يمتلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وليس الاتحاد الأوروبي، الخبرة والقدرات اللازمة للتعامل مع التهديد الذي تشكله الطائرات المسيرة الروسية للقارة الأوروبية.
وعندما اقتحمت ما يصل إلى 20 طائرة روسية مسيرة المجال الجوي لبولندا في 9 سبتمبر الماضي، رد الحلفاء الأوروبيون بإطلاق ما يمكن وصفه بأنه أكثر الدفاعات التكتيكية تطوراً في العالم، بحسب مجلة The National Interest.
واستُدعيت طائرات الإنذار المبكر والتحكم المحمولة جواً الإيطالية، وبطاريات الدفاع الجوي والصاروخي الألمانية Patriot، وطائرات F-16 البولندية، وطائرات F-35 الهولندية من الجيل الخامس، وطائرة تزويد وقود بلجيكية من طراز A330 MRTT، لتتبع الطائرات المسيرة والاشتباك معها.
وفي اليوم التالي، وخلال خطابها السنوي عن حالة الاتحاد، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن خطط لبناء جدار أوروبي مضاد للطائرات.
وأشارت إلى أن "هذا ليس طموحاً مجرداً، بل هو أساس دفاع موثوق".
كان هذا الإعلان لحظياً دون شك، إذ تضاءلت قدرات الردع الأوروبية ضد هجمات مثل التي وقعت في 9 سبتمبر في بولندا.
وبعد أيام من توغل طائرة روسية مسيرة في بولندا، اخترقت طائرة روسية مسيرة أخرى المجال الجوي للحلفاء، ولكن هذه المرة فوق رومانيا.
ومنذ ذلك الحين، تسببت مشاهدات مجهولة لطائرات مسيرة في إغلاق مؤقت لعدة مطارات أوروبية، بما في ذلك كوبنهاجن وأوسلو وميونيخ.
والأسبوع الماضي، أفادت بلجيكا بأن عدة طائرات مسيرة استهدفت كلاين بروجل، وهي قاعدة عسكرية يُقال إنها تستضيف أسلحة نووية أميركية.
ويبدو أن القارة الأوربية بحاجة إلى اتخاذ إجراءات للحد من التوغلات الروسية، ولكن هل جدار الاتحاد الأوروبي المضاد للمسيرات هو الحل الأمثل؟
"الجدار الأوروبي"
في اجتماع عُقد في وقت سابق من الشهر الجاري، شكك العديد من قادة الاتحاد الأوروبي، خاصة من جنوب أوروبا المطلة على البحر الأبيض المتوسط، في هذه الفكرة، بل وأشار بعضهم إلى معارضة صريحة.
وتُعارض فرنسا وألمانيا هذه المبادرة، فيما تعتبر أفضل دول لتصنيع الطائرات المسيرة في أوروبا والغرب، وهي تركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ولمواجهة تحديات حرب الطائرات المسيرة، يتعين على الغرب التعاون المشترك، ويبدو أنه من الأفضل فعل ذلك من خلال حلف "الناتو"، باستخدام مزيج من التدابير الهجومية والدفاعية.
ومن مفارقات الحرب الحديثة أن الطائرات المسيرة منخفضة التقنية أصبحت تُشكل خطراً كبيراً على الأمن الغربي.
ويوضح التفاوت في الأسعار بين حزمتي الأسلحة الهجومية والدفاعية التي اصطدمت فوق بولندا في أوائل سبتمبر هذا الخلل؛ إذ بلغت تكلفة إنتاج الطائرات الروسية المسيرة التي اخترقت المجال الجوي البولندي نحو 10000 دولار، بينما بلغت أسعار الطائرات التي استجابت لها مئات الملايين من الدولارات.
وتعتبر طائرات Gerbera المسيرة التي اخترقت المجال الجوي البولندي، على سبيل المثال، مشتقة من عائلة طائرات "شاهد" الإيرانية المسيرة.
ونظراً لرخص ثمن هذه الطائرات، فإن روسيا لا تمانع في التضحية بنسب كبيرة منها، لمجرد اختراق دفاعات العدو أو إغراقها.
وتبلغ تكلفة كل صاروخ جو-جو متوسط المدى متقدم (AMRAAM)، الذي استخدمه "الناتو" لاعتراض طائرات Gerbera، نحو مليون دولار.
أما البديل الأرخص، وهو صاروخ SideWinder، فيكلف مئات الآلاف من الدولارات.
ويبدو أن روسيا وإيران تستطيعان إنتاج آلاف الطائرات المسيرة شهرياً، بينما يصعب استبدال الطائرات الاعتراضية القياسية لحلف شمال الأطلسي بسهولة.
كما سهل انخفاض تكلفة طائرة "شاهد" المسيرة على روسيا تعديل طائراتها وتحسينها.
وكشفت تقييمات الحطام من أوكرانيا عن نسخ مختلفة من "شاهد" مزودة برؤوس حربية حرارية، وحتى محركات نفاثة، قادرة على إحداث أضرار أكبر والسفر بسرعة أكبر من أي وقت مضى.
أما الطائرات المسيرة الجديدة المضادة للتشويش، مثل "شاهد-149"، فهي مصممة خصيصاً لبيئة الحرب الإلكترونية الحالية.
ولتحقيق النجاح في مواجهة هذه الذخائر ذاتية الصنع، يجب أن يستخدم جدار الطائرات المسيرة المصمم جيداً أنظمة اعتراض متطورة ومكلفة، بدءا من فرق المدفعية المضادة للطائرات والطائرات المقاتلة ثابتة الجناح، وصولاً إلى منصات الطائرات المروحية، وصواريخ أرض-جو، وأنظمة الحرب الإلكترونية، وطائرات مسيرة لصيد الطائرات المسيرة، وهي سمة شائعة بشكل متزايد في الحرب بأوكرانيا.
