"الزند: ذئب العاصي".. بين بناء الملحمة الدرامية وشرعية الاقتباس

الملصق الدعائي لمسلسل "الزند.. ذئب العاضي" - المكتب الإعلامي لقنوات mbc
الملصق الدعائي لمسلسل "الزند.. ذئب العاضي" - المكتب الإعلامي لقنوات mbc
القاهرة-عصام زكريا*

هذا عمل تستعيد به الدراما السورية مكانها ومكانتها على ساحة الدراما العربية، وإذا كانت كلمة "ملحمة" تُطلق كثيراً على بعض الأعمال هذه الأيام، فإن العمل الذي يستحق فعلياً هذه الصفة هو "الزند..ذئب العاصي"، ليس فحسب لإنه يتناول ملحمة (أو عدة ملاحم) شعبية معروفة في ثوب درامي، ولكن أيضا ينتمي سردياً وبصرياً إلى نوع وأسلوب الدراما الملحمية التليفزيونية.

عناصر ملحمية

أبرز عناصر الملحمة الدرامية التي يحفل بها "الزند" البطل الخارق، والشرير المطلق، والمعارك الخيالية، وامتداد الصراع على مر الأجيال بين معسكري الخير والشر، ووجود شخصيات كثيرة تنضم إلى معسكر البطل أو غريمه، وتشارك في صنع الأحداث، وربما تغير ولائها بمرور الوقت، ووجود قصص فرعية متعددة تغذي الخط الرئيسي، وقصص حب عظيمة تقاوم المنع والغيرة والمكائد لا تقل سخونة أحياناً عن نيران المعارك، وقبل ذلك كله أسطرة هذا الصراع ليصبح استعارة ومجازاً لتاريخ شعب بأكمله.

"الزند" أو "ذئب العاصي" الذي بدأ عرضه منذ أول رمضان الحالي على منصة "شاهد" وعدة قنوات، كتبه المؤلف والمخرج المسرحي الشاب عمر أبو سعدة، ويخرجه سامر البرقاوي (صاحب خماسية مسلسلات "الهيبة" التي تحولت إلى فيلم أيضاً)، ويلعب بطولته تيم الحسن (بطل "الهيبة") مع دانا مارديني، وأنس طيارة، وفايز قزق، وعدد كبير من نجوم الدراما السورية.

وحسب طبيعة النوع الملحمي وإيقاع  دراما المسلسل، فمن المتوقع أن يمتد العمل لموسم، أو عدة مواسم، رمضانية قادمة.

بداية، ومنذ اللقطة الأولى، يتخذ العمل نبرة الملحمة في دمجها، ومحوها، لحدود التاريخي والأسطوري، من خلال عبارات على الشاشة تقول:

"في القرن التاسع عشر أصدر الباب العالي في السلطة العثمانية مجموعة من القوانين لتنظيم ملكية الأراضي بشكل رسمي، والذي عرف باسم الطابو...أعطت عملية التسجيل الفرصة لأصحاب النفوذ من مالكي الأراضي الكبيرة للاستيلاء على البقية الباقية من الأراضي الخارجة عن سلطة الإقطاع؛ وبذلك تحول صغار الملاك من المزارعين الذين عاشوا على أرضهم أحرارا لأُجراء ومرابعين عند سادتهم الإقطاعيين إلَا أن بعضهم رفض الرضوخ لهذا الظلم.....وهذه حكايتهم".

تاريخ يتلفح بالفانتازيا.. والعكس

نحن إذن أمام تاريخ يتلبس بالفانتازيا، أو فانتازيا تتلبس بالتاريخ، سيصعب علينا دوما أن نفرق بينهما، وهذه أولى عناصر الملحمة التي تختلف عن التاريخ في خياليتها، وتختلف عن الفانتازيا في أصولها ودلالاتها التاريخية.

بالرغم من أن أحداث العمل تدور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أن القصة تستند بالأساس إلى واقعة تاريخية حدثت خلال أربعينيات القرن العشرين، بطلها رجل اسمه علي شاهين أطلق عليه لقب الفهد، تحدى ظلم المحتلين والاقطاعيين، وخاض ضدهم معارك طاحنة، قبل أن يتعرض للخيانة، ويتم اعتقاله وشنقه. وقد تحولت قصته إلى حكاية شعبية، والحكاية الشعبية إلى رواية بعنوان "الفهد" من تأليف حيدر حيدر، كتبها 1969، وصدرت منذ ذلك الحين في عدة طبعات، وبدورها تحولت الرواية إلى فيلم من تأليف وإخراج نبيل المالح، 1972، حاز العديد من الجوائز ويعد من كلاسيكيات السينما السورية.

ومن الواضح أن مؤلف المسلسل دمج بعض الحكايات المماثلة من بداية القرن، مع حكاية على الفهد، وربما غيرهما من الحكايات الشعبية المماثلة. 

مشهد من مسلسل
مشهد من مسلسل "الزند.. ذئب العاصي" - facebook/actortaimhassan

تشابهات مدهشة

من الطريف أن حكاية علي الفهد، أوعاصي الذئب، تتردد عبر حكايات شعبية أخرى ليس في سوريا فقط، ولكن في كثير من البلاد العربية.

ومن المدهش مثلا قدر التشابه بين حكاية علي الفهد وحكاية أدهم الشرقاوي المصرية، في المضمون والتفاصيل وفي كون كل منهما بدأ كواقعة تاريخية ثم تحول إلى ملحمة خيالية غنائية، تتردد عبر مواويل العتابا في سوريا، والمواويل الشعبية في مصر! 

