مضى عام على هجوم "طوفان الأقصى" الذي شنته حركة "حماس" على بلدات جنوب إسرائيل، والذي أعقبته عملية "السيوف الحديدية" الإسرائيلية التي أودت، حتى الآن، بحياة أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة، كما قضت على كافة مقومات الحياة في القطاع المتكدس بالسكان.
لم يعد القتال ينحصر بين حركة "حماس" وإسرائيل فقط، بل توسع النطاق الجغرافي للنزاع المسلح إلى خارج حدود غزة، وانخرطت فيه العديد من القوى والجماعات في المنطقة، وبات المشهد يُمثل ضربات متبادلة، على اختلاف قوتها وتأثيرها، بين إسرائيل من جهة، و"حماس" و"حزب الله" اللبناني، وإيران والحوثيين في اليمن من جهة أخرى.
استطاعت "حماس" إحداث زلزال في إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023، وتمكنت خلال ساعات من القضاء على 1200 إسرائيلي من بينهم ضباط وجنود، ورغم أن الحركة الفلسطينية فقدت تقريباً سيطرتها على القطاع نتيجة التوغل الإسرائيلي البري الذي أعقب القصف الجوي العنيف، لكنها ظلّت موجودة، وتُنفذ بعض العمليات ضد القوات الإسرائيلية، كما أن قائدها يحيى السنوار، المطلوب الأول لدى إسرائيل، لا يزال على قيد الحياة، رغم المحاولات الإسرائيلية الحثيثة للقضاء عليه.
يعتقد الكاتب والباحث في الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية، عصمت منصور، أنه بغض النظر عن طبيعة عملية "طوفان الأقصى" والموقف منها، لا أحد يستطيع تجاهل المكاسب التي حققتها بعض الأطراف، إذ استطاعت "حماس" توجيه ضربة موجعة لإسرائيل، و"هز صورة أمنها وجيشها واستخباراتها، لكن في المحصلة استطاعت الحرب الإسرائيلية القضاء على البنية العسكرية المهمة للحركة، ولم تعد غزة تُشكل تهديداً عسكرياً كما كانت في السابق".
ويرى منصور أنه عندما شنّت "حماس" هجومها في 7 أكتوبر، كانت تراهن ربما على تداعيات كبيرة وفورية في المنطقة تغيّر كل المعادلات".
وبشأن دوافع ذلك الهجوم، أشار الباحث الفلسطيني، إلى أن قادة "حماس"، "ربما جربوا كل شيء"، وفق تعبيره، بما في ذلك إبرام اتفاق مصالحة مع السلطة لم يصمد طويلاً، والتوصل لتفاهمات مع إسرائيل فشلت أيضاً، في محاولة رفع الحصار المفروض على غزة، إضافة إلى جولات قتال متتالية لم تؤتِ بثمار كبيرة، و"لهذا قرروا كسر المعادلة بشكل نهائي، والقيام بعملية لإحداث تغيير استراتيجي في موازين القوى، وإجبار إسرائيل على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين".
يرى منصور، أن هجوم 7 أكتوبر، "جاء بنتائج عكسية"، "حيث أيقظ مخاوف إسرائيل الوجودية، ودفعها لاتخاذ قرار بالقضاء التام على قدرات (حماس) في غزة، وشن حرب إبادة لا تزال متواصلة".
كيف يفكر السنوار؟
الغاية من هجوم 7 أكتوبر، حسبما أعلنت "حماس" آنذاك، كانت الضغط على إسرائيل وتحرير الأسرى الفلسطينيين، وبالفعل حققت العملية أكثر مما توقعته الحركة، وسرعان ما تحول قائدها "أبو إبراهيم"، كما يُكنى، إلى بطل في نظر ملايين العرب والمسلمين، إلا أن الأحداث أخذت منحىً آخر، وتحولت غزة إلى ركام، وقضى أكثر من 40 ألف من سكانها، وبات البقية نازحين في القطاع.