ولضمان استجابة سريعة لأي توغلات روسية بطائرات مسيرة، تتطلب هذه التقنيات أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على معالجة تدفقات بيانات ضخمة من الأصول الفضائية، والرادارات القديمة، وأجهزة الاستشعار الصوتية.
ومن الصعب تخيل إقدام الاتحاد الأوروبي على تطوير نظام القيادة متعدد الجنسيات، والقدرات القتالية اللازمة لتوفير هذه الشبكة القتالية المعقدة، في المستقبل القريب.
وأقرت فون دير لاين بهذا التحدي خلال خطابها عن حالة الاتحاد، عندما شددت على أن أوروبا "يجب أن تستثمر في مراقبة الفضاء الآنية لضمان عدم تجاهل أي تحرك للقوات المعادية".
"قلعة السماء" في أوكرانيا
يكشف نظام Sky Fortress الأوكراني المضاد للطائرات المسيرة مدى تعقيد جهود مكافحة الطائرات الروسية المسيرة، ويوضح كيفية تحقيق ذلك بنجاح ضئيل.
ويستخدم نظام كييف آلاف أجهزة الاستشعار الصوتي المتصلة بعقد معالجة؛ موزعة تستخدم نماذج التعلم الآلي لتصنيف التهديدات الجوية.
وأثبت النظام الأوكراني فعاليته حتى مع تعديل روسيا للبصمات الصوتية لذخائره، وبعد التقاط البصمات الجديدة، يُعيد المهندسون الأوكرانيون تدريب نماذجهم بسرعة للاستجابة لها.
كما توفر مجموعات الإطلاق المتحركة الأوكرانية عناصر دفاع جوي مرنة للرد على التهديدات الناشئة.
ونتيجة لذلك، لم يشهد نظام مكافحة الطائرات المسيرة الأوكراني سوى انخفاض طفيف في فعاليته مع تعديل روسيا لأسلحتها.
وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها بروكسل، فإن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي ونقص خبرته في خوض الحروب يجعلان من غير المرجح أن يتمكن من نشر نسخته الخاصة من "قلعة السماء" في أي وقت قريب.
وربما لا تكفي التدابير الدفاعية البحتة لأوروبا، فحرب الطائرات المسيرة نظام يهيمن عليه الهجوم، وحتى أقوى جدار دفاعي للطائرات المسيرة ستكون له نقاط ضعفه حتماً.
وبدلاً من الاعتماد كلياً على الاعتراض، وهو أمر سيثبت صعوبته حتى في حالة التوغلات المحدودة، ينبغي على أوروبا، بدعم أميركي، مساعدة أوكرانيا في ضرب مواقع إطلاق الطائرات المسيرة الروسية ومنشآت إنتاجها.
ومنذ الصيف، أطلقت روسيا، في المتوسط، أكثر من 5000 طائرة مسيرة من طراز "شاهد" شهرياً؛ ولا يمر يوم واحد دون تحليق طائرة مسيرة في الأجواء الأوكرانية.
وعلاوة على ذلك، تعمل روسيا على توسيع مصنعها الرئيسي للطائرات المسيرة في ألابوجا، وإنشاء منشآت أخرى مماثلة، بما في ذلك مصنع في إيجيفسك.
وفي العام المقبل، تهدف روسيا إلى إطلاق ما يصل إلى 10000 طائرة مسيرة شهرياً.
وتُطور كييف قدرات هجومية بعيدة المدى لاستهداف هذه المنشآت، مثل صاروخ Flamingo وطائرة FP-1 المُسيرة.
كما تقع العديد من مواقع الإطلاق الروسية الـ 15 على مقربة من أوكرانيا، بما في ذلك 3 مواقع لضربات الطائرات المُسيرة في شبه جزيرة القرم.
ويُمكن ضرب هذه المواقع استباقياً باستخدام أنظمة أقصر مدى، مثل صواريخ كروز التي تُطلق جواً والصواريخ الباليستية التكتيكية.
قدرات الناتو
يمكن للغرب أيضاً بذل المزيد من الجهود لدعم قدرات أوكرانيا على شن هجمات عميقة، وهذه الخطوة ربما تدفع روسيا إلى تكثيف حملتها العسكرية الهجينة رداً على ذلك، إلا أن مساعدة كييف في هذا المسعى ستفرض على موسكو تكاليف باهظة، وستُبطئ إنتاج أحد أهم أصولها العسكرية، وقد تُعزز موقف أوكرانيا في وقت بالغ الصعوبة.
ومع ذلك، لن يُتخذ قرار كهذا في دول الاتحاد الأوروبي. فبينما اتبع رد "الناتو" على توغل روسيا بطائرات مسيرة في بولندا نصاً غير مُكتمل، إلا أنه عكس خطة محكمة.
ويُعد "الناتو"، من خلال القيادة العليا للحلف في أوروبا (SACEUR)، التحالف الوحيد الذي يمتلك قيادة عسكرية راسخة تتمتع بالقدرات والتفويض الواضح للدفاع عن أراضيه.
وبينما يجري الاتحاد الأوروبي نقاشاً حول جدار الطائرات المسيرة، ينشر "الناتو" بالفعل قوات في إطار عمليتي "حارس البلطيق" و"الحارس الشرقي".
ويعتبر تحدي "العدوان الروسي الهجين" حقيقي، وهو تحديداً نوع المشكلة التي وُجد من أجلها الحلف في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
وينبغي على "الناتو" تولي زمام المبادرة في الدفاع عن أوروبا من الطائرات الروسية المُسيرة، وأن يحذو حذو أوكرانيا في هذه العملية.












