عمر بلورات الزركون بدقة عالية. وتعد القدرة على تأريخ هذه البلورات بدقة أمراً بالغ الأهمية لإعادة بناء تاريخ الأرض المبكر.
ويمكن لبلورات الزركون دمج نظائر الأكسجين أثناء تكوينها، من خلال تحليل نسب نظائر الأكسجين المختلفة -المعروفة باسم الأكسجين 18 والأكسجين 16- بحيث يمكن للباحثين استنتاج معلومات حول الظروف التي تشكل فيها الزركون.
في هذه الدراسة، قدمت التوقيعات النظائرية للأكسجين الخفيف بشكل غير عادي دليلاً على التفاعل مع المياه العذبة.
ويقول جمال الدين في تصريحاته لـ"الشرق": "يتشكل الزركون في الصخور النارية والمتحولة تحت ظروف درجات الحرارة المرتفعة، وأثناء تبلورها، فإنها تدمج الأكسجين من البيئة المحيطة بها".
نظائر الأكسجين
ويقوم العلماء بمقارنة نسبة النظير الأثقل "الأكسجين 18"، والذي يتكون جراء وجود المياه المالحة بالنظير الأخف "الأكسجين 16"، والذي يتكون جراء وجود المياه العذبة لتحديد ما إذا كانت النسبة أعلى أو أقل من المتوقع.
تشير القيم النظائرية الخفيفة للأكسجين إلى أن الزركون تشكل في بيئة تغيرت فيها القشرة عن طريق التفاعل مع الماء العذب، ولا يمكن أن يحدث هذا التفاعل إلا إذا كان هناك وجود كبير للمياه العذبة على السطح أو داخل القشرة الضحلة، مما يؤدي إلى تغيير الصخور وتوقيعاتها النظائرية قبل دمجها في الزركون.
ويقول جمال الدين إن وجود هذه التوقيعات النظائرية للأكسجين الخفيف في بلورات الزركون، التي يعود تاريخها إلى 4 مليار سنة مضت يشير إلى أن المياه العذبة، وبالتالي دورة هيدرولوجية فعالة، كانت موجودة في ذلك الوقت.
الكتل الأرضية والمياه العذبة
ويتحدى هذا الاكتشاف النظرية الحالية القائلة بأن الأرض كانت مغطاة بالكامل بالمحيطات قبل 4 مليارات سنة؛ إذ يشير إلى أن الكتل الأرضية والمياه العذبة كانت موجودة في وقت مبكر جداً، وهو ما مهَّد الطريق لازدهار الحياة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا بواقع أقل من 600 مليون سنة بعد تكوين الكوكب.
فوجود أرض على مستوى أعلى من سطح البحر، ومياه عذبة خلال هذه الفترة، يعني أن سطح الأرض لم يكن مغموراً بالكامل تحت محيط عالمي، كما كان يُعتقد سابقاً.
وهذا يعني أن المياه العذبة، المستمدة من هطول الأمطار في الغلاف الجوي، تفاعلت مع قشرة الأرض، وقد يتضمن هذا التفاعل تسرب مياه الأمطار إلى التربة والصخور، مما يؤدي إلى التجوية الكيميائية، وتغيير المعادن، وربما خلق التفاعل بين الماء العذب وقشرة الأرض موائل متنوعة ذات ظروف كيميائية وفيزيائية مختلفة.
وكانت هذه البيئات، بما في ذلك البحيرات الضحلة والأنهار والمناطق الساحلية، غنية بالمعادن والمواد المغذية، مما يوفر المكونات الأساسية للكيمياء قبل الحيوية وظهور الحياة في نهاية المطاف.
تفاعلات الحياة على الأرض
بالإضافة إلى تفاعلات المياه السطحية، من المحتمل أن وجود الكتل الأرضية سهَّل تشكيل الأنظمة الحرارية المائية، ومن الممكن أن تكون هذه الأنظمة، حيث يتفاعل الماء مع الصخور الساخنة بالقرب من المناطق البركانية، قد خلقت بيئات دافئة وغنية بالمغذيات.
ومن المعروف أن الفتحات الحرارية المائية والينابيع الساخنة غنية بالمعادن والمركبات العضوية، والتي يمكن أن توفر الظروف اللازمة لتطور أشكال الحياة المبكرة، كما أن وجود أرض مرتفعة عن سطح البحر يغمرها المياه العذبة قد يؤثر في مناخ الأرض المبكر وظروف الغلاف الجوي.
وتؤثر تلك الكتل الأرضية في أنماط الطقس، وتنظيم درجة الحرارة، ودورة الكربون، وتلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على بيئة مستقرة مناسبة للحياة. كما يساهم تفاعل الماء مع الصخور أيضاً في عزل ثاني أكسيد الكربون، مما قد يخفف تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري على الأرض في وقت مبكر، ما يعني وجود بيئات مستقرة وصالحة للحياة في وقت أبكر بكثير مما كان يُعتقد سابقاً.
وتفتح الدراسة آفاقاً جديدة للبحث؛ إذ يمكن أن تركز الدراسات المستقبلية على تحديد مناطق محددة حيث كانت هذه التفاعلات أكثر كثافة، واستكشاف أنواع المعادن، والمركبات العضوية الموجودة في تلك البيئات المبكرة، ومن خلال فحص المزيد من الزركون القديم والمعادن الأخرى، يمكن للعلماء تحسين الجدول الزمني للدورة الهيدرولوجية المبكرة للأرض وتأثيرها في تطور الحياة.