10 مبدعين مصريين يكتبون لـ"الشرق" عن "عام العزلة"

time reading iconدقائق القراءة - 24
أحد شوارع العاصمة المصرية القاهرة بعد انتشار جائحة فيروس كورونا. 25 مارس 2020 - AFP
أحد شوارع العاصمة المصرية القاهرة بعد انتشار جائحة فيروس كورونا. 25 مارس 2020 - AFP
القاهرة-محمد شعيرعلا الساكت

تعيش "ماكوندو" الجزيرة الخاصة التي يؤسسها خوسية أركاديو كمدينة فاضلة، في عزلة، لا علاقة لها بالعالم الخارجي، لا شيء يحدث في المدينة، كل شيء يتكرر عبر 7 أجيال لأسرة واحدة، كانت عزلة أهالي "ماكوندو" اختيارية، يولد أول الأبناء بذيل، ولأن الأسرة تتزوج من بعضها البعض يبقى الذيل مورّثاً فى كل الأفراد. 

وفي النهاية يكتشفون أن الخطأ هو العزلة، الانغلاق، عدم انفتاحهم على العالم، هكذا، في أجواء من الواقعية السحرية، عبّر الأديب العالمي غابريل غارثيا ماركيث، فى روايته الشهيرة "مئة عام من العزلة" إحدى أشهر روايات القرن العشرين، عن تأثير العزلة في الأفراد.

وفى عام 2020، عاش العالم كله لا مدينة محدودة، واقعية سحرية من نوع آخر، عزلة إجبارية هذه المرّة بسبب انتشار جائحة كورونا، عام واحد من العزلة، وربما أقل من عام، كان كافياً ليُدرك الجميع أنهم عاشوا عاماً صعباً: وحدة وغياب أحبّة، وصعوبة تواصل، ورغم ذلك رأى البعض كثيراً من الجوانب الإيجابية في العزلة الافتراضية.

"الشرق" قررت طرح سؤال على عدد من المبدعين الروائيين والشعراء المصريين: "ماذا فعل بكم عام العزلة؟ وماذا فعلتم فيه؟"، ليكتبوا عن أيام الألم والأمل في السطور التالية:

الروائي إبراهيم عبدالمجيد

في 2020 استمعت إلى ما يقال من ضرورة عدم مخالطة الناس أو حضور فعاليات أو احتفالات وأن أضع الكمامة على وجهي، حتى أنتبه أنّي في البيت وأخلعها، وكلما جاءتني مكالمة تليفونية أغسل يدي بعد انتهائها، ثم أدرك أنّي لم أكن أتحدث مباشرة مع أحد، ولم أصافح أحداً بل كنت أمسك بهاتفي المحمول.

انصرفت عن الدنيا ورحت أكتب في رواية جديدة، وأنا لا أحب أن أتحدث عما أكتب فيه إلّا حين يقترب موعد النشر أو حين أبدأ في نشر حلقات منها في الصحف .

 هي ثلاثية أيضاً أنفقت فيها وقتاً طويلاً بالليل والنهار أخذتني عمّا حولي، وعشت في عالم أفضل كعادتي مع الرواية. لم تكن قراءاتي كثيرة بسبب الانشغال بالرواية. لكنّي كنت حريصاً دائماً علي سماع الموسيقى الكلاسيك ليل نهار، فهى تحملني إلى عالم أجمل أثناء وقبل وبعد الكتابة.

المرات القليلة التي عدت فيها إلى ما حولي واجهتني فيها آلالام بفقد كثير من الأحبّاء ابتداءً بصديق العمر الجميل سعيد الكفراوي، وانتهاءً بالكاتب الخلوق الجميل بهاء عبد المجيد. 

حاولت أن أشغل أوقات الفراغ على "الميديا" ومتابعة تويتر أكثر من فيسبوك، حيث تقل أخبار الموتي والرحيل. الآن أراجع الثلاثية التي لم أعلن حتى عنوانها، وأرجو نشرها بعد أن ينتهي هذا الشتاء ومع بداية الصيف. 

