يُعاني السودان منذ عام كامل، فراغاً دستورياً، وتحديداً منذ التدابير التي اتخذها رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، تحت مبرر "تصحيح مسار الثورة"، وسط تفاقم الأزمة السياسية في البلاد.
ورغم مساعي المؤسسة العسكرية لإعادة الاستقرار إلى السودان، فإن الاحتجاجات المناوئة للجيش لم تتوقف منذ القرارات التي اتخذها البرهان في أكتوبر الماضي، والتي أزاح بموجبها تحالف "الحرية والتغيير"، الشريك المدني الذي كان يتقاسم السلطة الانتقالية مع الجيش منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في احتجاجات شعبية خلال أبريل 2019.
المعارضة السودانية ترى أن البرهان لم يتمكن من الوفاء بوعوده التي قطعها في أكتوبر الماضي، ما أدى إلى فشل خارطة الطريق المرسومة من المؤسسة العسكرية لإكمال السيطرة على الأوضاع في البلاد، إذ لم يتسن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، ولا مجلس تشريعي، ولا مؤسسات عدلية وقضائية، وهي أبرز محاور خطة "تصحيح المسار" التي قادتها القوات المسلحة.
وكان البرهان قرر قبل عام، حل مجلسي السيادة والوزراء، وإقالة رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وتجميد العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجميد لجنة إزالة التمكين ومكافحة الفساد، التي كانت معنية بتفكيك نظام البشير، في خطوة وصفها بأنها تصحيحية لمسار الثورة، بينما اعتبرتها القوى السياسية وفاعلون في المشهد السوداني أنها تُمثل انقلاباً على الحكومة المدنية.
تحديات خارطة الطريق
البرهان برّر قراراته مراراً بأنها جاءت بعدما وصلت البلاد إلى مرحلة حرجة، بسبب الخلافات بين القوى السياسية وسيطرة مجموعة حزبية صغيرة "الحرية والتغيير" على مقاليد السلطة.
ولطالما قال قائد الجيش، إنه يتطلع إلى توسيع قاعدة المشاركة، قبل أن يؤكد عدم رغبة الجيش بالاستمرار في الحكم والتزامه التام بمسار عملية الانتقال المدني الديمقراطي، إذ لاقت تلك التعهدات حينها حالةً من الرضا لدى بعض الأوساط السودانية، في حين أبدى طيف واسع من الفاعلين في المشهد السياسي رفضاً مطلقاً لها.
ووضع قائد الجيش وقتها خارطة طريق شاملة تبدأ بتشكيل حكومة من كفاءات وطنية مستقلة، وتكوين مجلس تشريعي يُمثَّل فيه شباب الثورة، وتشكيل المؤسسات العدلية كالمحكمة الدستورية والنيابة العامة ورئاسة القضاء، على أن تُختتم بإجراء انتخابات عامة في 2023، يختار فيها الشعب من يحكمه.
وفي أعقاب توقيع البرهان اتفاقاً مع رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في 21 نوفمبر 2021، أفرج الجيش بموجبه عن معتقلين سياسيين، وألغى حالة الطوارئ بالبلاد، في إجراءات قال عنها قائد الجيش آنذاك، إنها تهدف لتهيئة المناخ لحوار جاد يُنهي الأزمة الحادة في السودان.
لكن بعد 3 أشهر فقط من ذلك الاتفاق تقدم حمدوك باستقالته، وترك البرهان وحيداً، قبل أن يعود لاحقاً ويُعلن انسحاب القوات المسلحة من المشهد السياسي، وعدم المشاركة في مفاوضات قادتها الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لإفساح المجال للقوى السياسية، وأنه سيحل مجلس السيادة ويذهب الجيش لثكناته على أن ينشئ مجلساً أعلى للقوات المسلحة.
"فشل الإجراءات التصحيحية"
خبراء سياسيون اعتبروا أن خطة الجيش السوداني اصطدمت بتعقيدات داخلية وخارجية، على غرار الاحتجاجات المتواصلة، والضغط المستمر من قبل المجتمع الدولي، والتحذيرات المتكررة من مغبة المضيّ في تشكيل الحكومة والمؤسسات الانتقالية بشكل منفرد كونها لن تجد الاعتراف، وهو ما دفع البرهان للتراجع عن المضيّ في هذا الاتجاه.
في المقابل، قال ضابط سوداني كبير متقاعد في تصريحات لـ"الشرق"، إن "التردد الذي شاب تصرفات القائد العام للجيش "كان سبباً رئيسياً في فشل الإجراءات التصحيحية، وأدى ذلك لأن تدفع المؤسسة العسكرية فاتورة باهظة الثمن ستظل تلاحقها لعقود مقبلة".
ويرى الضابط السوداني أنه كان ينبغي على البرهان المضيّ قدماً في تشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية من حكومة كفاءات، ومجلس تشريعي، ومفوضيات، وفرض هيبة الدولة "دون الاكتراث لبعض الأصوات في الداخل والخارج".
وتابع: "عندها سيجد الجميع أنفسهم أمام الأمر الواقع وتكون القوات المسلحة بذلك قامت بواجبها الدستوري في حماية البلاد، لكن قائد الجيش ظل متردداً في المضيّ قدماً، رغم الدعم الذي وجده من المؤسسة العسكرية وخارجها".
وأضاف الضابط المتقاعد: "الإجراءات التصحيحية فشلت منذ أن بدأ البرهان في مفاوضة حمدوك لإعادته لمنصبه رئيساً للوزراء، والتي استغرقت وقتاً طويلاً تسبب في ازدياد حالة السيولة السياسية والأمنية وتمدد رقعة الاحتجاجات، الأمر الذي أدى إلى تعطيل كامل لخطة تصحيح المسار، ما خلف غضباً داخل المؤسسة العسكرية".
