"عالق" في التكرار.. قراءة في أعمال يون فوسه الفائز بنوبل

الكاتب النرويجي يون فوسه الحائز على نوبل الأدب (2023) - winjeagency.com
الكاتب النرويجي يون فوسه الحائز على نوبل الأدب (2023) - winjeagency.com
الدار البيضاء-مبارك حسني

استحوذت "السباعية" للروائي والكاتب المسرحي يون فوسه، الحائز على نوبل الأدب 2023، على اهتمام النقّاد والقرّاء حول العالم، وتضمّ سبع روايات تنتظم في ثلاثة مجلّدات، يدوم زمان حكيها طيلة أيام الأسبوع. صدرت الترجمة الفرنسية للمجلّد الأول بعنوان "الاسم الآخر"، وهي تخصّ يومَي الاثنين والثلاثاء. أما المجلدان الآخران، فيحملان عنواني "الاسم الثاني" والاسم الجديد".

يبدو أن أثر الليل الثلجي المديد الذي تعيشه شعوب الدول الإسكندنافية، لقربها من القطب الشمالي، يجعلها الأجدر بالسؤال عن معنى الوجود الإنساني، وتجريح الإجابات الممكنة عنه.

 بدءاً من فيلسوف الوجودية الأول الدنماركي الشهير سورين كيركغارد. وها هو الكاتب النرويجي يون فوسه، البالغ من العمر 62 سنة، الحائز على جائزة نوبل للأدب 2023، يحذو حذوه في سِفْر روائي ضخم، أطلق عليه عنوان "السباعية" أو "septologie". 

بعد أن جرّب من قبل التطرّق إلى البعد الإنساني بما هو مسألة وجود، واشتهر بها عالمياً، ككاتب مسرحي، عُرضت نصوصه المسرحية في بقاع العالم أجمع، إلى حدّ أنه لُقّب بـ"إبسن الجديد"، في إشارة إلى مواطنه المسرحي الشهير هنريك إبسن. 

وبالفعل فكتابته الدرامية تضع الإنسان في عمق الصراع مع الفراغ والصمت واللاشيء، فيما اصطلح عليه بالعبث، على غرار صمويل بيكيت، الذي تحيل إليه بشكل أكيد عوالمه وشخوصه المتميزة بالتقشف الكبير، لكن المحكّم.

تلعب الرواية على التكرار باستمرار، وتضمّ الفواصل لا غير، ولا توجد بها نقاط بين الجمل. هي عبارة عن جملة واحدة تجتاز قرابة 500 صفحة. وهو ما يطلق عليه الكاتب ب"النثر البطيء". 

وحدة في انفصام

وفي علاقة بما أوردناه، تتطرّق رواية "الاسم الآخر" إلى ثلاث ثيمات رئيسة:

 تتعلق الأولى بتأملات وأفكار بخصوص الفن التشكيلي، وتحديداً الرسم الصباغي، منتثرة بشكل لافت في ثنايا الأحداث المروية.

 وتخصّ الثانية تأثير الوحدة والملل والتعاسة والإدمان على الكحول، كسمات تتّصف بها شخصيات معيّنة، أو كصفات مسيطرة محدّدة لسير هذه الأحداث.

 أما الثالثة فهي مرتبطة بمسألة العقيدة الدينية والإيمان، كأمر ملازم وخفي يسكن الذهن والروح، ويفرض موقفاً أو حلاً لمن لا يجد حلاً في وقائع الأمور. 

الترجمة الفرنسية لـ"سباعية" يون فوسه الفائزة بجائزة نوبل الأدب 2023

"أسلي".. شبيه الكاتب

وتتداخل الثيمات فيما بينها بشكل سَلس ومُدمَج، عبر حكاية الراوي البطل المُسمّى "أسلي"، وهو فنان تشكيلي، ذو شعر طويل أشيب (شبيه الكاتب بالتمام)، الأرمل والوحيد، الذي يعيش في قرية بالجنوب الغربي للنرويج، رفقة صور ماضية لزوجته وعائلته وعلاقاته، فضلاً عن أشباح ذهنية تشاركه حياته، تحضر كُلها وتفعل في مجريات يومه، من دون أن يكون لها حضور جسدي. 

يحدث هذا في زمن ممتدّ ينطلق من مُجريات حاضره، حيث تسود الوحدة نحو ماضي الذكريات، لينعكس في مستقبل ما، عنوانه تفكير عميق فيما يقع، ولماذا وقع، وهل كان حرياً أن يقع بهذه الصيغة أو بأخرى. كما تحضر الأحلام والاستيهامات والوقائع الحقيقية، لتخلق توليفة متماسكة من الأحداث والمواقف والمشاعر والأفكار.

