"الأطعمة فائقة التصنيع".. مخاطر واسعة على الصحة العامة وتهديدات لنظم الغذاء

جانب من الأطعمة المصنعة بأحد المتاجر في ولاية ماساتشوستس الأميركية. 22 أبريل 2025 - REUTERS
جانب من الأطعمة المصنعة بأحد المتاجر في ولاية ماساتشوستس الأميركية. 22 أبريل 2025 - REUTERS
القاهرة -محمد منصور

قالت سلسلة بحثية جديدة، إن الارتفاع العالمي المتسارع في استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة، بات يمثل تهديداً واسعاً للصحة العامة، بينما يؤكد فريق دولي يضم 43 خبيراً أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد قضية غذائية، بل مشكلة هيكلية تغير شكل النظم الغذائية حول العالم وتدفع بالمجتمعات نحو مزيد من الأمراض المزمنة. 

وتبرز السلسلة البحثية الجديدة، المنشورة في دورية The Lancet، الأدلة العلمية التي تراكمت خلال عقود، وتطالب بتحرك دولي منسق لكبح انتشار هذه المنتجات التي تهيمن عليها شركات ضخمة قادرة على التأثير في الأسواق والسياسات العامة والدراسات العلمية نفسها.

تبدأ السلسلة البحثية بوصف كيفية استحواذ الأطعمة فائقة التصنيع على مكان الطعام الطبيعي في الأنظمة الغذائية، بينما يوضح الباحثون أن هذه المنتجات ليست مجرد أصناف جاهزة للاستهلاك، بل منظومة اقتصادية كاملة تعدل العادات الغذائية للبشر. 

مكونات رخيصة

وتشير النتائج إلى أن هذه الأطعمة، المصنعة من مكونات صناعية رخيصة مثل الزيوت المهدرجة أو المحليات الصناعية أو البروتينات المعزولة، صممت لرفع أرباح الشركات المنتجة على حساب الجودة الغذائية والصحة العامة. ويشدد الباحثون على أن الأدلة الحالية تظهر بوضوح أن هذه الأغذية تزيح الوجبات التقليدية وتضعف علاقة الناس بالطعام الطازج، الأمر الذي ينعكس في ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة.

ما هي الأطعمة فائقة المعالجة؟

أطعمة خضعت لمعالجة صناعية مكثفة، وغالباً ما تحتوي على مكونات غير موجودة في المطبخ التقليدي.

مكونات صناعية مضافة: 

تشمل مواد مثل النكهات الصناعية، والألوان، والمحليات الصناعية، ومثبتات الطعم، ومواد حافظة، ومحسنات الطعم.

أمثلة شائعة:

الوجبات الجاهزة - رقائق البطاطس- مشروبات غازية- حلويات معبأة- نقانق، زيوت مهدرجة- وجبات سريعة.

عالية بالسعرات: 

تحتوي على نسب عالية من السكر، والملح، والدهون غير الصحية، وسعرات حرارية مرتفعة مع قيم غذائية منخفضة.

تأثير صحي محتمل:

مرتبطة بزيادة خطر السمنة، وأمراض القلب، والسكري، وبعض الالتهابات المزمنة.

سهولة الاستهلاك:

تصمّم لتكون سريعة التحضير وجاذبة للذوق، مما يزيد من استهلاكها بشكل مفرط.

وتعرض الدراسة مقارنة لافتة. ففي إسبانيا، ارتفعت نسبة مساهمة الأطعمة فائقة التصنيع في السعرات الغذائية من 11% إلى 32% خلال ثلاثة عقود، وفي الصين تضاعفت من 4% إلى 10%. أما في المكسيك والبرازيل فارتفعت من 10% إلى 23% خلال أربعة عقود، بينما استمرت الولايات المتحدة وبريطانيا في مستويات تتجاوز 50% منذ عشرين عاماً. ويؤكد الباحثون أن هذه الزيادة الحادة تزامنت مع تغيرات غذائية واضحة، أبرزها الإفراط في استهلاك السكر والدهون المشبعة، وتراجع الألياف والبروتينات المفيدة، وارتفاع التعرض للمواد المضافة والمواد الكيميائية المرتبطة بالتصنيع.

وتستعرض سلسلة الأبحاث، نتائج مراجعة منهجية شملت 104 دراسات طويلة المدى، وجدت 92 دراسة منها، ارتباطاً واضحاً بين استهلاك الأطعمة فائقة التصنيع وازدياد خطر الإصابة بأكثر من 12 حالة صحية، من ضمنها السمنة والسكري من النوع الثاني وأمراض القلب والأوعية والاكتئاب والوفاة المبكرة. ويشير الباحثون إلى أن هذه الأدلة، على اتساعها، تبرر اتخاذ إجراءات فورية دون انتظار المزيد من الدراسات، رغم أهمية البحث المستقبلي لفهم آليات الضرر بشكل أدق.

ضبابية علمية

وتتناول الدراسة، الجدل العلمي حول التصنيفات المختلفة لتعريف الأطعمة فائقة التصنيع، وتعرض الانتقادات المتعلقة بنقص التجارب السريرية الطويلة أو اختلاف القيم الغذائية بين مجموعات هذه الأطعمة. لكنها تشدد على ضرورة فصل النقد العلمي الرصين عن حملات التشكيك المدفوعة من قبل الشركات الكبرى، التي تسعى ـ بحسب الباحثين ـ إلى خلق ضبابية علمية تبطئ استجابة الحكومات.

