يغطي الصراع العربي- الإسرائيلي قرناً من الزمان، تخللته حروب وجرائم وانتفاضات ومفاوضات سلام، ولم يقتصر على جوانبه العسكرية والسياسية فقط، وإنما كان للكلمة حضورها.
أدباء ومفكرون انخرطوا في طرح سردية تخصّ كل طرف، وتظهره في هيئة الضحية والآخر الجلاد.. أو تطرح مقاربات للسلام والتعايش، لكن الأحداث الجارية كشفت أن تأثير "الكلمة" مازال واهناً إزاء صوت البنادق.
ثمّة حجب متبادل للأصوات المعتدلة، وأي محاولة للفهم قد تُوصَم بالخيانة أو "التطبيع". على الرغم من أنه لا يمكن فهم الصراع إلا بإدراك طبيعة الوعي الذي يقوده.
وبينما ينخرط جمهور الطرفين في متابعة تفاصيل المأساة على الأرض، يجري التمويه على الجوانب الثقافية والرمزية. فماذا يقول مفكّرو وأدباء كل طرف عن الآخر؟ وإلى أي مدى تسهم رؤاهم في التقارب أو التنافر؟
رؤية الآخر
انخرط مفكرون عالميون ويهود وعرب في تحليل الشعب اليهودي وديانته، والحركة الصهيونية واختلاق الدولة، أبرزهم كارل ماركس في "حول المسألة اليهودية"، وفكرته لا تدعو الفرد اليهودي للتخلص من دينه، بل تطالب الدولة بالتحرّر من الدين لترسيخ قيم الديمقراطية.
بدوره نشر المؤرخ اليهودي شلومو ساند عدة كتب منها "كيف لم أعد يهودياً "، و"اختلاق أرض إسرائيل"، ليقدّم سردية مضادة للسردية الإسرائيلية الرسمية، لافتاً النظر إلى أن اتباع الحركة البيوريتانية "التطهرية" المنبثقة عن البروتستانتية في لندن، هي أول من قرأت "التوراة" ككتاب تاريخ، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومن ثم انتقل مصطلح "أرض إسرائيل" من جوهره الديني، ليصبح مصطلحاً "جيو ـ سياسياً".
أما كيث وايتلام في "اختلاق إسرائيل القديمة" فيخوض صراعاً ضدّ "المدرسة التوراتية" في التأريخ، مؤكداً أن حضارات كثيرة تعاقبت على أرض فلسطين، ولم تكن "إسرائيل القديمة" إلا "خيطاً رفيعاً في نسيج التاريخ الفلسطيني".
في سياق متّصل يطرح عبد الله الشامي في "إشكالية اليهودية في إسرائيل"، قضية الهوية، عاقداً المقارنة بين التصوّرين الكنعاني والعبري. فالهوية هي القضية المركزية التي تواجه إسرائيل، لأن الشتات اليهودي ذاب وتأثر بالبيئات المختلفة التي عاش فيها.
بينما يعتمد كتاب "إرهاب إسرائيل المقدّس" على يوميات رئيس وزراء إسرائيل موسى شاريت، وهي تفضح "أسطورة أمن إسرائيل"، التي وُظّفت دائماً لتجاهل حقوق العرب، والتخويف منهم، وتكرّس الرواية الصهيونية، ليصبح الوقوف مع إسرائيل ـ المهدّدة من جيرانها الأشرار ـ مسألة أخلاقية.
وفي محاولة لفضّ الاشتباك بين اليهودية والصهيونية، يقدّم محمد عمارة تقي الدين كتابه "الحركات الدينية الرافضة للصهيونية"، وبعد مناقشة مسهبة للتصوّر الصهيوني، وللحالة الدينية في إسرائيل عموماً، يتطرّق إلى أبرز الحركات المعارضة، ومنها الطائفة السامرية، والحركة الحسيدية المهتمّة بالتعبّد والتأمّلات، وحركة "حبد" المنبثقة عنها.
