في قلب القاهرة الفاطمية، وتحت قبّة الغوري التي تعود لأكثر من 500 سنة، أقيمت الدورة السادسة لملتقى القاهرة الأدبي (20 ـ 25 أبريل)، الذي انطلق عام 2015 كفضاء للقاء بين الشرق والغرب، بين الكاتب والمترجم والجمهور.
المدير التنفيذي للملتقى الناشر محمد البعلي، أكد أن الملتقى مخصّص للمثقفين المصريين، بهدف التلاقي والاجتماع مع نظرائهم من مختلف دول العالم، والتأكيد على دور الإبداع في مواجهة الشر، مشيراً إلى استثنائية هذه الدورة التي تأجّل موعدها أكثر من مرّة، بسبب الحرب في غزة.
الروائية صفاء النجار أعلنت عن أبرز أنشطة هذه الدورة، التي شهدت في يومها الأول لقاء حول قضايا الذاكرة والمكان، بمشاركة ثلاثة من كبار الروائيين العرب، هم إبراهيم عبد المجيد، وصنع الله إبراهيم (مصر)، وإبراهيم نصر الله (الأردن/ فلسطين)، أدارتها المترجمة آية طنطاوي.
الملهاة الفلسطينية
الروائي إبراهيم نصرالله اعتبر أن "أكبر تحدٍ يواجهه كاتب فلسطيني هو استحضار مدن محتلة غيّر العدو معالمها، أو منع الوصول إليها، إذ تصبح الكتابة عنها بمثابة إعادة بناء لها، أو كأنك تمنع العدو أن يدمّرها من جديد".
وقال: "ولدتُ في أحد المخيمات بعد النكبة، وليس من السهل أن تكتب عن مدن لم تعش فيها كأنك تعرفها تماماً". واستشهد بمشروعه الطموح "الملهاة الفلسطينية"، الذي يضم سلسلة من الروايات تغطي أكثر من مئتي عام من عمر مدن فلسطين وشعبها".
وأوضح أنه بدأ مشروعه هذا عام 1984، "كان في نيتي كتابة رواية تدور أحداثها منذ عام 1917 حتى النكبة. ثم تفتّحت أفكار أخذتني إلى القرن التاسع عشر، وتوسّعت في شخصيات ومدن المشروع".
"أسهل شيء في العالم العربي أن يشعر الإنسان بالاغتراب، وكأنه ممنوع عليه أن يحب مدينته".
أضاف: "في رواية "زمن الخيول البيضاء" مثلاً، استحضرت حيفا وكنتُ متوجّساً من أي خطأ، على الرغم من أنني لم أعش فيها. أما في مشروع "الشرفات"، فكتبت عن أكثر من مدينة منها "عمّان" كما في رواية "حارس المدينة الضائعة".
ولفت إلى "أنه من المفارقات أن حبكة الرواية عن اختفاء البشر من المدينة، تشبه أيضاً حبكة رواية عبد المجيد عن "قاهرة اليوم الضائع"، وهي ثيمة اغترابية يتردّد صداها في بعض الروايات والأفلام، ومنها أعمال للمخرج دوواد عبد السيد، وسكورسيزي".
أم كلثوم وهذه ليلتي
ولأن نصر الله شاعر أيضاً، رغب في تصدير روايته بمقطع شعري، ثم وقع اختياره على مقطع من قصيدة جورج جرداق "هذه ليلتي"، التي شَدَت بها أم كلثوم.
كما تحدث عن أسفاره إلى مدن كثيرة منها موسكو ونيويورك وإيطاليا، ما شجّعه على كتابة "السيرة الطائرة"، التي اعتبرها بمثابة إعادة اكتشاف المدن.
وقال: "تتحوّل علاقتي بالمدن إلى قصيدة لا إلى نص سردي أحياناً، مثلما حدث عندما سافرت إلى نيويورك لدعم الانتفاضة الأولى، وهناك كتب قصيدتي "فضيحة الثعلب".
أما القاهرة التي تحتفي بتجربته، فذكر نصر الله أنه زارها مرات عدّة منذ عام 1985، وقرأ وشاهد عنها عشرات الروايات والأفلام، "لكن لفرط غناها يشعر أنها مدينة لا تنتهي ولم تُكتب حتى الآن".
كما وجّه تحية للحاضرين في الندوة من أهل غزة، وقال إنه لم يزرها، ومع ذلك كتب عنها 3 كتب، لدرجة أن البعض تصوّر أنه مولود في غزة، لكن الحقيقة أنه ولد في قضاء البريج القريبة من القدس.
ولفت الروائي والشاعر إلى تقاطعه مع إبراهيم عبد المجيد في العيش والعمل لفترة في السعودية، وكيف تأثّر بتلك التجربة واستحضرها في أكثر من كتاب، منها "براري الحمى" و"طفولتي حتى الآن".
وحول علاقة الكُتّاب بالاغتراب في المدن، علّق نصر الله : "أسهل شيء في العالم العربي أن يشعر الإنسان بالاغتراب، وكأنه ممنوع عليه أن يحب مدينته. لذلك الاغتراب محرّك أساسي للكتابة، ومحاولة لاسترداد المدن التي سُلبت منا، واسترداد الذاكرة ومقاومة المحو التي تفرضه علينا السلطة أو الاحتلال. فالكاتب عموماً في معركة ضد المحو".