كان عصمت منصور أسيراً سابقاً لـ20 عاماً على الأقل في السجون الإسرائيلية، وزامل قائد "حماس" يحيى السنوار، وعرفه عن قرب خلال سنوات الاعتقال. سألته "الشرق" عما إذا كان يعتقد أن السنوار راضٍ عن قراره الذي أشعل الحرب، وهل يرى نفسه رابحاً أم خاسراً اليوم؟
أشار المعتقل الفلسطيني السابق إلى أن زعيم "حماس"، استطاع أن يضع ختمه على هجوم 7 أكتوبر ويربطه باسمه، ما جعله شخصية عالمية، وزعيماً شبه مطلق لحركته. وتابع: "إذا قُدّر للسنوار الخروج حياً من هذه المعركة، قد يصبح بنظر الفلسطينيين شخصية لا ينازعها أحد في الشعبية والحضور، فمنذ رحيل أبو عمار (الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات) لم يأتِ قائد لديه ثقل ورمزية السنوار، ومن هذا الجانب، استفاد الرجل بكل تأكيد".
وأضاف، والكلام هنا للباحث الفلسطيني عصمت منصور، أن السنوار "يعتبر نفسه دخل التاريخ، وأصبح أشبه بالقائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي"، لا سيما أن ما فعله لم يسبقه إليه أحد، وتابع: "أما بالنسبة للعواقب الوخيمة التي ترتبت على ذلك، سيتم تبريرها بأنها الثمن الطبيعي لحركات التحرر ونضالات الشعوب".
خسارة حكم غزة
لكن في المقابل، اعتبر منصور أن "حماس"، تأثرت بشكل كبير و"فقدت معظم قدراتها العسكرية، وخسرت حكم غزة إلى الأبد، ولذلك رغم الشعبية التي حققها السنوار حالياً، إلا أنه سيعيش طيلة حياته ملاحقاً، وسيكون بلا قوة عسكرية، ومن دون غزة".
زميل السنوار في السجون الإسرائيلية، أكد في حديثه لـ"الشرق"، أن السنوار "يعرف إسرائيل جيداً، لكن معرفته توقفت، على ما يبدو، عند حدود يوم 7 أكتوبر 2023، إذ لا أعتقد أنه كان يتخيل أن يصل الجنون الإسرائيلي إلى هذا الحد، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيعتبر هجوم حماس فرصة لتبرير مشروع اليمين المتطرف للقضاء على القضية الفلسطينية، وطمسها، وإبادة غزة، وتمرير التطهير العرقي في الضفة الغربية المحتلة، وتهويد القدس".
ولفت إلى أنه "من الصعب الجزم بشأن كيف يُفكر السنوار الآن؟ إذ أن الأمور أخذت منحىً أخطر وأكثر تعقيداً وأصعب مما كان يتوقعه أي إنسان، وهو يدرك أن حساباته وفهمه لإسرائيل كانت نوعاً ما غير دقيقة، وبالتالي قاده هذا إلى مصير لا أحد يعرف كيف سينتهي".
وبشأن ما قد تكون عليه مشاعر قائد "حماس" بعد مرور عام على الحرب، قال منصور: "من خلال معرفتي الشخصية بالسنوار، أظن أنه الآن في ضائقة، ويحتاج إلى مخرج يضمن له الكرامة ومعنىً ما للانتصار، وبدون ذلك سيكون ما حدث انتحاراً، لأنه يدرك كيف تفكر إسرائيل، ويعلم أنها لن تسمح بخروجه حياً من غزة. هو بالذات يعلم أن عُقدة الثأر والانتقام لدى الإسرائيليين راسخة، وأن خروجه وهو يرفع علامة النصر، حتى لو على ركام غزة، سيُظهر إسرائيل بمظهر الفشل والعجز عن تحقيق أي شيء، ولذلك سيحاول السنوار ممارسة لعبة القط والفأر، والمراهنة على الزمن، عسى أن تحدث تغيرات، أو تشتعل حرب إقليمية مثلاً، يستثمرها لصالحه في أن يكون جزءاً من حزمة الحلول".