أميركا في أدبيات الصراع
ثمّة اتفاق في الأدبيات العربية على أن أميركا حلّت ـ كقوة إمبريالية ـ محل بريطانيا، وآل إليها النفوذ ذاته، مع استمرار الدعم للأسباب ذاتها. وناقش إدوارد سعيد ذلك في محاضرته "القضية الفلسطينية والمجتمع الأميركي"، حيث مايز بين المجتمع السياسي الذي تجسّده الدولة وتحتويه، والمجتمع المدني الذي تشكّله المؤسسات الخاصة نسبياً، وهو الذي يمنح الدولة قوّتها الحقيقية.
مع ذلك تقوم العلاقة بين المجتمعين على التوتر والانسجام في آن، نتيجة لتعارض المصالح والأفكار أحياناً.
أما سجّل أميركا الخارجي ـ بحسب سعيد ـ "فهو حافل بدعم أنظمة استبدادية، وتدمير بلاد، وإلقاء قنابل على مدنيين أبرياء، أكثر من أي دولة أخرى، وفق "نظرية الرجل المجنون الحربية"، حتى لا يستخف أحد بتهديداتها".
والطريف أن الدولة التي تملك أكثر من 3200 قاعدة عسكرية، تخفي وجودها دائماً وراء لغة الخير ومسوّغاته، فهي "أرض الحرية التي تدعم الحرية".
يطرح سعيّد أسئلة بالغة الأهمية ومفاده، "لماذا لا تعلن الدولة الأميركية أنها تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في حق تقرير المصير، كما تفعل مع الشعوب الأخرى"؟
كما طرح سؤالاً "لماذا لا تجد التعبيرات الداعمة من المجتمع المدني صداها لدى المجتمع السياسي؟ فعلى سبيل المثال، أعلن "كارتر" صراحة عام 1976 أن "إسرائيل لا تتحمّل أي مسؤولية تجاه فلسطين" وكأن التصريح عملية محو للتاريخ".
واعتبر سعيد "أن المواقف الأميركية فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين الإنسانية والتاريخية، تقتصر على كونهم "مصدر إزعاج"، وهي نظرة لا سامية عميقة الجذور، حوّلت العرب إلى مزوّدين للنفط، أو إرهابيين متعطّشين للدماء.
ويراهن المفكر الراحل في نهاية المطاف، على إمكانية التغيير من خلال تواصلنا مع "المجتمع المدني" الأميركي ووضع ثقتنا به.
نعوم تشومسكي
لا تبعد رؤية سعيد كثيراً عن رؤية صديقه نعوم تشومسكي، المفكر الأميركي اليهودي، الذي سبق له أن وقّع بياناً مع مئة مفكّر لنصرة الشعب الفلسطيني، معتبراً أن إسرائيل تتجاهل حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة أيضاً، سعياً لإنشاء "إسرائيل الكبرى"، وتوسيع الاستيطان.
كما تتجاهل كلياً ومعها الولايات المتحدة أي حقوق للفلسطينيين، كل هذا انتهى إلى عزل غزة في سجن مفتوح. ويفسّر تشومسكي سرّ الدعم الأميركي المطلق بقوة الحركة الصهيونية المسيحية، التي كانت وراء وعد بلفور، حتى قبل ظهور الصهيونية اليهودية. من ثم أصبحت العقيدة الأساسية لدى أميركا، أن "إسرائيل ضحية سيئة الحظ للإرهاب، ولهجمات عسكرية، ولكراهية حقودة ولا عقلانية".
قصص وروايات
توازياً مع تحليلات المفكرين والمؤرخين، سعى كل طرف إلى مساندة سرديته، بالأشعار والقصص، واشتهرت روايات كثيرة تتّخذ الصراع مرجعية لها، منها أعمال غسان كنفاني، ورواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، لإميل حبيبي، التي دمجت بين صيغ تراثية وحداثية في السرد.
وجاء أحدثها "تفصيل ثانوي" للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، التي أثارت ضجة بعد حجب جائزة نالتها في معرض فرانكفورت، وهي رواية قصيرة تنقسم إلى جزأين، في الأول وصف للملل والفراغ الذي تعانيه مجموعة من جنود الاحتلال، وكيف انتهى بهم إلى اغتصاب وقتل شابة فلسطينية عام 1949.