بين القاهرة والإسكندرية
تطرّق إبراهيم عبد المجيد إلى علاقة رواياته بمدينتين كبيرتين، هما الإسكندرية التي قضى فيها طفولته وشبابه، والقاهرة التي استقرّ فيها. وأشار إلى "أن الكاتب لا يتعمّد الكتابة عن "المدينة"، لكن المدينة هي التي تأخذه للكتابة عنها، بوصفها حلماً ضائعاً يرغب في استعادته".
وقال: "تابعت الإسكندرية في تحوّلاتها المختلفة في أكثر من رواية وقصّة قصيرة، منها رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية"، وفي طفولتي عايشت الجاليات المختلفة من اليونانيين والطليان واليهود، وتعلّمنا لغاتهم عبر التواصل معهم".
أضاف: "وعلى الرغم من أنني ولدت بعد الحرب العالمية الثانية بعام، لكني تعرّفت على قصصها من والدي، وتجوّلت في الشوارع وبين البيوت التي كانت مصمّمة على الطراز الأوروبي، وتعبّر عن روح مدينة كانت عاصمة العالم لمئات السنين، لكن للأسف معظم هذه العمارة تدمّرت".
بعدها انتقل عبد المجيد إلى علاقته بالقاهرة، حيث عمل في قصر ثقافة الريحاني، وعاش مستقراً فيها منذ العام 1974، لكنه أجّل الكتابة عنها حتى عام 2013.
"الكتابة عن المكان سهلة، لكن الصعوبة في استحضار الزمان وروح العصر".
ومن أشهر أعماله عنها روايات "قاهرة اليوم الضائع"، و"هنا القاهرة". وذكر أنه تعوّد بعد الدوام الليلي أن يتجوّل حتى الفجر في شوارعها مع أصدقائه. وأشار إلى أنه "قصد استرجاع القاهرة الضائعة وتاريخها وأحداثها، فالكتابة عن المكان سهلة، لكن الصعوبة في استحضار الزمان وروح العصر".
كما فرّق الروائي المصري "بين طريقتين في التعامل مع المدن: طريقة العقل بنشر كتاب أو مقال فكري.. وطريقة الروح وهذه لا تكون بقرار وإنما يحرّكها اللاوعي".
وأوضح أنه لم يكتب عن المدن المصرية فقط ،"وإنما كانت له تجربة عمل لمدة عام في السعودية، نشر عنها رواية "البلدة الأخرى، ولم أكتبها إلا بعد مرور عشر سنوات على تلك التجربة".
وختم عبد المجيد كلمته بالإشارة إلى علاقته بالسينما وتأثّره بها، وخصوصاً أنه في المدرسة تعوّد على رحلات حضور الأفلام في سينما "فريال" في الإسكندرية، وكان هناك قاعة للفنون التشكيلية، وبسبب تلك الأجواء انتبه إلى أن أفلاماً كثيرة مأخوذة عن روايات يحبها، وتعلّم لغة التكثيف والإيجاز، وتناول ذلك في كتابه "ما وراء الكتابة".
ظهور صنع الله إبراهيم
في الأيام التالية تواصلت أنشطة الملتقى التي تستحضر المدن والذاكرة، بحضور مثقفين مصريين وعرب وأجانب، لكن اللافت هو الحضور الاستثنائي للروائي صُنع الله إبراهيم، المبتعد منذ سنوات عن الأضواء، في ندوة أدارتها الروائية رباب كساب، وناقشت التقارب بين روايته "1970" الصادرة عام 2019 عن دار الثقافة الجديدة، ورواية "1970 ـ عام البطولة" للكاتب البرازيلي إنريكي شنايدر، المشارك في الأمسية.
تحدث صُنع الله عن التوثيق في الرواية، عن طريق تصفية الأخبار الخاصة بفترة كتابة الرواية وما قبلها بسنوات. بينما تحدث إنريكي شنايدر عن فترة كتابة روايته وكان ما زال صغيراً، وكيف أنه يملك ذاكرة للمدينة، وقال إنه يكتب عن الأشخاص العاديين، فأبطال رواياته من الطبقة البسيطة، ومنهم بطل روايته الذي تعرّض للتعذيب والقمع.
تحت عنوان "الذاكرة والأمل"، دارت ندوة أخرى شارك فيها الكاتب إياكي كابي من چورچيا، والكاتب المصري هشام أصلان، أدارها الشاعر والمترجم ميسرة صلاح الدين.
استمر التواصل بين أدباء من الشرق والغرب في ندوة "كيف تعيد المدن تشكيل حكايتنا؟" بمشاركة الكاتبة وعضو مجلس النواب ضحى عاصي، والكاتب والمترجم الأميركي الإيراني سالار عبده، الذي أكد أنه دائم التردّد على طهران ونيويورك، وأنه يتبع مدينة طهران وليس طهران هي التي تتبعه.
بدورها تحدثت ضحى عاصي عن ولادتها في مدينة صغيرة هي المنصورة، حيث ولد شغفها بالقراءة قبل تجربة السفر والدراسة في موسكو، وقالت: "هناك لم أشعر بأي غربة بسبب إعجاب الروس بالحضارة المصرية. كما أن رواياتي تعكس انتقالي بين مدن مختلفة، ومنها رواية "غيوم فرنسية".