أدباء الداخل، هم كُتّاب فلسطينيون وعرب، ارتضوا أن يكتبوا باللغة العِبرية. وجدوا لهم مساحة إبداع أدبية، من ضمن انشغالاتها الأساسية، أن تكون صوتاً أدبياً صادحاً للعرب، أو الذين يوصفون بـ"عرب الداخل".
فمن هم هؤلاء الكُتّاب الذين يعيشون داخل هذه التركيبة السكانية المختلطة، وما هي الإضافة التي قدّموها للأدب بما هو إبداع إنساني عموماً، وللأدب الفلسطيني بشكلٍ خاص؟
الحقيقة التي لا جدال حولها، أن هذا الأدب المكتوب بالعِبرية هو أدب حقيقي ووازن، يتحدث عن هموم الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة، وله حظوة وصدى، ولا يترك الساحة فارغة للصوت الواحد الوحيد، صوت الأديب الإسرائيلي فقط، وهنا تكمن أهميته.
في هذا الإطار، أصدرت الباحثة سعدية أغسوس، كتاباً مهماً تحت عنوان "خلف العِبرية توجد العربية، الرواية الفلسطينية باللغة العبرية 1966-2017"، وذلك سنة 2022 عن (دار كارنيي) في فرنسا، وهي أستاذة في جامعة "إيكس" مرسيليا الفرنسية.
تقول الكاتبة بأن "هذا الأدب ينتمي إلى الأدب الفلسطيني، وأن لا شيء يدلّ على أن هؤلاء الكُتّاب، تخلوا عن هويتهم الوطنية، أو عن المُعطى السياسي المميّز بالصراع العربي الإسرائيلي. وهذا يتجلى من قراءة رواياتهم المنشورة والمترجمة إلى لغات عالمية، ومن ضمنها الفرنسية".
تضيف: "يمنحنا هذا الأدب زخماً حكائياً حقيقياً يمنح لذّة القراءة، وفي الوقت نفسه، يميط اللثام عن تاريخ مُعقّد وواقع أكثر تعقيداً، وذلك خارج السياقات التي تعوّدنا فيها على قراءة الأدب الفلسطيني، والمُرتّبة كما يعرف الجميع في خانة الهوية والنضال قبل كل شيء".
"عربي في الكيبوتز"
هذا ما نراه في أول رواية كُتبت باللغة العِبرية، بعنوان "في ضوء جديد" الصادرة سنة 1966، والمترجمة إلى الإنجليزية سنة 1969، للكاتب المخضرم عطا الله منصور، المولود سنة 1934 في الجليل الأعلى شمال فلسطين، لعائلة فلسطينية كاثوليكية، وهو صحفي يعيش في الناصرة، وسبق له أن درس في لبنان.
تحكي الرواية قصّة شاب اسمه يوسي يعيش في "كيبوتز" على أساس أنه يهودي، وذلك قبل أن يكتشف بأنه عربي واسمه الحقيقي يوسف، وتمّ تبنيه من قِبل شخص يهودي.
هكذا بين عشية وضحاها، يتم رفض يوسف من "المجتمع الإشتراكي المتآخي" في "الكيبوتز"، لكن علاقته بفتاة تدعى ريفكا وهي يهودية الأصل، وأنجبت منه ابناً، تُعقّد الأمور، وفي الوقت نفسه، تضع المُثل المناداة بها على المحك. فكيف يمكن قبول عربي في "الكيبوتز"؟
الهوية من الداخل
تتطرّق الرواية إلى مسألة الهوية والآخر من الداخل، من خلال التنافر الأصلي عربي/يهودي. يبدأ يوسف/يوسي البحث في أصوله العربية، لكنه لا يصل إلى حل مقنع، ولا يعرف كيف يبرّر وجوده، ويقبل به على مضض.
تذهب أكسوس إلى تحليل شخصية يوسف الملتبسة، فتكتب : "يريد أن يكون مقبولاً من قِبل اليهود، ومستعداً للتغلب على "بعض المشاكل التي لم تتم تسويتها".
