بينما تقطع زخَّات الرصاص ليل السودانيين ونهارهم، في مسلسل الحرب المستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ منتصف أبريل 2023، لا يعدم من بقي من سكان مناطق القتال حيلة في الحفاظ على ما تبقى من مفردات حياةٍ كالحياة.
عندما انطلقت أول رصاصة في الحرب، كان كثير من الشباب السوداني يحصي ترتيبات الزواج، وفي ذهنه قائمة مزدحمة من الطقوس الاجتماعية التي توارثتها الأسر جيلاً بعد جيل، غير أن تداعيات الحرب الكارثية أعادت ترتيب أولويات كل راغبٍ في الزواج، حتى بات الأمر يقتصر على الضروريات وحدها، ما بات ينظر إليه بعض المقبلين على الزواج باعتباره "فرصة يجب اغتنامها وتعجيل الزفاف".
الشاب السوداني محمد علي أحد هؤلاء، إذ أكمل، قبل أيام، مراسم زواجه بعد انتظار دام سنوات.
ويقول مصدر بالسلطة القضائية في البلاد لـ"الشرق"، إن الحرب زادت من رغبة كثير من شبان السودان في الزواج.
وأوضح أن غلاء المهور، وارتفاع تكاليف الزواج قبل الحرب، كان يدفع الشباب نحو العزوف عن الارتباط، لكن المفاجئ أن السلطات المختصة رصدت ارتفاع طلبات استخراج وثائق الزواج بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب.
المصدر نفسه قدَّر نسبة الارتفاع في توثيق عقود الزواج بعد الحرب بحوالي 35% مقارنة بالأعوام الماضية.
وذكر المصدر القضائي أن الكثير من الزيجات التي تعقد في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع "لا توثَّق بسبب توقف مؤسسات الدولة هناك، وهذا يزيد من احتمالية أن ارتفاع معدلات الزواج وسط الشباب يفوق النسبة المذكورة".
أفراح رغم دوي المدافع
ظل الشاب السوداني محمد علي يكافح لـ4 أعوام من أجل إكمال مراسم زواجه، غير أن التكلفة الباهظة كانت تحول دون ذلك.
قبل الحرب، في مارس 2023 على سبيل المثال، كان متوسط تكلفة الزواج يبلغ نحو 4 ملايين جنيه سوداني (حوالي 6.650 دولار أميركي) من تجهيز أثاث المنزل، ومستلزمات العروس، وهي عبارة عن ملابس ومستحضرات تجميل، وذهب، إلى جانب استئجار صالة مع وجبة عشاء للضيوف وغيرها من متطلبات الزواج.
ومع تردي الحالة الاقتصادية بشكل عام بسبب الحرب، فقد بات تدبير مثل هذا المبلغ تحدياً كبيراً لكل مقبلٍ على الزواج.
وأمام هذه المعضلة، لجأ الشاب السوداني إلى ترتيب مراسم زواج بسيطة في أم درمان، غرب العاصمة الخرطوم، لم تكلفه سوى مليون جنيه سوداني (نحو 1.650 دولار أميركي).
ولم تحل أصداء الاشتباكات المتقطعة بالمنطقة، دون إقامة علي لمناسبة زفافه، فراح ينصب خيمة صغيرة، بجوار منزل عائلته في أم درمان، تتسع لنحو 70 شخصاً من الجيران والأقارب، وتجهيز وجبة إفطار بعد عقد القران.
وقبل صلاة الجمعة، كانت مراسم الزواج البسيطة انتهت، وقد ارتسمت على وجوه المشاركين فرحة نادرة أظهرتها صور المناسبة السعيدة، بعدما طغت صور فظائع الحرب على ما عداها في حياة أهل السودان.
ينطبق على زفاف الشاب السوداني محمد علي بالإمكانيات البسيطة في ظل الحرب، المثل القائل: "رب ضارة نافعة"، إذ يقول في تصريح لـ"الشرق"، إنه استطاع إتمام الزواج بما يتوافق مع مصدر دخله المحدود.
ويوضح: "لم يكن بإمكاني فعل ذلك في الظروف الطبيعية التي تحتاج الكثير من المتطلبات، وأدعو الشباب لعدم الانتظار طويلاً، واغتنام هذه الفرصة".
كما ناشد العائلات السودانية بتسهيل الزواج "في ظل الظروف التي يمر بها السودان".
تسهيل أمور الزواج
مع استقباله طلبات زيجات تتراوح بين 3 و5 في الأسبوع حالياً، يرى المأذون بالمحكمة الشرعية في أم درمان، عيسى جبريل، أن معدلات الزواج ارتفعت بعد الحرب.ويقول لـ"الشرق"، إنه لم يكن يتلقى أكثر من طلبين إلى 3 طلبات في الأسبوع قبل الحرب.
وعزا جبريل ارتفاع معدلات الزواج وسط الشبان إلى تسهيل العائلات أمور الزواج، وتخليها عن بعض المتطلبات، مثل المهور العالية، واستئجار قاعة للزفاف، وشراء المجوهرات، وغيرها.
وأضاف: "كثيراً ما كنا ندعو الناس إلى تيسير أمور الزواج، دون أن يستجيبوا لحديثنا، لكن الظروف الاقتصادية القاهرة نتيجة للحرب الدائرة أجبرتهم على ذلك".
شقيقان وزفاف واحد
في مكان ليس ببعيد عن مقر زفاف محمد علي بمدينة أم درمان، تعالت زغاريد الفرح إيذاناً بانطلاق مراسم زواج الشقيقين أحمد ومحمد إبراهيم، اللذين قررا إكمال زواجهما في يوم واحد لتقليل النفقات والتخفيف على الأهل والجيران، فبدأت المراسم بتخضيب اليدين والقدمين بالحناء/ وسط تعالي زغاريد الأهل والجيران، وهي عادة درج عليها السودانيون منذ وقت طويل.
تقول أم زين، وهي والدة الشقيقين أحمد ومحمد: "قررنا إتمام مراسم زواج أولادي بشكل بسيط، مع حضور محدود من الأهل والجيران نتيجة الظروف الأمنية والاقتصادية، غالبية الأهل في مدن العاصمة الأخرى والولايات السودانية المختلفة يصعب عليهم الوصول بسبب الحرب، فاكتفينا باستقبال التهاني عبر الهاتف فقط".
كان أحمد يخطط للزواج قبل اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل من العام الماضي، لكن لم يستطع جمع المال الكافي لإكمال المراسم، وبعد مرور ما يقارب العامين على الصراع، اتفق مع خطيبته على تسهيل الزواج، وإتمام المراسم بصورة مبسطة مراعاة للأوضاع السيئة التي تشهدها البلاد. تقول الأم: "انتهزنا الفرصة وقررنا تزويج أحمد وشقيقه الأصغر محمد في يوم واحد".
أكبر أزمة جوع
فضلاً عن عشرات الآلاف من الضحايا الذين قضوا جراء الحرب في السودان، تقول الأمم المتحدة إن الصراع دفع 11 مليوناً إلى الفرار من منازلهم، وتسبب في أكبر أزمة جوع في العالم.
ويحتاج نحو 25 مليون نسمة، أي نصف سكان السودان تقريباً، إلى المساعدات في وقت تنتشر فيه المجاعة في مخيم واحد للنازحين على الأقل.
ويشكل إحصاء عدد الضحايا تحدياً في ظل الحرب، وفق باحثين.