ورداً على ما يُشاع عن "تهور السنوار واندفاعه" في الهجوم على إسرائيل، يرى الكاتب الفلسطيني والمعتقل السابق، أنه "بخلاف ما يوصف به قائد (حماس) من جنون وتطرف وهوس، يبدو لي أنه يقوم بحسابات عقلية، ولديه فريق من المقربين والثقات، مثل شقيقه محمد، وروحي مشتهى (أعلنت إسرائيل اغتياله)، ومحمد الضيف (القائد العسكري لكتائب القسام)، لكن جميعهم بصراحة لديهم نزعة نحو المغامرات، وتحدي إسرائيل، وتغيير المعادلات، والمشترك بينهم أنهم لم يخرجوا من غزة سابقاً، ولا يعرفون العالم والوضع في الدول العربية والإقليم، ولذلك يبدو أن رهاناتهم على إنهاض العالم العربي وشعوبه، وتفجّر الأوضاع في الضفة والقدس لم تتحقق".
القضية الفلسطينية إلى الواجهة لكن "بثمن باهظ"
عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجدداً بعد 7 أكتوبر 2023، وكسبت تعاطفاً كبيراً حول العالم، وأصبح إيجاد حل عادل ومستدام للفلسطينيين مطلباً ملحاً، حتى لا تبقى المنطقة عرضة للهزات والصراعات في أي لحظة، لكن التكاليف هذه المرة جاءت بجرعة مضاعفة.
مع ذلك، يرى عصمت منصور، أن إسرائيل استغلت هجوم "حماس" لتنفيذ مخطط اليمين المتطرف ومشروعه الأيديولوجي في الأراضي الفلسطينية، حيث الوضع في غزة كارثي على كافة المستويات، وظروف قاسية في الضفة الغربية المحتلة، والسجون في حالة مزرية، واعتداءات المستوطنين وضم الأراضي أصبح روتيناً يومياً، والمجتمع الفلسطيني بشكل عام تدمر ولحقت به خسائر هائلة، تحتاج عشرات السنوات لتعويضها.
وأشار الباحث والكاتب الفلسطيني إلى أنه رغم المكاسب السياسية التي تحققت، "إلا أن الفلسطينيين قدموا أثماناً كبيرة. كما وجدت إسرائيل الذرائع لتنقض على القضية الفلسطينية، لا سيما لدى الفئة التي تؤمن بشطب القضية وتصوير مشروع الدولة الفلسطينية على أنه مكافئة للإرهاب و(حماس) على هجومها في 7 أكتوبر، وهذا ما استغله اليمين المتطرف في إسرائيل ونتنياهو لصالحهم".
ويعتقد الكاتب والمعتقل الفلسطيني السابق، أنه من الصعب وضع حكم نهائي للمكاسب والخسائر بعد عام على 7 أكتوبر، إذ أن تداعيات الحدث وارتداداته لا تزال مستمرة"، إلا أنه اعتبر أن "هذه الحرب ستكون مفصلاً مهماً في تاريخ الشعب الفلسطيني، وخاصة إذا وقعت حرب إقليمية، وانتشرت الفوضى بالمنطقة، ما سيغُيّر هذا الكثير من الحسابات، بما يشمل الداخل الإسرائيلي".
وقُدّرت الخسائر الاقتصادية لغزة، وفق حكومة القطاع، بنحو 33 مليار دولار.
كسر هيبة إسرائيل.. نتنياهو الرابح الأكبر
حتى هجوم "حماس" في 7 أكتوبر كانت تبدو إسرائيل حصينة على أعدائها، لكن بعد ذلك اليوم انكشفت الهشاشة في منظومتها الأمنية، وخسرت أكبر عدد من سكانها في عملية واحدة منذ تأسيسها قبل 76 عاماً. وبعد أن حصلت على تأييد دولي في بداية الحرب، فقدت الكثير من التعاطف جراء العنف المفرط و"العقاب الجماعي" ضد سكان غزة.
