ليست اللوحة عملاً فنياً نتأمله ونُعجب بخطوطه وألوانه، بل قد تكون نافذة على التاريخ، وجسراً بين الأجيال، وعلاجاً من الوحدة والاكتئاب، وصياغة عصرية للهوية.
من هذه المنطلقات، أسس د. محمد حمدي، أستاذ التصوير في كلية التربية الفنية، جامعة حلوان، مبادرة فريدة من نوعها باسم "ارسم مصر"، وافتتح المعرض السادس في جاليري "آرت كورنر" في الزمالك، بمشاركة أكثر من ستين رساماً، قدّموا أكثر من 70 لوحة.
ما يميّز المعرض أنه ينطلق من فكرة أساسية، حيث يلتقي أعضاء المبادرة في جولة صباح الجمعة لزيارة الأماكن العتيقة والحدائق العامة في مصر، ومن وحي المكان، يرسم كل منهم لوحة خاصة به.
وعلى الرغم من وحدة الفكرة، لكن النتائج بالغة التنوّع نظراً للتفاوت في خبرات الرسّامين، واختلاف التكنيك والمدارس التشكيلية، ما بين التعبيرية والتجريدية و"الكولاج".
الحكي والتاريخ والرسم
"الشرق" التقت المؤسس محمد حمدي، وحاورته حول أهداف المبادرة فقال: "قبل ست سنوات، كنت موجوداً في دولة عربية، وقبل رجوعي فكّرت في رد الجميل للشباب، لأنهم يملكون خامات جيدة، تستحق أن نقدم لها خدمات أكثر مما يحصلون عليه من الدراسة الجامعية".
تابع: "في الفترة نفسها كنت أنشر تدوينات عن التراث وتاريخ الفنون بشكل مرح وساخر، واكتشفت أنها حقّقت رواجاً.. لذلك أسست المبادرة عام 2019 للمزج بين مسارين: الاهتمام بالحكي وتعريف شبابنا بالتاريخ والأماكن الأثرية، إلى جانب التدريب على الرسم، في محاولة لربط القديم بالجديد عبر حكاية شعبية، أو أغنية، أو مثل شعبي، أو ما يسمى التاريخ الموازي وليس الرسمي.
تابع: "استلهمنا اسم المبادرة من الكتاب الشهير "وصف مصر"، وكذلك في أيام المماليك كانت أي قطعة أو منحوتة يتم تصديرها يُكتب عليها "شغل مصر"، واخترنا لأنفسنا شعاراً بالخط الكوفي، للتعبير عن هويتنا".
عضوية بلا شروط
حول كيفية الانضمام للمبادرة أوضح حمدي "أنها مجّانية ولا نتقاضى أي أجر من أحد. لكن هناك مجموعة تتولى التنسيق بجهد تطوعي. وليس لدينا انحياز لأية فئة، معنا رجال ونساء وشباب وأطفال، متعلمون وغير متعلمين، هواة وغير هواة. بعضهم يأتي للرسم أو التصوير أو للفسحة".
يستعيد حمدي الانطلاقة من منطقة باب الوزير، "عندما انضم إلينا طفل من سكان المنطقة، واكتشفنا أنه ليس في التعليم، وعندما علم وزير التعليم قصّته، ساعده في العودة إلى الدراسة. وبفضل صفحاتنا في "السوشال ميديا"، تضاعف الأعضاء واتسع جمهورنا من الإسكندرية والصعيد، وليس القاهرة فقط، وانضمّت إلينا أسر بكل أفرادها، وأطفال من سكان المناطق".
ولفت إلى أن "بعض العرب المحبّين للمبادرة، أصبحوا يضبطون مواعيد زياراتهم إلى مصر مع انطلاق جولاتنا. ووصل عدد المشاركين معنا إلى مئتي شخص".
أماكن منسية
حول اختيار الأمكنة المخصّصة للزيارة والرسم، أوضح مؤسس المبادرة والمشرف عليها، أنه يختار المكان، ويوفّر المادة العلمية والتاريخية، فضلاً عن التعريف بالقيم الجمالية والعناصر الزخرفية للأثر، وسرد روايات وحكايات التاريخ الموازي للمكان، من تفاصيل وعمارة وشخصيات، ونبثّ ذلك كله عبر وسائل التواصل.
منذ عام 2019 وحتى الآن، زارت المبادرة كل شبر في القاهرة، يقول حمدي: "في الصيف الحار نقوم بجولات في النيل، وفي الشتاء نفضّل الأماكن المفتوحة. وإلى جانب زيارة أماكن مشهورة مثل السلطان حسن والقلعة. نزور الخلوات والقرافات والإمام الشافعي والحطّابة، وغيرها من الأماكن المنسية وغير المشهورة، كما زرنا الكنائس ومقابر الروم الأرثوذكس والمعابد اليهودية، لأننا منفتحون على كل مكوّنات الحضارة المصرية".
حول السفر خارج القاهرة قال مؤسس "رسم مصر": "نخطط للذهاب إلى الناس في مدن مصرية عدّة، وفي إحدى المرات تلقينا دعماً سمح لنا بجولة في الفيوم"
أضاف: "أتمنى أن نزور الدلتا لوجود أماكن لا يعرف كثيرون قيمتها التاريخية، كي نوثّق حكاياتها ونرسمها. الأمنية الثانية أن يصبح لدينا فرق "رسم مصر" في المحافظات يتبادلون الزيارات. أما الأمنية الأكبر فهي أن يكون هناك "رسم مصر" في الدول العربية".