مثل حكاية علي الفهد، وكثير من الحكايات المماثلة أيضاً، يعود البطل إلى قريته بعد فترة غياب قضاها كجندي مغوار في الحروب، ليخوض حربه الخاصة ضد من قتلوا أسرته وسلبوا أهل قريته.

هنا يهرب عاصي المراهق عقب قيامه بطعن قاتل أبيه ويغيب عن قريته لسبعة عشر عاماً بعد مشاركته في حرب البلقان الأولى (من 1912 إلى 1913) كجندي تابع للإمبراطورية العثمانية، وهي الحرب التي كانت بداية النهاية لدولة الخلافة العثمانية، حيث انتهت بهزيمتها، التي سبقت هزيمتها الأكبر في الحرب العالمية الأولى. وهذا البعد التاريخي يتخذ في "زند العاصي"، كما في معظم الملاحم، معان ودلالات عابرة للزمن.

المدهش أيضا قدر التشابه بين البناء الشعري للعتابا والرباعيات والمواويل، في كونها تعتمد على فقرات مكونة من أبيات قصيرة وعلى الجناس الكامل والناقص، والقافية التي تنتهي بها كل الأبيات ما عدا الأخير!

مرجعيات عربية وأجنبية

يحمل "الزند" أيضا مرجعيات سردية وبصرية لأعمال سينمائية وتليفزيونية عدة، عربية وغربية، مثل فيلم "الأرض" ليوسف شاهين (1970)، المأخوذ عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، ومسلسل "الوسية" لإسماعيل عبد الحافظ (1990)، المأخوذ بدوره عن رواية أشبه بالسيرة الذاتية للدكتور خليل حسن خليل، ولعب بطولته أحمد عبد العزيز ومحمود حميدة.

من رواية وفيلم "الأرض" نجد مثلا حصار قرية عاصي الزند بالهجانة، وتعاطف العسكر القادمين لمحاصرتها، وهم أيضا من أبناء الأرض المقهورين، ثم معاقبة كبير القرية بحلق شاربه، ما يتسبب في حزنه واخفاءه لوجهه، مثلما حدث للممثل محمود المليجي في "الأرض".

ومن المرجعيات البصرية الأجنبية لمسلسل "الزند" نجد مسلسلي "Game of thrones" الذي يحمل العمل بعضا من مرجعياته البصرية واللونية، و"Vikings"، كما يظهر في مشاهد المعركة على ضفاف وداخل مياه نهر العاصي، التي تنتهي بها الحلقة الحادية عشر، ومن بين معارك المسلسل الكثيرة تعد هذه المعركة أكثرها ابتكارا وأفضلها تنفيذا. كما يمكن أن نشير أيضا إلى أعمال مثل "Gangs of New york"، في تصويره لوحشية المعارك الجسدية المباشرة، أو "Seven Samurai" في الحلقة الخامسة، التي تشهد استعداد وقتال القرية في مواجهة عصابات الطرق الناهبة.

لا يخجل مؤلف العمل ومخرجه من استعارة الكثير من تقاليد وخطوط سرد وشخصيات و"موتيفات" الكثير من الأعمال المشابهة، ففي الحقيقة هذا "التناص" كان، ولم يزل، مقوما أساسيا للملاحم والحكايات الشعبية التي تنهل من بعضها البعض.

مشهد من مسلسل "الزند.. ذئب العاصي" - facebook/actortaimhassan

صوت الموال الشعبي

يعتمد "الزند" كذلك على مقومات الملحمة الشعبية الغنائية في استخدامه لكثير من الأغنيات والمواويل الشعبية، خاصة التي تنتمي لنوع العتابا، كما في شارتي المقدمة والنهاية، وأيضا من خلال شخصية الغجرية المغنية التي تؤديها المطربة سارة فرح، وشخصية ابن العمة المجند، الذي يشدو بعدد من المواويل المحلية.

لطالما اتسمت الدراما السورية الجيدة بعنصر التصوير، ويعتمد مسلسل "زند العاصي" بدوره على عنصر التصوير في تجسيد فكرة الملحمة التاريخية الأسطورية، حيث نجد الطبيعة البديعة القاسية والقرى والمدن القديمة وحركة المجاميع والمعارك والاضاءة الأيقونية للأبطال، ولا دهشة من تميز عنصر التصوير إذ يقف وراءه مدير التصوير البولندي الكبيرزبيجنيف ريبشنسكي، الذي طالما أثرى الدراما العربية بأعماله، ويماهي المسلسل من خلال اسم عاصي وشخصيته وعنصر التصوير بين البطل والنهر العريق.

لعل الجديد الذي يضيفه كل من مؤلف ومخرج "الزند" هو تصويرهم لشخصية البطل مجردا من المثاليات المعتادة في الأعمال العربية، حيث يتحول عاصي إلى ذئب بالفعل مع مرور الوقت، ولا يحاول المسلسل أن يخفي أو يجمل هذه الحقيقة، فهو يقتل خصومه بدم بارد، بل ينكل ويمثل بجثثهم أحياناً، وهو يتزعم عصابة لسرقة البنك وخزائن أعداءه، ولا يتردد في ترك قريته تتعرض للحصار والتجويع، كنوع من الخسائر المؤقتة. ولست متأكداً ما إذا كان صناع المسلسل يريدون أن يقولوا أن العنف والوحشية لا يولدان سوى العنف والوحشية، أم أنهما يميزان بين عنف ووحشية "الأشرار" ووحشية وعنف "الأخيار"، يدينون الأولى، ويبررون الثانية.

حتى الآن يصعب التنبؤ بما سيأتي من أحداث وتحولات للشخصيات. ولهذا يستحسن أن نتروى في الحكم، ونتوقف هنا.

* ناقد فني

اقرأ أيضاً:

تصنيفات