بانوراما شاملة لتطوّر التشكيل المصري خلال قرن

نوستالجيا البدايات في معرض "سنوات الإبداع الأولى"

لوحة للفنان المصري سمير رافع - الشرق
لوحة للفنان المصري سمير رافع - الشرق
القاهرة-شريف صالح

كل بداية وعد وأمل بأن القادم أجمل. لا أحد يبدأ كبيراً، ولا تعلن موهبة عن نفسها دفعة واحدة. فنحن بطريقة ما، نولد مجدداً مع كل بداية جديدة. وحين تكتمل التجربة وتنغلق الدائرة، يأخذنا الحنين إلى لحظاتنا الأولى. عود على بدء.. وهكذا تأخذنا لوحتنا الأخيرة إلى لوحتنا الأولى.

هكذا فكّر قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية، حين افتتح معرض "بدايات.. لعودة سنوات الإبداع الأولى"، المُقام حالياً في قصر الفنون في دار الأوبرا في القاهرة حتى 23 نوفمبر.

يعدّ المعرض وثيقة بالغة الأهمية لطلاب الفن التشكيلي والمتذوّقين والمؤرخين، لأنه كاشف ومؤرّخ لتطوّر مدارس التشكيل في مصر، ومدى تباين أساليب التعبير، والأعمال كلها هي إجابة عن سؤال جوهري، كيف بدأ الفنان وإلى أين وصل؟

لوحة الفنان المصري سمير رافع
لوحة من بدايات الفنان المصري يوسف كامل - الشرق

150 فناناً

هو ليس معرضاً عادياً، وإنما أقرب إلى متحف موزّع على خمس قاعات، تضمّ نحو 350 عملاً لـ150 فناناً تشكيلياً. افتتحه رئيس القطاع د. وليد قانوش، الذي أكد أن المعرض يرصد الخطوة الأولى الحقيقية في رحلة الفنان، التي قد تأتي بعد سنوات، وربما في منتصف الطريق، لأنها حالة وجدانية صادقة لا يشعر بها إلا صاحب التجربة.

لوحة للفنان عبد الغفار رشيد
لوحة للفنان عبد الغفار رشيد - الشرق

يبرّر قانوش ملمح التباين في التجارب، حتى لا يتصوّر البعض أن كل عمل معروض هو "بداية" حَرفية لصاحبها، وإنما ثمة حرية في الاختيار، فكل فنان من الأحياء على الأقل، اختار ما يمثّل بدايته بطريقته الخاصة.. ربما حدث هذا بعد سنوات الدراسة والشباب، وربما اختار "اسكتش" ضمن مشروع التخرّج، لدرجة أن أحدهم علّق لوحته مصحوبة بالتقدير الذي حصل عليه في الكلية.

لكن المعرض يضم أيضاً أعمالاً لـ 30 فناناً من الروّاد المؤسسين، أو الكبار الراحلين والحائزين على جوائز الدولة، سواء من مقتنيات وزارة الثقافة لهم، أو من أفراد، وكلها لا تعبّر عن بداية حرفية، وإنما عن مرحلة أولى في تجربة ممتدّة للفنان.

ومع مشاركة هذا العدد الكبير جداً من المبدعين المنتمين إلى أجيال مختلفة، بواقع عملين على الأقل لكلّ منهم، يصبح لدينا "بانوراما" شاملة لتطوّر التشكيل المصري طوال قرن من الزمان.

نوستالجيا البدايات

حالة من النوستالجيا تعود بالرائي إلى ذكريات وسنوات منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وصولاً إلى اللحظة الراهنة. لوحات ومنحوتات يتجاور فيها أسماء الروّاد بجوار الأساتذة الأوائل والتلامذة، وتلامذة التلامذة. سلسلة لا تنقطع أبداً، وكأن كل جيل يصل إلى جيلٍ آخر على جدران المعرض.

وحتماً تقترن شمولية الأسماء والامتداد الزمني بالتنوّع بين الأساليب والمدارس. رسومات بالزيت والرصاص، وخامات متنوّعة، لوحات ومنحوتات وبورتريهات وتجريد وجداريات وفوتوغراف، تكوين كلاسيكي وطبيعة صامتة بجوار روح ما بعد حداثية، تُسائل التقاليد المتعارف عليها.

لوحة من بدايات الفنان حسن سليمان
لوحة من بدايات الفنان حسن سليمان - الشرق

لا يعني التنوّع أن ثمة قطيعة جمالية بل العكس، ثمة تأكيد أن الجمال كلّ متصل، مهما تغيّرت مفردات التعبير عنه وزوايا النظر إليه ما بين التجسيد والتجريد، الضوء والظل واللون. فكل فنان يخلق لنفسه ـ منذ بداياته ـ مساحة التعبير الخاصة به، فلسفته في فهم الخط واللون والكتلة. يبحث عن بصمته، وذاته البصرية بدلاً من أن يكون ظلاً باهتاً لأساتذته الكبار.

جاء في بيان قطاع الفنون التشكيلية، أن "بدايات" عرض من دورات عدّة، نبدأ به موسم المعارض في قصر الفنون، وهو تَجَمّع فني يلقي الضوء على بدايات بعض الفنانين المصريين أصحاب التجارب المؤثرة من أجيال مختلفة، بدايةً من جيل الروّاد وحتى جيل الألفية".