فقدت إسرائيل أكثر من 700 في صفوف قواتها، و1200 على الأقل خلال عملية "طوفان الأقصى"، لكنها تقول اليوم إنها أكدت تفوقها العسكري وقدرتها على الوصول إلى أي مكان في الشرق الأوسط.
يرى خبير الشؤون الإسرائيلية نظير مجلي، أن هناك اختلافاً في رؤية وتقييم ومعايير الربح والخسارة في هذه الحرب، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار الوضع الإسرائيلي والتيار السياسي الذي يتحكم بها.
وقال: "يجب وضع نتنياهو في خانة منفردة، لأن إسرائيل خسرت كثيراً منذ بداية الحرب، لا سيما قوة الردع التي كانت تتمتع بمكانة كبيرة في نظر الكثيرين".
وأضاف: "استطاعت (حماس) كحركة صغيرة، ضرب الهيبة الأمنية العسكرية والاستخباراتية لإسرائيل. هذا الأمر وضع الجيش في حالة صعبة، أولاً في نظر الجمهور الداخلي، وأدت إلى انخفاض الثقة به. كما بدأ الجنود يستخفون بالضباط ويسألونهم: أين كانوا في 7 أكتوبر؟ كما أصبح هناك خلل آخر في علاقة الجيش الإسرائيلي بالخارج، إذ كانت الدول تبني علاقات تعاون معه، وتشارك في تدريباته لتطوير قدراتها العسكرية، باعتباره نموذجياً، إلا أن هذا الأمر تحطّم".
خبير الشؤون الإسرائيلية، نظير مجلي، أشار في تصريحاته لـ"الشرق"، إلى أنه "عندما شعر الجيش الإسرائيلي أنه في موقع صعب وأن نتنياهو واليمين الإسرائيلي يشنون عليه من خلال منظومتهم الإلكترونية هجوماً شرساً لم يسبق أن عرفته إسرائيل ضد المؤسسة العسكرية، دخل في حرب جنونية على غزة ليسترد هيبته، لكنه بدلاً من أن يستردها وجدناها تتراجع".
وأرجع مجلي ذلك، وفق تعبيره إلى "فشل الجيش الإسرائيلي في حسم معركة غزة ضد تنظيم لا يتعدى عدد مقاتليه 30 أو 40 ألفاً"، وعلى الرغم من أن قوام الجيش الإسرائيلي 750 ألف جندي، ولديه كل الأسلحة الحديثة والطائرات والدبابات والسفن الحربية والاستخبارات، "مع ذلك لم ينجح في إنجاز شيء. ولهذا جاء قرار الانتقال إلى الجبهة الشمالية".
ويعتقد مجلي أن "إسرائيل أهملت قوة حماس في غزة انطلاقاً من الاستخفاف بقدراتها، بينما كانت تصب تركيزها كل الوقت على الجبهة الشمالية، وتدرس قدرات (حزب الله)، باعتباره قوياً وعقائدياً جداً، وأقل فساداً من (حماس) ومن إيران، ثم تبيّن أن هذا المجهود نجح في تحقيق اختراق أمني خطير للغاية وغير مسبوق في تاريخ الحروب، إلى درجة اغتيال العشرات من قادة (حزب الله) على كافة المستويات، وأبرزهم حسن نصر الله، إذ عرفت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عن اجتماعه قبل أن يعرف قادة الحزب أنهم مدعوون".
في حديثه لـ"الشرق"، اعتبر خبير الشؤون الإسرائيلية، أنه "بعد الخسائر التي أوقعها الجيش الإسرائيلي في صفوف (حزب الله)، استطاع أن يسترد ثقته بنفسه، ويُعيد هيبته، على الأقل بين جمهوره الداخلي".