ولحل هذه المشكلة، طرح أعضاء "الكيبوتز" مفهوماً جديداً أطلقوا عليه اسم "الطريق الذهبي"، وهو طريق ثالث يُخفي هويته اليهودية والعربية. إذ يوجد يوسي/ يوسف على مسافة من العرب، ويُفرّغ من هويته اليهودية.
يلخّص يوسف ذلك بقوله: "اجتاحني الفراغ، ورأيت كل شيء في ضوء جديد".
شكّلت رواية "في ضوء جديد" اختراقاً بتحدّيها اللغوي، وهو أمر ذو أهمية قصوى، لأن زمن نشرها، كان زمن الغموض، سنوات قليلة قبل الأحداث الكبرى التي ستعصف بالكثير من المسلمات، ومنها حرب 67، وما تلاها من تحوّلات سياسية مؤثّرة.
"أرابيسك" لأنطون شماس: الذاكرة اللامتناهية
رواية "أرابيسك" الصادرة في ترجمتها الفرنسية عن (دار آكت سيد) سنة 2009، هي الرواية الأولى والأشهر للكاتب أنطون شماس، المولود سنة 1950 لعائلة مسيحية عريقة، تعيش في الجليل شمال فلسطين، وترعرع في حيفا.
اشتهر بترجمته لروايات الكاتب الفلسطيني المعروف إميل حبيبي إلى العِبرية، خاصة روايته الشهيرة "المتشائل".
يكتب في مقدّمة روايته: "كل الروايات الأولى للكُتّاب عبارة عن سيرة ذاتية مُقنّعة، كتابي هذا عبارة عن رواية مُقنّعة". إنها كذلك بالفعل، فهي سلسلة من الحكايات المتشابكة ما بين الجمعي المشترك، والشخصي الذاتي.
سمّى القسم الأول من روايته بـ"الحكاية"، وفيه يروي رحلة عائلته المهاجرة من سوريا في منتصف القرن التاسع عشر، واستقرارها في فلسطين، وما تخلّل ذلك من صراعات وأحداث تاريخية مِفصلية في الشرق الأوسط.
ويروي من خلاها تاريخ أجيال من الفلسطينيين، وحياتهم اليومية، وتقاليدهم وأحلامهم، وذلك بلسان أحد الأشخاص الذي يعيش اليوم في القدس المحتلة، واختار أن يبوح بالعِبرية.
في القسم الثاني المُسمّى بـ"الراوي"، ينتقل إلى الحديث عن ذاته ككاتب يتلمّس طريقه في الأدب، خلال رحلته إلى باريس والولايات المتحدة، حيث استقرّ ليدرس الأدب.
وقائع تتشابك أحداثه مع بعضها البعض، متزاوجة، منفصلة، وتعود لتندمج في أرابيسك الذاكرة اللامتناهية، كما يقول في نهاية روايته، التي اختارتها صحيفة "نيويورك تايمز" كواحدة من أفضل الكتب لعام 1988.
الرواية تأصيلية توثيقية لجغرافيا عائلية ومجتمعية خاصة، مكتوبة بقلم كاتب عاشق للفن، لا يروم منها سوى تأكيد واقع ينتمي إلى الأقلية الفلسطينية، من دون أي ادّعاء، كأنه أراد تقديم تصحيحٍ واجبٍ في المحكي السائد. هنا يتجلى دور الأدب علانية.
يقول الناقد الإسرائيلي حنان عيفر عن الرواية، "إنها اجتياح الهوية العربية للكيان السيادي للأدب العبري".
"العرب أيضا يرقصون"
ينتمي الكاتب سيد قشوع إلى الجيل الثالث بعد النكبة. ولد سنة 1975 في بلدة الطيرة التابعة للجليل. الرواية صدرت بالفرنسية في طبعات عدّة، أبرزها عن (دار بيلفون) سنة 2015.