جدارية افتراضية

يشير البيان إلى أن ثمة خطة لأن يتجدّد المعرض سنوياً، ليحتفل بالصورة الكلية لفن التشكيل. تلك الجدارية الافتراضية الضخمة تحتوي كل فنان مهما بلغ تفرّده، بوصفه جزءاً بسيطاً جداً قد لا يزيد عن لوحة.

ولو كان للفنان أكثر من عمل، فهذا كاف لإدراك كيف تغيّر وتطوّر في سبيل إنضاج تجربته. فكل لوحة لا تكتمل أبداً، إنها بروفة للوحة قادمة لم تُرسم بعد. إذ ليس شرطاً حين يمسك الرسام بفرشاته أنه يعرف بالضبط ماذا يريد أن يرسم، ولا يقف مخاطباً المساحة الفارغة بأنه فنان كبير.. 

إنه ببساطة طفل يلعب بالألوان والخامات، يحرّرها من طبيعتها المادية، ويُكسبها طبيعة جمالية، ويحرّر ذاته أيضاً. إنها ألعاب للذاكرة والحنين والتنوّع والتجريب والتطوّر. فلا عجب أن يقف طالب لم يتخرّج بعد أمام لوحة أستاذ كبير غير مصدّق أن تلك كانت "بداياته"!

ثمة من يخجل من بداياته، ويرغب في إخفاء هشاشته وضعفه وارتباكه، ومن يفضّل ألا يعترف بعثراته، لكن المعرض هو احتفاء لا إخفاء، إعلان لجوانب خفية من التجارب الإبداعية المتجاورة، ليس شرطاً أن تكون عظيمة وكاملة الأوصاف. لكن بداياتنا الناقصة هي نحن مثل نهاياتنا الناضجة.

لذلك بدا أن الفنانين الذين حضروا الافتتاح كانوا سعداء، ويضحكون من "بداياتهم"، كانوا ينظرون بامتنان لأحلامهم وأوهامهم وتمرّدهم وشجاعتهم وبراءتهم. يعيدون اكتشاف معانيهم الأولى، وينشّطون الذاكرة بالحنين والشغف والأيام التي توارت بعيداً.

بجوار منحوتاته كتب الفنان محمد سيد توفيق، "في هذه الحقبة الزمنية الآتية من التاريخ يتدفّق دماء المصري نهراً للعطاء، تنهض مصر وتتقدّم للأمام. هذا العمل إهداء إلى كل مصري أخلص وتفانى في العمل، وتحمّل المسؤولية وظروف المعيشة".

ويضيف عن منحوتاته التي تعرض جمالياً كيف يوضع بعض البشر في "حفل شواء على الأسياخ": "في سبعينيات القرن الماضي، حدث شواء للإنسان في فيتنام، والآن يقوم نفس الفاعل بالفعل نفسه".

تأخذ كلمة توفيق طابعاً سياسياً مندّداً بوحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان، مشيداً بكفاح ونضال البشرية أيضاً. ما يعني أن للفن رسالة لا يمكن عزلها عن مآسي الحياة.

نبش في الذاكرة

أما الفنان عبد الوهاب عبد المحسن،  فجنح إلى ما هو خاص به، ونبش في ذاكرته مستعيداً سنوات الدراسة بالقول، "في آخر سنة دراسية، جاء إلى كلية الفنون في الإسكندرية الفنان الكبير أحمد ماهر رائف بفكر وفلسفة جديدين.. وبدّل الدراسة الأكاديمية إلى دراسة الخط العربي، وبعد التخرّج عشت في حيرة ماذا أفعل؟ وجاءت فكرة الردّة لما قبل ماهر".

أحياناً يفرض علينا الأستاذ مساراً وبداية بعينها، ثم يتطلّب الأمر شجاعة للتمرّد عليه، وشقّ طريق آخر مختلف. هكذا هي البدايات، جدل حيّ بين ما هو عام وخاص جداً.. صراع معقّد بين الذات والعالم، الالتزام السياسي والتجريب الشكلي.

يقول الفنان إبراهيم خطّاب، "في بدايتي كانت مساعيّ الفنية متجذرة بعمق في التشخيص ورسم البورتريه، ومع ذلك قرّرت الشروع في رحلة تحويلية والابتعاد عن هذه المحطة".

أخيراً، وبعد جولة في أروقة وقاعات المعرض، يصعب تحليل كل هذه الأساليب وعقد مقارنات بينها، مثلما يصعب تصنيف وذكر جميع المشاركين وأجيالهم، لكن من أبرز هؤلاء بلا أي ترتيب، سمير رافع، عبد الحي، يوسف كامل، محمد طه حسين، مارجريت نخلة، الحسين فوزي، فاطمة العرارجي، محمد عبلة، حمدي أبو المعاطي، أحمد عبد الكريم.

كذلك  أحمد نوّار، حسن سليمان، مرفت السويفي، رباب وهبة، أيمن لطفي، أحمد سليم، عادل ثروت، هند عدنان، لينا أسامة، أشرف رسلان، عمر الفيومي، نازلي مدكور، أحمد عبد العزيز، سمير الجندي، سعد زغلول، إيفيلن عشم الله، عصمت داوستاشي، مصطفى الرزار، مصطفى نجيب، السيد القماش، محمد صبري، ملك أبو النصر، وعبد الرحمن النشار.

تصنيفات

قصص قد تهمك