تعقيدات داخلية وخارجية
أستاذ العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية في "جامعة السودان"، الرشيد محمد إبراهيم، يعتقد أن "خارطة طريق تصحيح المسار التي وضعها قائد الجيش لم تُنفذ حرفياً، ولكن المشهد الكلي أصبح مهيئاً لتطبيق خطة الإصلاح السياسي، حيث بات الكل مقتنعاً بضرورة تكوين حكومة كفاءات غير حزبية على سبيل المثال، وكذلك بقية القضايا".
وقال إبراهيم إن "الهدف الاستراتيجي من قرارات البرهان في 25 أكتوبر الماضي، كان إبعاد قوى الحرية والتغيير من المشهد السياسي والسلطة، كونها شكّلت خطراً على المصلحة الوطنية وفق ما رأته المؤسسة العسكرية، ما دفع بقائد الجيش إلى الانقضاض عليها بالإجراءات التصحيحية، استناداً إلى قانون القوات المسلحة".
وأشار الرشيد إلى وجود تعقيدات داخلية وخارجية حالت دون تنفيذ خارطة طريق قائد الجيش، والمضي قدماً في تكوين الحكومة المستقلة وتشكيل المجلس التشريعي، لكن الفائدة الكبرى التي تحققت من الإجراءات، بحسب رأيه، هي أن لا طرف يستطيع الانفراد بالمشهد السوداني مستقبلاً، ولن تكون هناك تسويات واتفاقيات ثنائية مثلما حدث في السابق، إذ "يؤمن الجميع الآن بمبدأ توسيع قاعدة المشاركة في الحياة السياسية في البلاد".
وتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي وتوسيع دائرة المشاركة السياسية في البلاد، فالوضع، حسب تقديره، أصبح مواتياً للغاية للتوصل إلى تسوية شاملة تُخرج البلاد من أزمتها ولن يكون هناك مجال جديد لاتفاقيات ثنائية تحتكر السلطة لصالح مجموعات بعينها.
"فراغ دستوري غير مسبوق"
في مقابل ذلك، يقول المحلل السياسي شوقي عبد العظيم، إن "كل ما وعد به البرهان في قرارات الانقلاب العسكري لم يحققه، فالأوضاع الأمنية ازدادت سوءاً، إذ يموت المئات بالصراعات القبلية، وتدهورت الأوضاع الاقتصادية، كما لم يتم تشكيل حكومة عريضة وعاشت البلاد فراغاً دستورياً غير مسبوق، وهو ما يعني ضمنياً فشل تلك القرارات".
وأضاف أن "فشل خطة الجيش للاستيلاء على السلطة وعدم استمرار البرهان في إنفاذها يعود إلى الوقفة الصلبة للشارع السوداني، بجانب الضغط المتواصل من المجتمع الدولي، والتحذير المستمر من عدم تشكيل حكومة بشكل أحادي وأنها لن تجد الاعتراف، فضلاً عن رفض القوى السياسية والثورية توقيع أي تسوية مع العسكريين رغم سعيهم وراء ذلك طيلة الفترة التي أعقبت قرارات 25 أكتوبر".
وشدد عبد العظيم على أن "القوى السياسية الحية في السودان التي حاولت بعض الآليات الإعلامية دمغها بالضعف، أثبتت أنها قوية فعلاً، ولولا وقفتها الصلبة لنجح الانقلاب العسكري ولطبق قائد الجيش خطته كاملة ونجح في الانفراد بالمشهد".
اتفاق محتمل
في 12 أكتوبر الجاري، قالت مصادر مدنية وعسكرية سودانية لـ"الشرق"، إن البرهان توصل مع قوى "الحرية والتغيير" إلى اتفاق بشأن الكثير من القضايا، فيما لا يزال النقاش مستمراً بشأن النقاط الخلافية، في أول "تحركات جادة" نحو "اتفاق شامل" بين الجانبين، منذ 25 أكتوبر 2021.
وحصلت "الشرق" على نسخة من وثيقة وُصف حينها بأنه "الاتفاق الوشيك" بين العسكريين والمدنيين، التي تنص على تشكيل حكومة كفاءات برئيس مدني، على أن تختار القوى المدنية رئيس الحكومة وهيكله الوزاري، وتشكيل مجلس للأمن والدفاع يتبع رئيس الوزراء، ويكون البرهان القائد العام للقوات المسلحة، و نائب رئيس المجلس السيادي محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائداً لقوات الدعم السريع.
وأضافت المصادر أن الوثيقة صدرت بعد اجتماعات مكثفة عُقدت في بيت الضيافة بالعاصمة الخرطوم (مقر قيادة الجيش)، وحضرها حميدتي، وبابكر فيصل، والواثق البرير، وطه عثمان، من قيادات قوى الحرية والتغيير، بهدف تجاوز الخلافات وإنهاء الأزمة.
وأوضحت المصادر أن وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، وعضو مجلس السيادة السابق محمد حسن التعايشي، شاركا في إعداد الوثيقة.
نقاط خلافية
تتعلق النقاط الخلافية في المفاوضات الجارية، بتمثيل المؤسسة العسكرية السودانية في مجلس الأمن والدفاع، إذ يرى فريق أن يتم تمثيل المؤسسة بالقائد العام للجيش، وهو ما ترفضه أغلبية العسكريين، في حين يرى فريق آخر أن يُمثل وزير الدفاع المؤسسة على أن تنحصر مهام الأجهزة العسكرية في الأمن والدفاع.
اقرأ أيضاً: