كشف فريق من الباحثين، العلامات الوراثية الرئيسية والجينات المرشحة التي تتحكم في سمات جودة الفراولة، في اختراق علمي قد يغيّر مستقبل زراعة هذه الفاكهة في العالم.
وتسلط الدراسة المنشورة في دورية "هورتكالتشر ريسيرش" Horticulture Research، الضوء على الأساس الجزيئي لسمات جودة الفاكهة الأساسية.
وحدد الباحثون بدقة 71 ارتباطاً بـ11 سمة جودة مختلفة، تجعل الفراولة أفضل من حيث الطعم، واللمعان، وفترة حفظها، ولا تَعد الدراسة بإنتاج فراولة ألذ فحسب، بل تقدّم حلاً للطلب المتزايد من المستهلكين على الفواكه عالية الجودة وذات عمر صلاحية أطول.
والجينات المرشحة، هي جينات تخضع للدراسة في مجال الترابط الجيني من أجل تحديد صلة الترابط بين التغير الجيني لجينات محددة وبين الأنماط الظاهرية لحالات مرضية.
والفراولة من بين أكثر الفواكه استهلاكاً على مستوى العالم، بسبب نكهتها الحلوة ولونها النابض بالحياة، وتعدد استخداماتها. كما أن الفراولة التي تُزرع حالياً هي نتاج قرون من التكاثر، نشأت من حدث تهجين تلقائي في فرنسا في القرن الثامن عشر، وأدى هذا التهجين إلى نوعين من الفراولة، هما الفراولة الجبلية والفراولة الساحلية.
وهذان النوعان لهما صبغيات معقدة للغاية، وهو ما أدى إلى إدخال تعقيد وراثي فريد في جينوم الفراولة، والذي تم إثراؤه منذ ذلك الحين من خلال إدخال الجينوم البري.
وبالتالي أصبحت دراسة جينوم الفراولة صعبة بشكل خاص بسبب طبيعتها المتشعبة، إذ تحتوي على 8 مجموعات من الكروموسومات.
وجعل هذا التعقيد من الصعب على العلماء تحديد الجينات المحددة المسؤولة عن السمات المرغوبة، مثل ثبات الفاكهة وحلاوتها ومقاومتها للتلف.
ومع ذلك، فإن التطورات التكنولوجية الأخيرة، بما في ذلك تسلسل الجينوم الكامل، مكنّت الباحثين من فحص المشهد الجيني بدقة غير مسبوقة.
قفزة كبيرة في جينات الفراولة
وتُمثّل الدراسة التي أجراها اتحاد من العلماء من أوروبا وأميركا الشمالية وآسيا، قفزة كبيرة إلى الأمام في جينات الفراولة، فمن خلال تحليل مجموعة متنوعة من 223 عينة من الفراولة، في الغالب من الأصناف الأوروبية، كان هدف الباحثين هو استكشاف الأسس الجينية لـ12 سمة رئيسية لجودة الفاكهة.
وتضمنت هذه السمات وزن الفاكهة، والصلابة، واللون، والحلاوة، والعديد من السمات الأقل دراسة مثل اللمعان ومقاومة القشرة، والتي تُعد بالغة الأهمية لجاذبية الفاكهة ومدة صلاحيتها.
وبدأ الباحثون بفحص البنية والتنوع الجيني لعينات الفراولة، وعلى عكس الدراسات السابقة التي ركزت في المقام الأول على الأصناف من أميركا الشمالية، تضمّن هذا البحث تمثيلاً غنياً للأصناف الأوروبية، والتي لم تتم دراسة العديد منها على نطاق واسع من قبل.
وتضمّنت الدراسة عينات من فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، بالإضافة إلى عينات تمثيلية من أميركا الشمالية وآسيا.
وباستخدام أدوات إحصائية متقدمة، حدد الفريق 3 مجموعات جينية مميزة داخل البحث، تتألف المجموعة الأولى، التي أُطلق عليها اسم "مجموعة الإرث والأصناف ذات الصلة"، بشكل أساسي من الأصناف الأوروبية الأقدم وأقاربها الأحدث.
أما المجموعة الثانية فتضمّنت "الأصناف الأوروبية المختلطة"، مزيجاً بين الأوروبية والأميركية، في حين ضمّت المجموعة الثالثة "الأصناف الأميركية والأوروبية المختلطة"، وهي مزيج من كاليفورنيا وفلوريدا ومناطق أخرى.
وقالت بياتريس دينويس، وهي إحدى الباحثين الرئيسيين: "تقدم هذه الدراسة نظرة شاملة على التنوع الجيني للفراولة وتأثيرها على جودة الفاكهة.. سيساعد تحديد العلامات الجينية الجديدة بشكل كبير برامج التكاثر التي تركز على تحسين سمات الفاكهة المهمة لكل من المزارعين والمستهلكين".
نتائج مذهلة
وكان أحد أكثر النتائج المذهلة التي توصّل إليها هذا التحليل هو اكتشاف تنوع جيني كبير داخل الأصناف الأوروبية، وخاصة تلك التي تم زراعتها بعد عام 1980.