وإضافة إلى الخسائر العسكرية، تكبّد الاقتصاد الإسرائيلي أكثر من 60 مليار دولار منذ بدء الحرب، تشمل عمليات التجهيز العسكري، والنفقات اللوجستية، وإعادة الإعمار في المناطق المتضررة.
أما بالنسبة لنتنياهو، قد يكون هناك شبه إجماع على المكاسب التي حققها، على المستوى السياسي والشخصي، فبعد أن كان لسنوات هدفاً لانتقادات وهجوم المعارضة الإسرائيلية، تحولت الأنظار عنه بعد 7 أكتوبر إلى درجة كبيرة، وازداد زخمه السياسي مع عمليات الاغتيال الناجحة التي حققها الجيش والاستخبارات.
ورغم أن الجيش الإسرائيلي يقرر شكل الحرب على غزة، والانتقال إلى الجبهة الشمالية، ويحدد بنك الأهداف في كل مكان، "لكن نتنياهو هو من يقطف الثمار"، بحسب نظير مجلي، الذي أضاف أنه "بحسب القانون يجب أن يصادق على هذه العمليات، وهو لا يريد أن يفشل، ولذلك كل عملية تأتيه مقترحة من الجيش يدرسها جيداً وفي نهاية المطاف، في كل نجاح يحققه الجيش يكسب نتنياهو، وكل إخفاق نجد نتنياهو إما يصمت أو يسرب معلومات للإعلام تتضمن انتقادات للجيش الإسرائيلي".
وقال مجلي: "عملياً إذا كان هناك من رابح أكبر في هذه الحرب، فهو نتنياهو، لأنه لا يهتم بالخسائر التي تقع صفوف الإسرائيليين، ولا بمقدار الكراهية التي تضاعفت نحوهم لدى الفلسطينيين والعرب عامة، وكذلك لا يكترث بنظرة العالم اليوم تجاه إسرائيل على أنها أبشع نظاماً قمعياً. العالم وقف ضد الإبادة في ميانمار التي لقي فيها 9 آلاف شخص مصرعهم، والأمر نفسه ينطبق على الإيزيديين الذين فقدوا 25 ألف شخص نتيجة فظائع داعش، بينما ناهز عدد الضحايا الفلسطينيين بسبب الحرب الإسرائيلية 42 ألفاً حتى الآن، ولذلك سمعة إسرائيل في الحضيض، وهذا ليس نجاحاً، وسينعكس بطبيعة الحال على الوضع الاقتصادي والعلاقات السياسية".
وتابع: "أما نتنياهو، فلديه هدف واحد شخصياً، وهو أن يبقى رئيساً للحكومة، وقد جعلته هذه المعركة يسترد الشعبية التي فقدها سابقاً. وآخر استطلاعات الرأي تشير إلى أن عدد مقاعد حزبه سيرتفع في الانتخابات المقبلة، وفي الوقت الحالي يبدو أن نتنياهو وصل إلى قناعة بضرورة الذهاب إلى معركة كبرى مع إيران، ومن جهة أخرى يحاول جر الولايات المتحدة إلى هذه المواجهة، وإذا لم يستطع، سيسعى على الأقل أن تمنحه الغطاء السياسي والعسكري".
ضربات موجعة لـ"حزب الله"
انخرط "حزب الله" اللبناني في الحرب في أكتوبر 2023، لإسناد غزة، إلا أنه تلقى ضربات موجعة على مستوى البنية العسكرية والبشرية، بدأت بـ"تفجيرات البيجر" التي استهدفت مئات من مقاتلي الجماعة، وشكّلت اختراقاً أمنياً غير مسبوق، أما أكثر الضربات وقعاً، فكانت اغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله بقصف إسرائيلي في 27 سبتمبر الماضي.