وفي نفس تاريخ القتل ـ والواقعة تاريخية موثّقة ـ ولدت شابة أخرى اتكأت على هذا التفصيل الثانوي، وقرّرت القيام برحلة إلى أماكن الواقعة المأسوية. من ثم يقدّم النص لقرّائه رواية الضحية المحجوبة، حتى وإن لم يبالغ في الشعارات وإدانة الطرف الأقوى.
كُتّاب إسرائيليون: الصراع ذاته
على الجانب الآخر، تناول كُتّاب إسرائيليون الصراع ذاته، وقدّم كتاب "أضواء على الأدب الصهيوني المعاصر"، لإبراهيم البحراوي، تأريخاً مهماً، كما عقد مقارنة بين تباين تصورات الطرفين أدبياً.
ولفت النظر إلى أن قصصهم السياسي يتميّز بخطين: الأول الأدب الموجّه والملتزم بالقضية الصهيونية بحدة تتعالى على الموضوعية، والخط الآخر رغم التزامه لكنه ينتقد ويميل إلى الموضوعية.
كما يعرض ويحلل نماذج كثيرة منها "أغنية الإوز" لران أدليط، عن بطل إسرائيلي محارب يعاني انفصاماً بين ولائه القومي، وخوفه على سلامته الشخصية.
وأحياناً يلجأ الكتاب إلى الخيال السياسي، كما فعل أوفير جافرا في روايته "في اليوم الذي ماتت فيه الموسيقى"، عن مدينة افتراضية اسمها "أينوفيل"، يمرّر من خلالها الكاتب همومه المتعلقة بالخوف من الموت، والتمرّد على الصهيونية، والإيحاء بأن إسرائيل أشبه بالمدينة الملعونة.
لكن يظل عاموس عوز أشهر أدباء إسرائيل عالمياً، حيث نال العديد من الجوائز المرموقة، وتحّولت روايته "قصّة عن الحب والظلام" إلى فيلم سينمائي، وهي رواية ضخمة تناهز ثمانمئة صفحة في ترجمتها العربية، وتعتبر مذكرات شخصية للكاتب، ومنها نقرأ:
"الجذل الصهيوني لبناة الأحياء الجديدة، ومنقذي الأراضي ومعبّدي الشوارع، كان يبعث في والدي نشوة خفيفة، ولكنه لم يترك أثراً على أمي. كانت تتنازل عن الجريدة بشكل عام بعد تصفح خاطف للعناوين. لم تر في السياسة إلا المصائب".
البرجوازية اليهودية
لكن مهدي عامل في "مدخل إلى نقض الفكر الطائفي"، يرى أن قيام إسرائيل لا يرتبط بالحركة الاستعمارية فحسب، ولا الصهيونية، وإنما يتزامن أيضاً مع نشوء حركات التحرّر الوطني والقومي في المجتمع العربي، خصوصاً أن بعض الأنظمة تعتبر حركات التحرّر أكثر خطراً من إسرائيل نفسها.
وبعبارات لاذعة يصف صادق جلال العظم ما كُتب عن الصهيونية، في الثقافة العربية، حتى النكسة، بأنه لم يكن أكثر من "هراء"، لأن معظم الأفكار مشوشة ومشوّهة، وخاضعة لطبيعة ذهنية مسيطرة.
فما يطرحه العظم هو تأكيد على أن بعض أنواع الكلام لا يقدّم الحقيقة بل يحجبها، عبر المبالغة في الإدانة الأخلاقية والدينية والتفسيرات التآمرية.
وعلى الرغم من رفض العرب السيطرة الصهيونية، إلا أنهم عجزوا عن الوقوف في وجهها. وهنا يرفض العظم "تصوّر الصراع بوصفه بين الشر الصهيوني المحض والخير الخالص للعرب".
