دخل الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الرابع على الرغم من أن الرئيس الأميركي وعد بإنهاء الصراع خلال 24 ساعة من عودته إلى البيت الأبيض، في يناير الماضي.
وسبق أن حذر دونالد ترمب، من "عواقب وخيمة جداً" إذا لم يوافق نظيره الروسي فلاديمير بوتين على وقف إطلاق النار، في قمتهما التي عُقدت في 15 أغسطس في ألاسكا.
لكن في النهاية، لم تحدث الهدنة، ولم تُتخذ إجراءات عقابية إضافية، وتحول ترمب ليتوافق مع موقف بوتين للمضي مباشرة إلى اتفاق سلام دون وقف إطلاق نار مؤقت.
وبينما جدد ترمب مساعيه للتوصل إلى حل سريع، زاد الضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل لقائهما في البيت الأبيض، وقال ترمب إن زيلينسكي "يمكنه إنهاء الحرب مع روسيا على الفور تقريباً إن شاء، أو يمكنه مواصلة القتال".
وإذا كان ترمب يضمن التوصل لاتفاق سلام في النهاية، فإنه يتعين عليه التفاوض على اتفاق بشأن مستقبل أراضي أوكرانيا، فيما يطالب بوتين أوكرانيا بالتنازل عن الأرض، بينما يصر زيلينسكي وحلفاؤه الأوروبيون على التزامهم مبدأ عدم تغيير الحدود الدولية بالقوة.
ما الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا؟
حتى منتصف أغسطس، احتلت روسيا نحو 20% من أوكرانيا، وامتد هجومها عبر خط مواجهة يزيد طوله عن 1000 كيلومتر، وعمل بوتين لسنوات على إعادة ترسيم حدود أوكرانيا، إذ ضمّ شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود في 2014، ومنذ ذلك الوقت خضعت أجزاء من مقاطعتي دونيتسك ولوجانسك شرق أوكرانيا، وهما تُشكّلان معاً منطقة دونباس، لسيطرة وكلاء موالين لروسيا، وحرّض الكرملين على تمرد انفصالي بعد وقت قصير من الاستيلاء على شبه جزيرة القرم.
وفي أعقاب غزو أوكرانيا في فبراير 2022، احتلت روسيا جزءاً كبيراً من منطقتي دونيتسك ولوجانسك، واستولت أيضاً على أجزاء من مقاطعتي خيرسون وزابروجيا جنوب أوكرانيا. كما تسيطر على محطة زابروجيا للطاقة النووية، وهي الأكبر في أوروبا.
وأعلن بوتين ضم هذه المناطق الأربع في سبتمبر 2022، مُعلناً أنها جزء "أبدي" من روسيا. إذ يحظر الدستور الروسي بعد تعديل قدمه في عام 2020 التخلي عن أي أراضٍ بمجرد إعلانها تابعةً لروسيا.
ولم تتمكن القوات الروسية أبداً من السيطرة الكاملة على هذه المناطق بعد سنوات من المحاولات، لكن الجيش الروسي حقق مكاسب هذا الصيف، لكنه لم يحقق تقدماً حاسماً.
وأبلغ ترمب القادة الأوروبيين بعد قمة ألاسكا أن بوتين يريد من أوكرانيا التخلي عن السيطرة على مقاطعتي دونيتسك ولوجانسك كاملتين، وفقاً لتقرير من بلومبرغ.
في المقابل، من المتوقع أن يوافق الرئيس الروسي على تجميد بقية خط المواجهة وربما الانسحاب من الجيوب الصغيرة في سومي وخاركيف التي تحتلها قواته في شمال شرق أوكرانيا.
ومن شأن هذا أن يمنح بوتين نصراً لم يتمكن جيشه والانفصاليون المدعومون روسياً من تحقيقه عسكرياً طوال أكثر من عقد، وإذا سلمت أوكرانيا منطقة دونيتسك بأكملها، فإنها ستفقد "حزامها الحصين"، وفقاً لمعهد دراسة الحرب، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن. هذا هو خط الدفاع الرئيسي المحصن الذي صدّ لسنوات التقدم الروسي في عمق البلاد.