تتناول الرواية سيرة الكاتب الذاتية، وصراعه الممتد للحصول على هوية خاصة به، لا تنكر أصوله العربية، ولا تنكر الواقع المجتمعي والسياسي الذي يشكلها، وذلك من خلال الحديث عن مرحلة الطفولة ووصايا الجدّة، التي ترمز إلى التقاليد والموروث العربي.
كانت تقول له بأن "الأطفال لا يموتون، بل يلتحقون بالرفيق الأعلى ويصيرون ملائكة"، فضلاً عن تعاليم الأب عضو الحزب الشيوعي السابق، الذي كان يردّد على مسامعه دائماً، "بأن الأرض مثل الشرف، من يبيع أرضه، يبيع شرفه".
العربي يبقى عربياً
تتواصل روايته عبر فترتي المراهقة والشباب، التي تمّ فيها اكتشاف الإنسان الآخر اليهودي، واكتشاف معنى العيش داخل إسرائيل. وبين أن يصبح ملاكاً، أو أن يحافظ عل الشرف، مرّ الكاتب/ البطل في المراحل كلها التي تتيح "الاندماج"، من تفوّق في الدراسة، ومحاولة التشبّه باليهود في كل شيء، بدءاً من اللغة، ثم السلوك، والأهواء.
وفوق ذلك كله، سيرتبط بعلاقة عاطفية قوية مع شابة يهودية، لن يكتب لها النجاح. حينها سيكتشف بأن العربي سيظل عربياً دائماً في نظر الآخرين، وذلك سيسبب له الإحباط. هو تمزّق عميق سيعيشه لاحقاً بالقدس، المقسومة بدورها إلى نصفين.
لا يمنح الكاتب حلاً لهوية بطله، فهو حتى لو كان راقصاً بارعاً، لا يستطيع التخلص من ذاته الأولى، التي يصعب عليها أن تجد موطئ قدمٍ هانئة ومستقرّة.
اعتمد سيد قشوع كتابة ساخرة، بأسلوب لا يداهن طرفاً على آخر، بقدر ما يمنح صورة لواقع يكتنفه الضباب، الذي يعقب كل مجتمع يتأسس على عدم الوضوح في اختياراته، وإن ادعى جاهداً تحقيق ذلك.
"العودة إلى يافا" و"تشرين"
أيمن سكسك، من مواليد يافا سنة 1984، من عائلة مسلمة متديّنة، درس في مدارس عبرية ومدرسة فرنسية. وعلى الرغم من حداثة سنّه، لم يكتشف مدى جذوره الفلسطينية إلا في مرحلة النضوج.
تتناول "العودة إلى يافا" أيضا وكما هو منتظر، مسألة الهوية لدى شخصية فلسطينية من يافا، تبحث عن مكان لها في مجتمع متعدد يفرض تقاليد وأعراف تثير السؤال الوجودي المقلق، أكثر مما تثير الاندماج والتماهي.
تتناول "تشرين" الحائزة على جائزة الإبداع سنة 2016، مصائر شخصيات عربية كثيرة مرتبطة عائلياً، وتجمعها أسرار يرد فيها القتل مرّتين، وسيحاول الراوي اكتشافها.
وسيكتشف أيضاً التاريخ الشخصي والاجتماعي لشريحة هامّة من السكان العرب داخل الخط الأخضر، التي تحار ما بين هويات أربع: عربية وإسلامية وفلسطينية وإسرائيلية.
وقد حلّل في دراسة مهمّة للرواية، الكاتب إبراهيم نصر الدين دبيكي، المنشورة في مجلة بحوث كلية الآداب المنوفية في مصر عام 2018.
موقع الأدب العربي بالعِبرية
تقول الباحثة سعدية أغسوس، "إن هذا الأدب الذي له قيمته الكبيرة بالتأكيد، لا يستطيع بالرغم من ذلك التخلص من طبيعته، أي أنه "أدب متقطّع وزائل وغير متجذّر في الاستمرارية"، وعلى اعتبار أنه "أدب مقاومة سريع الزوال"، وإن كان يحكي الحياة اليومية للفلسطينيين. كما أنه لم يجد بعد مكانته في الأدب الإسرائيلي".