وتبرز الدراسة أقوال عدد من العلماء، منهم الباحث، كارلوس مونتيرو، من جامعة ساو باولو البرازيلية، الذي يؤكد أن التحول الغذائي العالمي تتحكم فيه شركات ضخمة قادرة على تشكيل السياسات العامة، بينما ترى الباحثة، كاميلا كورفالان، من جامعة تشيلي، أن وقف هذا المسار يحتاج إلى تدخل حكومي جريء، يشمل فرض قيود على التسويق والملصقات الغذائية والضرائب، بهدف الحد من انتشار هذه المنتجات وتوفير بدائل صحية بأسعار مناسبة.

وتستعرض الورقة الثانية من سلسلة الأبحاث، خارطة سياسات شاملة تستهدف تقليص إنتاج وتسويق واستهلاك الأطعمة فائقة التصنيع، وتدعو الحكومات إلى دمج مؤشرات توضح وجود الألوان والمنكهات والمحليات الصناعية ضمن الملصقات الغذائية الأمامية، وليس فقط الدهون والملح والسكر، لمنع الشركات من الالتفاف على القوانين عبر استبدال مكون ضار بمكون آخر لا يقل سوءاً. ويطالب الباحثون بتشديد القيود على الإعلانات، خصوصاً الموجهة للأطفال وعبر المنصات الرقمية، وبمنع بيع هذه المنتجات في المدارس والمستشفيات، وتقليل مساحاتها على أرفف المتاجر.

سياسات الإصلاح الغذائي

وتستعرض السلسلة البحثية مثالاً بارزاً من البرازيل، حيث تمكن برنامج التغذية المدرسية الوطني، من إزالة معظم هذه المنتجات من المدارس، ويستهدف الوصول إلى نسبة 90% من الأغذية الطازجة أو قليلة التصنيع بحلول 2026. ويعد هذا الإنجاز ـ برأي الباحثين ـ نموذجاً يثبت أن السياسات الصارمة قادرة على إحداث تحولات غذائية حقيقية.

وتشدد الدراسة على أن تنظيم الأطعمة فائقة التصنيع، يجب أن يترافق مع تحسين وصول الفئات محدودة الدخل إلى الغذاء الصحي، عبر فرض ضرائب على بعض المنتجات الصناعية وتوجيه عائداتها لدعم أسعار الطعام الطازج. وتوضح البروفيسورة، ماريون نستله، أن سياسات إصلاح النظام الغذائي يجب أن تراعي خصائص كل بلد ومدى انتشار هذه الأطعمة فيه، بينما يرى العلماء أن ضمان توفر الغذاء الصحي للجميع يجب أن يشمل الحلول العملية للأسر التي لا تملك الوقت الكافي للطهي، بما يعني توفير خيارات صحية جاهزة ومتاحة.

وتطرح الورقة الثالثة من السلسلة البحثية تحليلاً سياسياً لنفوذ الشركات العملاقة التي تقف وراء الارتفاع الكبير في استهلاك الأطعمة فوق المعالجة، وتصف كيف تعتمد هذه الشركات على مواد رخيصة وتقنيات صناعية تضمن أرباحاً ضخمة. وتوضح الدراسة أن هذه الشركات، التي تبلغ مبيعاتها السنوية 1.9 تريليون دولار، تعد الأكثر تحقيقاً للربح في القطاع الغذائي، وقد دفعت منذ  عام 1962 أكثر من نصف توزيعات الأرباح المقدرة بـ2.9 تريليون دولار إلى المساهمين. ويعد هذا التدفق الهائل للأموال، وفق الباحثين، مصدراً للقوة السياسية التي تسمح لهذه الشركات بالتوسع والتأثير على السياسات.

حملات تسويق ضخمة

وتكشف الدراسة أن هذه الشركات تعتمد "كتاباً سياسياً" متكاملاً لحماية أرباحها، يشمل تشكيل مجموعات ضغط، والتأثير على الأبحاث العلمية، وتوظيف دعاوى قضائية لتعطيل القوانين، وتوجيه الرأي العام عبر حملات تسويق ضخمة. ويؤكد المؤلف المشارك في الدراسة، سيمون باركيرا، من معهد الصحة العامة في المكسيك، أن هذا النفوذ يجعل من المستحيل تحميل المستهلك وحده مسؤولية اختياراته، لأن البيئة الغذائية نفسها أصبحت منحازة لصالح هذه المنتجات.

وتدعو السلسلة البحثية، إلى بناء استجابة صحية عالمية شبيهة بتلك التي واجهت صناعة التبغ، عبر حماية السياسات من تدخل الشركات، ومنع ارتباط المؤسسات الصحية بمصالح هذه الشركات، وإنشاء شبكة عالمية للدفاع عن حقوق المستهلكين في غذاء صحي. وتوضح المؤلفة المشاركة في الدراسة، كارين هوفمان، أن المواجهة يجب أن ترتكز إلى رؤية جديدة للنظم الغذائية تعيد توزيع القوة لصالح المجتمعات المحلية وتعيد الاعتبار للأطعمة التقليدية والثقافات الغذائية.

وتختتم السلسلة بالتأكيد على أن العالم يعيش اليوم تحولاً غذائياً عميقاً يتسم بسيطرة المنتجات فائقة التصنيع على خيارات الغذاء اليومية، مما يرفع معدلات السمنة والسكري والأمراض النفسية. ويرى المؤلف المشارك، فيليب بيكر، أن "الطريق مختلف وممكن: عبر أنظمة غذائية نظم بصرامة، ومجتمعات تتحرك، ودول توفر غذاءً صحياً ميسوراً للجميع".

تصنيفات

قصص قد تهمك