ويتناقض هذا التنوع مع التباين الجيني المنخفض الذي لوحظ في بعض الأصناف في أميركا الشمالية، ما يشير إلى أن برامج الزراعة الأوروبية حافظت على قاعدة جينية أوسع، ما قد يوفر مصدراً غنياً للموارد الجينية غير المستغلة لجهود التربية المستقبلية.
وكانت القطعة الأساسية للدراسة عبارة عن سلسلة من دراسات الارتباط على مستوى الجينوم تهدف إلى تحديد المواقع الجينية المرتبطة بـ12 سمة من سمات جودة الفاكهة، إذ تمكّن الباحثون من إجراء رسم خرائط عالية الدقة لهذه السمات، وكشفوا عن إجمالي 71 ارتباطاً مهماً عبر جينوم الفراولة.
ومن بين الاكتشافات الأكثر أهمية تلك المرتبطة بصلابة الفاكهة، وهي سمة بالغة الأهمية لكل من رضا المستهلك وطول العمْر بعد الحصاد.
وحددت الدراسة مواقع السمات الكمية الرئيسية للصلابة، واللمعان، ومقاومة الجلد، والقابلية للتلف، وهي جميعها سمات حيوية لإنتاج الفراولة التي لا تبدو جيدة على أرفف المتاجر فحسب، بل تتحمل أيضاً قسوة النقل والتخزين.
ولاحظ الباحثون تركيزاً لهذه الصفات النوعية المهمة داخل منطقة منخفضة التنوع من الكروموسوم ثلاثي الأبعاد.
ويشير هذا الاكتشاف إلى أن جهود التربية الانتقائية ركزت تاريخياً على هذه المنطقة لتعزيز سمات معينة، ما قد يؤدي إلى انخفاض التنوع الجيني الملحوظ في هذه المناطق.
وعلى الرغم من ذلك، كشفت الدراسة أيضاً صفات نوعية جديدة لم تكن مرتبطة سابقاً بهذه السمات، ما يسلط الضوء على قيمة استكشاف الموارد الجينية الأقل تميزاً.
وكان أحد أكثر جوانب الدراسة إثارة، هو تحديد العلامات الجينية المرتبطة بلمعان قشرة الفراولة الذي يعطي هذه الفاكهة مظهرها الجذاب، وهي سمة تم تجاهلها إلى حد كبير في برامج الزراعة السابقة.
ومع ذلك، كشفت الدراسة أن اللمعان ليس مهماً فقط لجذب المستهلك، بل قد يلعب أيضاً دوراً في إطالة عمْر تخزين الفاكهة من خلال تحسين مقاومة القشرة.
وحدد فريق البحث جينات مرشحة قوية مرتبطة بسمة اللمعان، والتي تقع في نفس مكان الجينات المرتبطة بمقاومة القشرة.
إمكانيات جديدة لزراعة الفراولة
ويفتح هذا الاكتشاف المزدوج، إمكانيات جديدة لزراعة الفراولة التي تتمتع بجاذبية بصرية ومتانة أكبر، ما يقلل من الحاجة إلى معالجات ما بعد الحصاد ويحتمل أن يقلل من حدوث العفن أثناء التخزين.
وقال الباحثون، إن النتائج التي توصلت إليها الدراسة، لها آثار بعيدة المدى على زراعتها وعلى الصناعة الزراعية على نطاق واسع، فمن خلال توفير خريطة طريق جينية مفصلة، يقدّم البحث للمزارعين الأدوات التي يحتاجون إليها لاختيار السمات التي تعزز النكهة والمظهر ومدة الصلاحية بشكل أكثر فاعلية، وهو أمر مهم بشكل خاص في السوق، حيث يتزايد الطلب الاستهلاكي على الفراولة عالية الجودة واللذيذة.
وعلاوة على ذلك، فإن تحديد العلامات الجينية المرتبطة بسمات الجودة المتعددة يفتح الباب لتطبيق تقنيات الزراعة المتقدمة، مثل الاختيار بمساعدة العلامات الوراثية وتحرير الجينوم.
وتسمح هذه التقنيات للمزراعين بإدخال أليلات (نسخ جينية) جديدة في الأصناف الموجودة، وضبط السمات المحددة دون الحاجة إلى التهجين المكثف.
والأليل هو نسخة أو شكل بديل للجين أو موقع كروموسومي، وللجين على الأقل نسختان أو شكلان بديلان.
وعلى سبيل المثال، يمكن استخدام تحرير الجينوم لتعزيز حلاوة أو صلابة الفراولة من خلال تعديل الجينات ذات الصلة التي تم تحديدها في هذه الدراسة بشكل مباشر.
وعلى نحو مماثل، يمكن للمزارعين استخدام الأدوات الجينية لتطوير أصناف جديدة تجمع بين السمات المرغوبة من كل من البلازما الجرثومية الأوروبية والأميركية الشمالية، ما قد يؤدي إلى إنتاج فراولة لذيذة وأكثر مرونة في مواجهة الضغوط البيئية.