الحبسة في البيت تطيل من الليل والنهار حتى لم أعد أفرّق بينهما، ويزيد الإحساس بالفراغ شعوري بأنني غير قادر على الحركة كما كنت من قبل، لذلك أخرج مرّة كل أسبوعين، لكن الحمد لله أن الرواية الجديدة ساعدتني على العبور من الإحساس بالضيق والعدم.

الروائي محمود الورداني

من بين عطايا الشيخوخة أنها تمنح الواحد جلداً وبطئاً وتأنياً فى ردود الفعل، أو أن هذا ما حدث لي بعد تواتر الأنباء عن الجائحة. الحقيقة أنني لم آخذ الأمر بكامله مأخذ الجد، فالشيخوخة تمنح الواحد ما يشبه استئناس الموت، فالخوف يتضاءل عندما تدرك أنه قريب وأنك فى الطريق إلى الموت.

لهذا حرصت فقط على ألا أسبب الأذى لأهلي، فارتديت الكمامة بلا اقتناع حقيقي، ورششت يدي وما تلمسه، وابتعدت قدر الإمكان عن الزحام، دون اقتناع داخلي.

وبعد شهور من "الجائحة"، ومع تداعياتها، وضحاياها الذين بلغت أعدادهم ملايين من القتلى والمصابين على نحو غير مسبوق، بدا لي أن كوكبنا فشل فشلاً ذريعاً ومخيفاً فى مواجهة "الجائحة".

بدا لي أن الفشل "لا أخلاقي" فى المحل الأول، يلحق بالنظام الرأسمالي العالمي الذي ينفرد بالحكم والتحكم في كل أرجاء الكوكب. لطالما تغنّت كثير من النظم التى تحكم أوروبا والولايات المتحدة بتأمينها الصحي الشامل، وقد مُنيت جميعها بالفشل، وقادت كوكبنا نحو أسوأ ما يمكن أن يتعرض له من موتى يتساقطون كل دقيقة، وربما كل ثانية.

الخسائر مخيفة ومعدلات النمو صفرية والركود يلف الكوكب والتراجع والانهيار أصاب النظام الرأسمالي العالمي في مقتل، بل وشهدنا كيف وقفت الأمم المتحدة ووكالة الصحة العالمية بها عاجزة عن المواجهة.

ومع كل هذا فإن مما يثير الدهشة ما جرى لي على نحو شخصي، فقد ظللت لما يقرب من العامين عاجزاً عن الكتابة، بدأت أكثر من محاولة ثم توقفت وعانيت بشدّة من هذا الأمر الذي يعني بالنسبة لي الموت ولا أقل، لكنني وفى عز الكورونا، ومنذ سبتمبر الماضي، وأنا أشتغل على عمل روائي أنقذني وعزلني وعزز من مناعتي وقطعت فيه شوطاً وصل إلى 15 ألف كلمة بعيداً عن الكورونا.

الشاعر علاء خالد

تلك العزلة الاضطرارية التي امتدت لشهور طويلة نتنقل فيها بين أرجاء البيت بحثاً عن ثغرة، نتأمل أشياء ومفردات حياتنا اليومية، ذاكرتنا، ربما من كثرة تأملنا اكتشفنا مالم نكن نراه فيها من قبل، وربما بدأ المكان/ الذاكرة يتسع من جديد، ولكن في اتجاه آخر. 

كل منّا أصبح له القدرة على فحص، "الحياة"، كمكان وزمان، كأن فكرة "الحياة" نفسها لم تعد متحركة، أو سيالة، بل توقفت، وأصبحنا خارجها، نعاينها من موقف العزلة هذا، نفكر فيها، نحاول أن نعيد إليها حيويتها، أو نسحب منها التسمم الذي حاق بها بسبب الوباء وحالة الفزع العام. 