وقد دعا إلى فهم الصهيونية باعتبارها ثمرة الحركة القومية للبرجوازية اليهودية، وهي برجوازية فقيرة قوامها من الحرفيين والصيارفة، ونتاج التغيّرات الكبرى في أوروبا، ومنها صعود الرأسمالية.
وكان من أهدافها إنهاء التبعثر اليهودي. أو كما نصح ماتزيني اليهود "من دون وطن تبقون بلا اسم، بلا علامة مميزة". لذلك سئمت البرجوازية اليهودية من وجودها في كنف "أمّة مُضيفة".
ويخلص العظم إلى أن "نجاحها لم يكن نتاج خيال شيطاني ماكر"، بل اعتمدوا على أدوات ووسائل عادية ـ حد الابتذال ـ وهي أدوات المجتمع الرأسمالي نفسه: شركات، بنوك، مستوطنات".
كما يفسّر حركة الخروج (الاستيطان في فلسطين)، بأنها تضمن للبورجوازية الأوروبية التخلص من برجوازية منافسة، وتغرس "حليفاً" تابعاً لها في منطقة حيوية.
في كتابه "اليسار الصهيوني" لا يبعد عزيز العظمة كثيراً عن جلال العظم، ويرى أن "الحركة الصهيونية كانت ردة فعل تجاه حياة "الغيتو"، وتجاه اليهودية نفسها، لأنها كانت رفضاً للحياة الطفيلية الهامشية، وازدادت قوّة باستثمارها في حدّة العداء للسامية في أوروبا".
أسباب النشوء
كتب كثيرون حول نشوء "إسرائيل"، من بينهم إميل توما في "جذور القضية الفلسطينية"، وسعى قادة بريطانيون لإفشال مشروع محمد علي باشا في بناء دولة عربية كبرى، تفصل بريطانيا عن مستعمراتها في الهند وأستراليا، ثم جاءت فكرة تخصيص قطعة أرض لمستوطنين يهود، على غرار وصول المستوطنين الأوروبيين إلى أميركا.
بهذا المعنى نشأت الفكرة في الوعي الكولونيالي الإنجليزي قبل أن تتبناها الحركة الصهيونية.
ويشير جميل عطية إبراهيم وصلاح عيسى في "صك المؤامرة"، إلى انتقال الفكرة كي تصبح واقعاً، عندما وجّه وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور في نوفمبر عام 1917، رسالة إلى ليونيل روتشيلد، يعلن فيها أن الحكومة البريطانية تتعهّد بأن تساعد اليهود على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
وهكذا تلاقت من خلال الرسالة/ الوعد، الرغبة الكولونيالية والصهيونية معاً. فالغاية كانت تجارية واستعمارية، ثم وجدت لنفسها ـ بعد عقود ـ غطاء دينياً جاذباً للمستوطنين. ووصف العرب ذلك بأنه "وعد من لا يملك لمن لا يستحق".
وهذا يفسر بحسب عصام سخنيني في كتابه "الجريمة المقدسة"، سعي الحركة الصهيونية أن تكون جزءاً من المنظومة الفكرية للحركة الاستعمارية؛ فتستخدم أدواتها وتستفيد من تجاربها، وتتماهى معها.
وإلى اليوم، يظهر هذا الملمح في أدبيات الخطاب الرسمي الإسرائيلي، باعتبارها دولة تنتمي إلى العالم المتقدّم وتمثّله في المنطقة، مقارنة بجيرانها المتخلفين عنها في كل شيء، ومن ثم سيكونون "مَخفراً" أمامياً للحضارة في مواجهة البربرية.
كانت بريطانيا واعية تماماً بأهمية الحفاظ على مصالحها الحيوية، وأهمّها قناة السويس ـ بعد احتلال مصر ـ والنفط في العراق ودول الخليج، وعدم قطع الطريق بينها وبين مستعمراتها في الهند وأستراليا، ومن ثم اختلاق كيان يخدم كل مشاريعها الكولونيالية.
ولذلك سعت لإبعاد فلسطين عن النفوذ الفرنسي في الشام، ووضعتها تحت حمايتها لهذا الغرض.