وأعلنت إسرائيل، القضاء على 440 من عناصر "حزب الله"، بينهم 30 قائداً، إلى جانب تدمير ألفي هدف على الأقل، ومع ذلك يؤكد الحزب أنه لم ينهار، ولديه ما يكفي من القادة، ولا يزال قادراً على المواجهة، ويخوض بالفعل مناوشات برية تُعطّل التوغل البري الإسرائيلي في جنوب لبنان.
في حديثه لـ"الشرق"، قال عماد مراد أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، إن "حزب الله" ظل يعتقد حتى مرور 11 شهراً على الحرب، أنه نجح في مساندة غزة، وكانت معنوياته مرتفعة على مستوى قادته ومقاتليه وحاضنته في جنوب لبنان، ويحظى بدعم شعبي كبير في الداخل اللبناني أو حتى على المستوى العربي، حيث الشارع نفسه الذي كان يتهمه بالمسؤولية عن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، أيده في الحرب ضد إسرائيل، لكنه أضاف "في 17 سبتمبر دخلت الحرب منعطفاً جديداً بعد تفجير إسرائيل لآلاف أجهزة البيجر التي كانت بحوزة عدد كبير من أعضاء الحزب، ما تسبب بضربة مفاجئة وغير متوقعة، اعترف بتأثيرها زعيم الحزب في خطابه بعد أيام، ثم أعقب ذلك سلسلة اغتيالات للقادة العسكريين واستهداف قوة الرضوان، إلا أنه بعد اغتيال حسن نصر الله الذي يعتبرونه قائداً تاريخياً، تبدلت الأمور، وأصبح (حزب الله) أحد أكبر الخاسرين في هذه الحرب".
ويرى مراد، أنه "حتى إذا قلّل (حزب الله) من شأن خسارة الكثير من قادته وزعيمه، لن يكون سهلاً تعويضهم، وسيكون لذلك تداعيات على مستقبله. وقد ندخل مرحلة جديدة مختلفة بالنسبة للحزب والشيعة ولبنان، فرغم احتضان التيارات السياسية اللبنانية للنازحين الشيعة وتقديم يد العون لهم، بدأت المطالبات تعلو لعودة الحزب إلى حضن الدولة اللبنانية، ما يعني تحقيق هدف سياسي لمعارضي الحزب الذي لا يُخفي انتماءه لولاية الفقيه، ويعترف أنه يتلقى المال والسلاح من إيران".
عبء إضافي على لبنان
وتابع: "على عكس الحروب السابقة، لم يدخل حزب الله هذه المعركة لتحرير أراضي محتلة أو استعادة أسرى، بل لتخفيف الضغط عن غزة، لكن ظل لبنان يدفع الثمن، ويتحمل التداعيات، سواء من ناحية الضحايا أو الدمار الهائل في البنية التحتية، ما يُشكل ضربة إضافية للاقتصاد، وكذلك للموسم السياحي، حيث ألغى الكثير من العرب والأجانب واللبنانيين المغتربين رحلاتهم، وارتفعت نسبة المهاجرين من الشباب إلى حد كبير".
ويعتقد الأكاديمي اللبناني، أن "ثمّة أمل لدى معارضي حزب الله بعودته إلى كنف الدولة، وانضمامه إلى الجيش اللبناني، بحيث يكون تحت سقف الدستور، وهذا لو تحقق، سيكون مكسباً سياسياً كبيراً. كما بدأ الحديث داخل لبنان عن أهمية تطبيق القرار 1701، (ينص على نزح سلاح الميليشيات وبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على لبنان)، بينما كان هذا مرفوضاً في السابق من حزب الله وبيئته الشيعية، وقد تُمهّد هذه التنازلات، لو حدثت، لتغييرات كبيرة مقبلة في المشهد اللبناني".
خالد العزي أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، اعتبر في تصريحاته لـ"الشرق"، أن الخاسر الأكبر بعد عام على 7 أكتوبر هم "أذرع محور المقاومة الذين دخلوا في حرب دون قراءة مستقبلية لنوعية هذا الصراع"، مرجحاً أن "يندثر هذا المحور ليس لأنه انهزم فقط، بل لأن صلاحيته انتهت وفقد الحاجة من وجوده".