تشارك في إبراز هذه النواحي الحياتية الخاصة شخصيتان: جار له يحترف الصيد، وفنان تشكيلي يحمل الاسم نفسه، "أسلي"، وهو مدمن على الكحول، ويعيش في بلدة بعيدة قليلاً. 

الجديد الذي ابتدعه الكاتب يون فوسه، هو بجعله هذا الراوي يعيش حياةً هادئة بلا مشاكل، ولا تقضّها مواجع، على الرغم من العزلة وافتقاده لرفيقة حياته، وما يفرضه ذلك من مواجهة للذات باستمرار. فتكون حياة التعاسة والوجع من نصيب الرسّام الثاني الذي هزمه طلاقه من زوجته، وإصابته بالعقم الفني، وإدمانه على الكحول، إلى حدّ الإصابة بالانهيار الكلّي.

هذا الواقع النفسي السيء دفع "أسلي" الأوّل إلى مساعدته والاهتمام به. وذلك حين سارع إلى إنقاذه والذهاب به إلى المستشفى، بعد أن تهاوى على الأرض الثلجية ذات ليل، إثر نوبة صحية، بسبب لحظة إدمان قوية؛ ولما فعل، قضى ما تبقى من الليل في فندق، ثم عاد رفقة كلبه ليتكفّل برعايته. ما يعني أن أسلي الهانئ يهرع إلى إسناد "أسلي" المتهاوي.

وصلُ شخصيتين

هناك ذكاء أدبي خاص في وصل هاتين الشخصيتين الحاملتين للاسم نفسه، "أسلي"، كما لو كانا تجسيدين مختلفين ومتناقضين معيشياً، لرجل واحد، إلى حد أنه يحدث أن يتخيّله رغم بعده عنه. 

يقول في إحدى الفقرات، "وما زلت أقود سيارتي في اتجاه الشمال، في الظلام، فأرى "أسلي" جالساً على أريكته، وهو ينظر إلى شيء ما، لكن كما لو كان لا ينظر إلى هذا الشيء، يرتجف ويرتعش، يرتجف طوال الوقت، يرتعش طوال الوقت، وهو يرتدي الملابس نفسها التي أرتديها تماماً".

ما يفرّق بين الشخصيتين، ويحدّدهما عند قراءة الرواية، هو توظيف: "أعتقد أن" بالنسبة للأوّل، و"قال" بالنسبة للثاني. الشيء الذي يمنح الفقرات امتداداً سردياً يكاد لا يتوقّف، يأخذ في الكثير من الأحيان صيغة مونولوج أو حديث حميمي طويل.

هي علاقة تنتقل من التماهي إلى المفارقة، من دون أن يتبدى خط فاصل بينهما. لأن الوقائع ليست كثيرة، أو تتولّد من بعضها البعض.

فمثلاً، حين يلتقي "أسلي" بجاره الصيّاد، يتبادلان الكلام نفسه عن الأشياء المألوفة نفسها، من دون أن يكون هناك إحساس بالتكرار المُملّ. والسبب يعود إلى سلطة القراءة التي لا تدع وقتاً لذلك، كما لو أنها تجرف القارئ نحو آفاق أخرى مخبّأة خلف المحكي الظاهر. 

غلاف
غلاف "السباعية" الفائزة -winjeagency.com

فواصل.. لا نقاط توقف

لأنها كُتبت بأسلوب بسيط جداً وبكلمات محدّدة، إلا أنها تتميّز بخفّة ودقّة جاذبتين، لا تثقل على الذهن. هذا على الرغم من أن الرواية، وهو أمر لافت للانتباه،  تلعب على التكرار باستمرار، وتضمّ الفواصل لا غير، ولا توجد بها نقاط بين الجمل. فالرواية عبارة عن جملة واحدة تجتاز قرابة خمسمائة صفحة. وهو ما يطلق عليه الكاتب بـ"النثر البطيء". 

أنظر إلى الصورة بغاية أن أرى فيها كيف وأين يلمع النور في الصورة، لأن الصورة تتضمّن أكبر قدر من النور، حين تكون في الظلام، ولهذا السبب أعتقد وبدون أدنى شك أن الاقتراب من الله يحصل في حالة اليأس، أي في الظلام".

سلطة الفن والإيمان 

في تصريحه لموقع جائزة نوبل بعد الإعلان عن فوزه، قال فوسه "أنا لا أحاول التعبير عن أي شيء، وكثيراً ما أقول إنني لا أحاول التعبير عن نفسي، بل أحاول الابتعاد عن نفسي بالكتابة. للهروب مني، كالشرب أو أي شيء يمكن فعله للهروب من الذات؛ وهذه ليست طريقة للتعبير عن نفسي. لكن من خلال الكتابة، أشعر وكأني أدخل عالماً جديداً، مكاناً آخر. أغيّر الأماكن، أغيّر المزاج. الأمر نفسه ينطبق على كل ما أكتبه". 