وأشار إلى "اتساع جغرافية المبادرة، إذ تعرّفنا على مجموعة فنانين عالميين مهتمة بـ "الرسم الحضاري"، وزيارة مختلف المدن، وبالفعل زارتنا مجموعة من شغنهاي، ورسمت معنا في باب الوزير، ونستعد لاستقبال مجموعات من ألمانيا وسلطنة عمان".
جهود تطوّعية ومجانية
عن الصعوبات التي تواجه انتشار التجربة قال حمدي: "نجد تفهماً لعملنا من الجهات المختلفة، ونحرص على بقاء المبادرة مجانية وتطوعية، لذلك لا تواجهنا أي صعوبات تذكر، ربما فقط نحتاج إلى مؤسسة توفر لنا باصات للتنقل".
واعتبر أن المبادرة "حقّقت نجاحاً لافتاً في سنوات قليلة، وأقمنا معارض في كلية التربية الفنية، وهذا معرضنا السادس، وشارك أعضاء المبادرة في النشاط التشكيلي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، عبر إقامة ورش رسم للأطفال.
ولفت إلى المردود الاقتصادي للمبادرة "حيث نجحنا في بيع عدد من اللوحات، ما يساعد الشباب في الحصول على دخل. ولدينا أكثر من مئة ألف متابع على الفيسبوك. لذلك نحرص على تصوير جولاتنا وبثّها لتثقيف الناس. ونتمنى مستقبلاً أن تصبح لدينا منصّة خاصة تسمح بتسويق أعمال الشباب على مدار السنة".
علاج نفسي
التقينا د. منى حمدي أستاذة العلاج النفسي في إحدى الجامعات، وتمارس الرسم كهواية، وسألناها عن تجربتها فقالت: "شجعني وجود ابنتي جمانة غريب على الانضمام إلى المبادرة قبل سنة، وهي من أصغر المشاركات في المعرض (17 عاماً)، لكنها ترسم منذ سن السادسة. والمبادرة قرّبتنا أكثر من بعضنا البعض".
أضافت: "منذ صغري أحب الرسم والتصوير الفوتوجرافي، ولا أجد الوقت للممارسة، لكن المبادرة وفّرت لي ذلك، واللوحات التي أشارك فيها عبارة عن "كولاج" بين الرسم والفوتوجراف، ومعظم الأعمال المشاركة في المعرض كنا نرسمها أثناء الجولة مباشرة، خلال ساعتين أو ثلاث، بعد ذلك نشتغل عليها في صيغتها النهائية".
بحكم تخصصها في علم النفس، كيف ترى حمدي تأثير المبادرة على الشباب والأطفال، تجيب: "انتبهت إلى أن الجولات ساعدتهم على تعلم المعايير والقيم الجميلة، مثل تكوين الصداقات، وتنمية المهارات، والتعرّف على معالم الوطن، وتعزيز الشعور بالانتماء بطريقة غير مباشرة، والتواجد في بيئة سوية وآمنة".
تضيف: "حالياً أقوم ببحث عن هؤلاء الشباب، ورصد التأثيرات عليهم، قبل وبعد المشاركة في المبادرة. فبعض أن انضموا إلينا كانوا يعانون من القلق والاكتئاب، وبعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة. وساعدتهم الجولات في التعبير عن أنفسهم، والتخلص من المشاعر السلبية، والشعور بقدرتهم على الإنجاز".
نسخة أفضل عن ذواتنا
ولفتت إلى أن للمبادرة أهداف عدّة منها، "الهدف الفني وهو الرسم، والهدف التثقيفي من خلال التعرّف على التاريخ والآثار، وهناك هدف نفسي مهم، لأن الشباب بحاجة إلى من يأخذ بيده، ويشير إلى الأماكن المضيئة، ويطرح عليه مبادرات إيجابية كي لا يتورّط في العنف والمخدرات".
وأكدت أن المبادرة "نموذج فريد للعلاج بالفن، وهو ضمن العلاج النفسي الذي أقدّمه للمرضى، لأن هناك حالات لا نعرف كيف نتعامل معها، لذلك يساعدنا الرسم في فهم الحالة، لأن كل لون وخط له دلالة وكل رسمة ذات معنى، فنستطيع الاقتراب من الحالة وتشخيصها".
وأشارت إلى أن "بعض المرضى يشعرون بالملل من العلاج التقليدي، فنلجأ إلى الرسم، لأنه يوجد حالة من المرح. كما ينجح هذا الأسلوب أكثر مع الأطفال، لأننا نلعب معهم ونشجعهم، فأحد الأطفال كان في عمر خمس سنوات، وبقي يرسم دوائر، فهمت أنها تعبير عن خوفه ورغبته في الحماية، ومن خلال ما يرسمه داخل الدائرة أدركت سبب معاناته من التبول اللاإرادي".
أضافت: "لذلك أعتمد أكثر على العلاج الجدلي، وأضيف إليه العلاج التعبيري والتكميلي بتوظيف الفنون كالرسم والرقص، لأنه أسلوب يسرّع النتائج . وبالتالي فالمبادرة وفّرت لنا مناخاً يساعدنا على النضج والاستشفاء والخلاص من أي أفكار سلبية، وشجعتنا على اكتشاف مواهبنا وتقديم نسخة أفضل من ذواتنا".