وقال العزي: "العالم والمنطقة ذاهبان إلى تحوّلات كبرى، أحببناها أو كرهناها، والرابح الأكبر من الحرب هي إسرائيل، بينما بدأ يتقزّم دور إيران، وستضطر إلى التخلي بالقوة عن العواصم الأربع التي تحتلها (بيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء)، في حين يدفع لبنان وفلسطين الثمن عن حسابات طهران ومشروعها النووي، ويخوضان المواجهة بدلاً عنها".
إيران.. ضربات متتالية ورد خجول
منذ عام حتى الآن، تلقّت إيران ضربات إسرائيلية موجعة، ولقي العديد من قادتها العسكريين مصرعهم، وكان أبرز حدث أحرج إيران ربما، اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في العاصمة طهران. وقد وعدت إيران برد انتقامي، نفذته على مرحلتين، خلال شهر أبريل ومطلع أكتوبر، لكن آثاره كانت محدودة.
مع ذلك، تقول إيران إنها الدولة الوحيدة في المنطقة القادرة على قصف إسرائيل.
في حديثه لـ"الشرق"، قال محمد الزغول، الباحث في الشأن الإيراني بمركز الإمارات للسياسات، إن إيران كانت تعتقد قبل 7 أكتوبر أن استراتيجية إسرائيل تقوم على خنقها وتطويقها من كل الجهات، حيث نسجت تل أبيب علاقات قوية مع أذربيجان في الشمال، ومع الأكراد في الغرب، وعقدت سلاماً مع عدد من الدول العربية في إطار "الاتفاق الإبراهيمي"، وعندما جاء الممر العربي الهندي الأوروبي تأكدت هذه القناعة في طهران، وشعرت بالخطر الاستراتيجي الكبير بأنها قد تخرج من الخرائط الجيواقتصادية للمستقبل.
وأضاف: "ثم جاء هجوم 7 أكتوبر ليحقق عدة مكاسب لإيران، أولها نقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي، وتوجيه رسالة بأن إسرائيل هي من أصبحت مطوقة، وتقاتل على عدة جبهات. كما حاولت فرض حصار اقتصادي على من خلال هجمات الحوثيين ضد الناقلات التي تتعامل مع إسرائيل في البحر الأحمر وباب المندب".
ورأى أن إيران اعتبرت هجوم 7 أكتوبر، انتكاسة لخصمها الإقليمي ونجاحاً لمحورها، وفكرت في كل الطرق لاستثماره، ولذلك "قدّمت نفسها خلال الأشهر الأولى على أنها ناطقة باسم وكلائها، وكان وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان يتحرك وكأنه وزير خارجية هذا المحور، ويتحدث باسم (حماس) و(حزب الله)، ومحور المقاومة عموماً".
مكسب آخر حققته إيران، وفقاً للزغول، وهو أنها "طرحت نفسها كلاعب رئيسي في القضية الفلسطينية"، إذ "لم يعد اليوم بالإمكان الحديث عن أي مفاوضات مع إسرائيل وحلول في غزة أو الضفة الغربية أو حتى حل الدولتين من دون انخراط إيران، وأخذ وجهة نظرها بالاعتبار".
وتابع: "ربط إيران نفسها بالقضية الفلسطينية سيعمل على تحسين صورتها في الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي، بادعاء أنها تدافع عن الفلسطينيين، وهذه نقطة تجلب لها الكثير من التأييد والدعم في الأوساط العربية والإسلامية، إذ لطالما راهن عليها (المرشد الإيراني علي) خامنئي، ومن قبله الخميني، ولذلك شاع استخدامهم مسميات مثل فيلق القدس وحزب الله وغيرهما، لأن الأيديولوجية الإيرانية تمحورت حول مفردتي الله والقدس، حيث اعتقد الخميني أنهما الطريق إلى قلوب العرب والمسلمين، ويمكن الوصول للزعامة من خلالهما".