ربما هذا ما يفسّر طغيان الأفكار ووصف العواطف والأحاسيس المنبعثة من فعل ما ولو كان تافهاً. لأن الأهم عند فوسه هو رصد ما يحوم حول الأشياء والسلوكيات والتصرّفات، أي ما يمكث خلفها، ويمنح إمكانية انبثاق شيء جميل يمحو اليأس والسواد، أو يجيب عن سؤال مبهم أو وضعية غير مفهومة، ويكون له اسم دال يرشد الباحث إلى خلاص ما. 

هناك صراع يدوم ولا ينتهي، تؤكّده تلازم رتابة الفعل الإنساني الذي لا يتغيّر، وقدرية المُصاب المُحتمل، أي ذلك التكرار الدائم أو العَود الدائم للشيء ذاته والفعل نفسه.

هنا يحضر الفن والإيمان كمرتكزين أساسيين لهذا الخلاص. تقول الشخصية الرئيسية، "أستطيع أن أجلس هكذا لفترة طويلة، وأعتقد أن هذه اللحظات الصامتة هي التي تتحوّل إلى نور في لوحاتي، إلى نور يصبح مرئياً في الظلام، نعم يصبح ظلاماً منيراً".

يؤكد فوسه بأن النور هو أساس الفن في كل عمل فني ناجح، وحين يقول ذلك، فإنه يفعل أمام لوحة هو بصدد الاشتغال عليها، ويستحضرها وهو يتأمّل مشهداً في الخارج، فيحثّ ذهنه على التفكير فيما يودّه من رسمها، أي لوحة يرغب في أن لا تشبه ما سبقها.

 وكي يحصل ذلك، يتوق إلى نسيان كل ما رسمه من قبل. والحديث عن اللوحة هو مُفتتح الرواية. وهي عبارة عن خطّين متقاطعين على هيئة صليب. خط بلون بنفسجي، وخط بلون بني. والإشارة إلى الصليب ليس اعتباطاً، فهو يجسّد بحثاً عن معنى الإيمان، بما أنه كاثوليكي. 

الرواية تنتهي بذكر صلاة باللغة اللاتينية، تتحدّث بدورها عن "نور قادم من عند الله، يتوحّد الفن والعقيدة في إبراز النور من الظلام المحيط، ليس في شكل واحد، وفي طريقة واحدة.

بالنسبة للكاتب، هناك صراع يدوم ولا ينتهي، تؤكّده تلازم رتابة الفعل الإنساني الذي لا يتغيّر، وقدرية المُصاب المُحتمل، أي ذلك التكرار الدائم أو العَود الدائم للشيء ذاته والفعل نفسه. وهو ما يعكسه، كما قلنا، أسلوب الكاتب المعتمد على تكرار الكلمات والتعابير نفسها إلى حدّ الملل، قاصداً منح مُعادل في الكتابة لما يُعاش حياتياً. 

صفاء الرؤية الأدبية

إنها شيء من السيزيفية (نسبة إلى أسطورة سيزيف كما وظّفها أدبياً وفلسفياً ألبير كامو) تَعْبُر من ذات الراوي "أسلي"، فتعَضد النظرة الوجودية، لكن في بُعدها الديني. وذلك يستدعي البحث عما يدفع إلى التحمّل بأقل قدر من الألم. فيقترح  قدرة الرؤى الصوفية المرتبطة بالفن. 

نقتطف من الرواية ما يؤكد ذلك: "أنظر إلى الصورة بغاية أن أرى فيها كيف وأين يلمع النور في الصورة، لأن الصورة تتضمّن أكبر قدر من النور، حين تكون في الظلام، ولهذا السبب أعتقد وبدون أدنى شك أن الاقتراب من الله يحصل في حالة اليأس، أي في الظلام". وهكذا لا يصير التكرار سوى نظرات مغايرة للأمر نفسه، ما يمنح هناءة للروح وللذات. أي أن ما يتغيّر ليس سوى الأسماء لا غير. 

لقد أجاد يون فوسه على طريقة الكبار في روايته هذه. ووصل إلى نسبة من الصفاء في الرؤية بعد مسيرة أدبية كتب فيها ما لا يقلّ عن ستين كتاباً، في جنس الشعر والرواية والدراسات والمسرح. لكنه لم يُقرأ كثيراً، فجاءت جائزة نوبل في الوقت الملائم، كي يكتشفه القرّاء عموماً، والعرب على نحو خاص. 

 

تصنيفات

قصص قد تهمك