كنّا نعيد مراجعة حياتنا ونحن نقف على الحافة، بدون وعد بحياة جديدة، كأن هناك تجربة كبيرة على وشك الفشل، وهي التجربة الأهم في عمرنا كله. حتى يجيء النوم، نغطس فيه، كأنه جزء مفصول عنّا، كأن "اللاوعي" يريد أن يستقل عن ذاكرتنا، وربما هي إحدى إشارات الانفصام.

في بدايات العزلة، ربما شعرنا بصمت العالم من حولنا، وأراحنا هذا قليلاً من الدوشة والتصارع الذي كان مسيطراً من قبل، عدنا لشرنقتنا الداخلية مع تأكيد بأن العالم أيضاً داخل هذه الشرنقة. كان هذا مُسكِّناً مريحاً لنفوسنا، فالخارج لم يعد يتحرك، وبالتالي فقدنا مكاننا على شاشة خريطة العالم، ولكن مع الوقت زالت السكرة، وجاءت الفكرة، لكوننا محاصرين ويمكن أن يطول الصمت هذا، وتتعمق الشرنقة، وربما تبتلعنا.

 شهور طويلة نحاول فيها البحث عن منفذ، تتوارد الأخبار من حولنا من كل أرجاء العالم تخبرنا دقيقة بدقيقة عن مصير الجنس البشري، الذي ترك الشوارع خالية تماماً. ربما من الأزمات القليلة التي أشعرتنا معنى "المصير الواحد"، الذي يجمعنا بالجنس البشري، وربما عند هذه النقطة لم يعد الخارج يشكل تهديداً لنا، أو نريد أن نراه فقط صامتاً. فإن كنا فقدناه مكانياً، ربما، لكننا استعدناه مجازياً كمعنى. 

بدأت الأزمة تكشف عن هذه الرغبة في التواصل، وعن حجم العزلة الكبرى، المخفية، التي كنّا نعيشها خارج الأزمات عموماً.

حتى علاقتنا بالزمن تغيرت، الشهور أصبحت يوماً واحداً ممتداً، ربما بلا تغيير، ولكن هذا الفجوة الزمنية لها مزيّة أخرى بالنسبة للفيلسوف الفرنسي إدجار موران، الذي يرد على سؤال وجهه له أحد الصحافيين: هل العزل سيغيّر علاقتنا بالزمن؟ يجيب: "نعم بفضل الحجز، وبفضل هذا الوقت الذي نستعيده، الذي لم يعد مقطَّعاً، ومحتسباً بدقة، هذا الوقت الذي يتفلت من الدائرة المغلقة للمترو- العمل- النوم، يمكننا أن نستعيد ذواتنا، ونرى ما هي احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشعرية الحياة.. الحجز يمكن أن يساعدنا على البدء في تطهير طريقة حياتنا، وفهم أن العيش بشكل جيد هو تحقيق إمكانات "الأنا"، ولكن دائماً داخل "النحن".

الروائية منصورة عز الدين

يخيل لي حين أحاول استعادة تفاصيل 2020 وقد اقترب من نهايته، أنه كان يوماً واحداً ممتداً وجدنا أنفسنا عالقين فيه بلا مخرج ولا طوق نجاة مضمون. كان أيضاً عام الهشاشة واللا يقين والتوجس. 

ثمّة دروس لا تُحصى قدمها لنا 2020، لكن هل تعلمناها؟ لستُ واثقة من هذا. فاتني تعلم دروس كثيرة من 2020 بلا شك، لكن من ضمن القليل الذي تعلمته؛ محاولة ترتيب أولوياتي على نحو مختلف ومحاولة تقبل ضعفي البشري وعدم التنكر له أو التعالي عليه. 

ولعل أهم ما تغير في برنامجي اليومي خلال 2020، أنّي صرت أبدأ يومي بهدف بسيط وطموح متواضع جداً؛ الرد مثلاً على بضع رسائل متراكمة، كتابة فقرة أو فقرتين، أو الانتهاء من مهام صغيرة مؤجلة. في أيام كثيرة، أكتفي بالجلوس في حديقة بيتي، أراقب الزمن وقد تجمَّد وطردني خارجه.