مع ذلك، قد لا تكون هذه النتيجة كافية لإرضاء بوتين، الذي قال بعد اجتماعه مع ترمب إن التسوية "طويلة الأمد والدائمة" تعتمد على القضاء على "الأسباب الجذرية" للحرب، في إشارة إلى مطالبه في بداية غزو 2022 بأن تصبح أوكرانيا دولة محايدة، وتنزع سلاحها، وتتخلى عن هدفها في أن تصبح عضواً في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
يعتقد بوتين أن روسيا يجب أن تتمتد إلى أبعد من حدودها الحالية، وقبل شهرين فقط من شن الهجوم الشامل على أوكرانيا، أعرب عن أسفه لانهيار الاتحاد السوفييتي ووصفه بأنه "تفكك لروسيا التاريخية"، كما قال إن تفكك الاتحاد السوفييتي في 1991 شتت شمل الشعب الروسي وادعى أن 25 مليوناً منهم انقسموا عبر الدول المستقلة، وأن معظم هؤلاء في أوكرانيا. ووصف بوتين الأوكرانيين والروس تكراراً بأنهم "شعب واحد".
ما هو موقف أوكرانيا من أراضيها التي تحتلها روسيا؟
قال زيلينسكي مراراً إن أوكرانيا لن تعترف أبداً بأراضيها المحتلة على أنها روسية، ولن توافق على التنازل عن هذه الأرض لإبرام اتفاق سلام، وأشار إلى دستور أوكرانيا، الذي أُقرّ عام 1996 ينص على أن أراضي البلاد "لا يمكن تجزئتها أو انتهاكها"، كما ينص على وجه التحديد بأن شبه جزيرة القرم جمهورية ذات حكم ذاتي وهي"جزء لا يتجزأ من أوكرانيا".
ويجمع غالبية الأوكرانيين على موقف زيلينسكي الرافض للتخلي عن أي أراضٍ، لكن مستوى الدعم تراجع مع استمرار القتال وتوقف الهجمات المضادة وتزايد الخسائر.
في مايو 2022، قال نحو 82% من الأوكرانيين إنه لا ينبغي لهم التخلي عن أي من أراضيهم، حتى لو أدى ذلك إلى إطالة أمد الحرب وتهديد استقلال البلاد، وفقاً لاستطلاع رأي من معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع.
وبحلول أوائل يونيو الماضي، انخفضت هذه النسبة إلى 52%، في استطلاع رأي أعده المعهد في الفترة بين أواخر يوليو وأوائل أغسطس، وأيد 54% من الأوكرانيين خطة لتجميد خط المواجهة لكن دون أن تعترف أوكرانيا رسمياً بالسيادة الروسية على الأراضي المحتلة، وأن تتلقى أوكرانيا ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وأوروبا، وأن تُرفع العقوبات المفروضة على روسيا تدريجياً.
كيف يتعامل ترمب مع ترسيم حدود الأراضي الأوكرانية؟
أشار ترمب إلى أن التنازلات ستكون على الأرجح جزءاً من تسوية سلمية في نهاية المطاف، قائلاً إنه ربما يكون هناك "بعض تبادل الأراضي لصالح كلا الطرفين".
وبعد اجتماعه مع بوتين، قال الرئيس الأميركي في منشور عبر منصته ”تروث سوشال“، إن السيطرة على شبه جزيرة القرم لن تُعاد إلى أوكرانيا وأن البلاد لن يُسمح لها بالانضمام إلى "الناتو".
وسبق أن طرحت إدارة ترمب فكرة اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم كجزء من اتفاقية سلام، إذ لم يُعترف رسمياً بضم بوتين غير القانوني لشبه الجزيرة حتى الآن إلا من عدد قليل من الدول، منها كوريا الشمالية وفنزويلا.
روسيا وأوكرانيا تستنزفان ذخائر العالم
ربما يكون زيلينسكي قادراً على استمالة أسلوب ترمب في السياسة الخارجية الذي يميل إلى الصفقات للتقليل من أي تنازلات، وتمنح صفقة المعادن الموقعة في أبريل، الولايات المتحدة حصة في أرباح الموارد الطبيعية لأوكرانيا، وربما يمنح هذا ترمب حافزاً اقتصادياً للتفاوض على تسوية تعيد مزيداً من المناطق التي تحتلها روسيا إلى السيطرة الأوكرانية.
لكن روسيا ربما تنتهج استراتيجيةً مشابهةً، إذ قال يوري أوشاكوف، وهو أحد المساعدين في الكرملين إن ترمب وبوتين سيناقشان "الإمكانات الهائلة" و"غير المستغلة" للتعاون الاقتصادي بين بلديهما خلال اجتماعهما في ألاسكا، وفقاً لتقرير من وكالة الأنباء الروسية الحكومية ”تاس“.
وعندما يتعلق الأمر بضمان التزام روسيا بشروط أي اتفاق سلام وردع مزيد من العدوان، أشار مسؤولو إدارة ترمب إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تقدم ضمانات أمنية لأوكرانيا.
وقال مبعوث ترمب الخاص ستيف ويتكوف، لشبكة ”CNN“، إن بوتين وافق في قمة ألاسكا على أن "الولايات المتحدة والدول الأخرى يمكن أن تقدم نصاً يشبه المادة 5 لأوكرانيا".
والمادة التي أشار إليها ويتكوف هي بند الدفاع المتبادل لحلف "الناتو"، وتلزم الدول الأعضاء بالرد إذا تعرض أي منها للهجوم.
لكن تفاصيل مثل هذا الترتيب لأوكرانيا غير واضحة، لا سيما درجة القوة التي يرغب الحلفاء في الرد بها وما إذا كان بوتين سيقبل حماية من "الناتو" لأوكرانيا تزيد عن كونها اسمية.
ما هو موقف حلفاء أوكرانيا الأوروبيين؟
الأمين العام لحلف "الناتو"، مارك روته، قال لشبكة ABC News، في مطلع أغسطس، إن قضية الأراضي "يجب أن تكون على الطاولة" أثناء المفاوضات، إلى جانب الضمانات الأمنية.
وأضاف أن عملية السلام ربما تنطوي على اعتراف أوكرانيا بأنها فقدت السيطرة على بعض أراضيها دون التخلي رسمياً عن السيادة على تلك المناطق.
بعد قمة ألاسكا، أكد القادة الأوروبيون، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، التزامهم بسلامة أراضي أوكرانيا، وقالوا إنه يجب ألا تتغير الحدود الدولية عنوةً.
وكان ماكرون وميرتس من بين المجموعة التي رافقت زيلينسكي إلى البيت الأبيض.
وسعى القادة الأوروبيون إلى تضييق تفاصيل الضمانات الأمنية التي ترغب الولايات المتحدة في تقديمها، في ظل قلقهم من أن قوات حفظ السلام الأوروبية ربما تُترك لمراقبة هدنة يستخدمها بوتين كفرصة لإعادة بناء قواته وشن هجوم آخر، وربما إبراز قوته بشكل أكبر في القارة.
وحرص زيلينسكي أيضاً على تجنب تكرار مذكرة بودابست لعام 1994، التي قدمت روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بموجبها ضمانات أمنية -متعهدة باحترام وحدة أراضي أوكرانيا والامتناع عن استخدام القوة العسكرية- مقابل تخلي كييف عن أسلحتها النووية السوفييتية.
وانتهكت روسيا هذه الالتزامات بعد 20 عاماً عبر ضم شبه جزيرة القرم.
لماذا يريد بوتين السيطرة على شبه جزيرة القرم؟
لشبه جزيرة القرم أهمية تاريخية لدى روسيا، إذ ضُمت إلى الإمبراطورية الروسية عام 1783 في عهد كاترين العظيمة، وبقيت شبه الجزيرة جزءاً من روسيا حتى عام 1954، عندما سلم زعيم الاتحاد السوفييتي نيكيتا خروتشوف، الإقليم إلى أوكرانيا، التي كانت لا تزال جزءاً من الاتحاد السوفييتي.
حينئذ كانت شبه جزيرة القرم في خراب من الحرب العالمية الثانية. وفي وقت سابق لذلك، رحّل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين السكان التتار الأصليين من شبه جزيرة القرم بعد اتهامهم بالتعاون مع النازيين في الحرب، وشجع الروس على الانتقال إلى شبه الجزيرة.
وأدى ذلك إلى أن تكون غالبية سكان شبه جزيرة القرم من أصول روسية. وعندما ضم بوتين شبه جزيرة القرم في 2014، وبرر قراره بأنه جاء لمساعدة الناطقين بالروسية الذين يعيشون في الجزيرة.
موقع شبه الجزيرة الماسية الشكل يجعلها ذات أهمية استراتيجية للتجارة وإبراز القوة العسكرية، وتُعتبر شبه جزيرة القرم مفتاحاً للسيطرة على نشاط الشحن في البحر الأسود، وهو ممر حيوي لنقل الحبوب والسلع الأخرى.
في الوقت نفسه، كان ميناء سيفاستوبول موطناً تاريخياً لأسطول البحر الأسود الروسي، وهو مرفأ عميق على المياه الدافئة ويقع قرب دولتين من أعضاء حلف "الناتو" هما رومانيا وتركيا، واستأجرت أوكرانيا القاعدة البحرية لروسيا بعد استقلالها في 1991.
مكّن استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم من استخدامها كنقطة انطلاق لغزو واسع النطاق لأوكرانيا، وكان جسر كيرتش، الذي افتُتح في 2018 لربط شبه جزيرة القرم بالبر الرئيسي الروسي، طريقاً لوجستياً حيوياً لروسيا لتزويد خطوطها الأمامية، وشنت القوات الأوكرانية عدة هجمات في محاولة لقطع هذا الرابط.
ما هي مصلحة بوتين في منطقة دونباس؟
تستمد منطقة دونباس اسمها من حوض دونيتس للفحم، وكانت تاريخياً معقل تعدين الفحم وصناعة الصلب في أوكرانيا، وقبل ذلك، كانت معقلاً صناعياً في الاتحاد السوفييتي. واعتادت الدعاية السوفييتية الإشارة إلى المنطقة باسم "قلب روسيا".
وتعطل النشاط الصناعي في دونباس بسبب القتال الدامي المستمر منذ 2014، ودُمرت مرافق عدة بسبب الحرب الشاملة التي تلت ذلك، ومع ذلك، تحوي المنطقة احتياطيات كبيرة من الفحم يمكن لروسيا استغلالها، وتقول إدارة معلومات الطاقة الأميركية، إن أوكرانيا كان لديها ثامن أكبر احتياطي من الفحم في العالم في 2023، ومعظم فحمها موجود في منطقة دونباس.
وتضم المناطق التي تحتلها روسيا في أوكرانيا، ومنها دونباس، على موارد طبيعية أخرى، مثل الليثيوم والتيتانيوم والجرافيت، لكن ليس واضحاً مقدار هذه المواد الذي يمكن استخراجه تجارياً، كما توجد رواسب غاز صخري في منطقة دونيتسك، التي وقعت شركة ”شل“ اتفاقية لاستغلالها شراكةً مع شركة أوكرانية حكومية في 2013 قبل أن تنسحب لاحقاً من الاتفاقية.
تقع منطقة دونيتسك أيضاً في منطقة ماريوبول، ومكّنت السيطرة الروسية بوتين من إنشاء ممر بري من الحدود الروسية على طول ساحل بحر آزوف إلى شبه جزيرة القرم، ما يقلل الاعتماد على جسر كيرتش.
وراء دونباس، هناك خيرسون وزابروجيا اللتان تضمان أراضي زراعية خصبة كانت جزءاً لا يتجزأ من الإنتاج الزراعي لأوكرانيا ودورها التاريخي كسلة خبز أوروبا، وشكلت المنطقتان معاً ما لا يقل عن 10% من متوسط إنتاج القمح والشعير وبذور اللفت وبذور عباد الشمس في أوكرانيا بين 2016 و2020، وفقاً لوزارة الزراعة الأميركية.
هذا المحتوى من "اقتصاد الشرق".