لكن بعد عام من الحرب، يعتقد الزغول، أن إيران خسرت في المواجهة، لا سيما بعد إخفاقات "حزب الله" الأمنية، إذ "ذهبت الشكوك إلى الجانب الإيراني باعتباره مصدر اختراقات الجماعة اللبنانية. كما أظهر التصعيد الإسرائيلي المتواصل، والتهديد بنقل المعركة إلى مواجهة مباشرة مع طهران، واستهداف قياداتها، وتنفيذ عمليات فاقت كل التوقعات، أن هناك تفوقاً استخباراتياً وعسكرياً وتكنولوجياً إسرائيلياً حشر إيران في الزاوية، وجعلها تعاني".
ولعلّ إحدى أكبر خسائر إيران، كما يقول الزغول، هو "خسارة (حزب الله) القوي الذي كنا نعرفه طوال العقود الماضية، بغض النظر عن نتائج الحرب الحالية، سيكون أقل فاعلية، ما سيجعل طهران تفقد ورقة مهمة على الصعيد الإقليمي".
الحوثيون.. حضور إقليمي أكبر
رغم ابتعادهم جغرافياً عن جبهات القتال، سواء في غزة أو جنوب لبنان، وصلت صواريخ الحوثيين الباليستية ومسيّراتهم إلى إسرائيل، وهذه الأخيرة ردت بقصف موانئ ومواقع عسكرية تسيطر عليها الجماعة في اليمن. كما استهدف الحوثيون أيضاً حركة الملاحة في البحر الأحمر، ما استدعى تدخلاً أميركياً لدرعهم، بلغت تكلفته مليار دولار على الأقل.
ربما ترى الجماعة أنها وجدت المكانة التي كانت تبحث عنها، وأصبحت قوة إقليمية قادرة على الانخراط في قضايا المنطقة ومجابهة القوى الكبرى، لكن الفجوة الكبيرة في ميزان القوة قد تجعلها عرضة لعواقب وخيمة.
اعتبر الزغول في تصريحاته لـ"الشرق"، أن جماعة الحوثي حققت أمنية لطالما كانت تتمناها وهي "اكتساب شرعية وجودها في محور المقاومة والممانعة، لأن السؤال الذي كان يُطرح دائماً ماذا تفعل في هذا المحور في ظل المسافة البعيدة؟، ولم تكن الشعارات التي ترفعها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل تحظى بأي مصداقية، وحتى هاتين القوتين لم تضطرا إلى توجيه أي ضربات للحوثيين، لكن بعد 7 أكتوبر، فرضوا أنفسهم كجزء من معادلة الصراع، محققين مكاسب كثيرة، إذ لا تخيب القضية الفلسطينية أمل من يستثمر فيها، بل تعود عليه بالكثير من الفوائد، حتى إنه يقال لو كان لدى القضية الفلسطينية حقوق للنشر (Copyright)، لكان الشعب الفلسطيني الأغنى على وجه الأرض".
وأضاف: "يرى الحوثيون أنهم ليسوا اليوم مجرد قوة طائفية متمردة ضد الحكومة الشرعية اليمنية كما كان ينظر لهم في السابق، وباتوا يعتبرون أن أي استهداف لهم هو استهداف لمحور المقاومة وخيانة للأمة والقضايا العربية والإسلامية".
إلا أن هذه المكاسب، وفقاً للزغول، وسّعت قائمة الخصوم بالنسبة للحوثيين، وجعلتهم هدفاً للقوى الكبرى، مشيراً إلى أن "الحوثي أصبح مشكلة إقليمية ودولية أكثر من كونه مشكلة يمنية أو للدول المجاورة، فقد جعل جماعته تهديداً للأمن والسلم الدوليين والتجارة الدولية، وبالتالي وضعها في مواجهة مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وحتى مع الصين".