بلا مبالغة، صرتُ فعلاً كَمَن يعيش خارج الزمن؛ لا ينتبه إلى تعاقب الأيام والشهور، وحتى إن فعل، لا يهتم كثيراً بهذا التعاقب. في الشهور الأولى تحديداً من بدء انتشار "كوفيد-19" تكثَّف هذا الشعور داخلي، تحول العيش إلى حياة في حدها الأدنى، لأن طموحها الأكبر تمثل في مجرد أن نبقى نحن ومن نحب أحياء.

أفكر في 2020، فأكتشف أنه يكاد يكون عاماً بلا ذكريات، أو للدقة بذكرى وحيدة تتمحور حول الخوف والانتظار والرجاء، فأيامه –في معظمها- متشابهة؛ بلا أحداث تُذكر. عاش أغلبنا خلاله داخل نفسه يخشى عليها من الآخرين، ويخشى على الآخرين منها.

لم أغادر القاهرة منذ فبراير الماضي، وربما تكون تلك هي أطول فترة زمنية متواصلة قضيتها فيها، التزمت بالحجر الذاتي لقرابة خمسة أشهر، قبل أن أضطر للعودة إلى العمل يومين أسبوعياً، كتبت أقل مما أفعل عادةً؛ اكتفيت بتحرير مسودات قديمة وبالقراءة المكثفة. لم أتبع في القراءة جدولاً محدداً.

 تركت نفسي لإرادة الكتب لتقودني وفق أهوائها، أبتسم حين أتذكر أنني كنت قد وضعت قائمة مغايرة للقراءة في بداية العام، وأقول: لا سيطرة لي على مجريات حياتي الآن، فلماذا أرغب في السيطرة الصارمة على قراءاتي؟!

محاولة النظر إلى الجانب الإيجابي في كل أمر، حتى وإن كان كارثة، عادة متأصلة عندي، لا أعلم من أين اكتسبتها، لكنني أدين لها بالقدرة على النهوض سريعاً بعد كل إخفاق. 

في حالتنا هذه، أستحضر هذه العادة، وتنجح معي أحياناً، لكن في أحيان أخرى أخشى أن ينطوي هذا الفعل على استهانة غير مقصودة بآلام ضحايا 2020، فأتوقف عنه فوراً.

الروائي يوسف رخا

أهم ما استوقفني لدى ظهور الكورونا في أوائل سنة ٢٠٢٠، هو تعامل الناس مع الأزمة - سواء المؤسسات الدولية الكبرى التي أخفت معلومات ثم اتخذت قرارات خطيرة بلا سند علمي كافٍ، أو الأفراد الذين تبنوا موقف الرعب، ونصبوا أنفسهم قضاة ليدينوا الآخرين بشكل تلقائي على شبكات التواصل الاجتماعي.

حين اتُخذ قرار الإغلاق وفُرض على الجميع بلا نقاش ولا استشارة ولا حتى معلومات واضحة أو كافية، والأهم بلا أي حساب لتبعاته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ولم يسمح أحد بأي صوت معارض أو حتى متسائل. 

أعتقد أنني ارتعبت من المشهد، الغياب التام للحس النقدي أو القدرة على طرح سؤال، والاستعداد المجاني للحكم على الآخرين، وبدا لي هنا وفي مواقف أخرى خلال السنة مثل مظاهرات " Black Lives Matter" مثلاً أن البشرية تتنازل عن أحد أهم مكتسباتها عبر القرون وهي العدالة في صيغتها المنظمة، أصبحت الحشود تخرج لإسقاط التماثيل، والناس تدان علانية بلا محاكمة ولا دفاع ولا أي مساحة لتقييم ما يحدث بحياد أو موضوعية. 

وأظن أن هذا تأثير التواصل الاجتماعي بالفعل، أظن أن هذه الردّة الأخلاقية إلى زمن العصبيات والانحيازات والعمى الأخلاقي هي من فعل التكنولوجيا. 

بالنسبة لفترة الإغلاق في مصر، لا شك أن الصمت والفراغ والحرمان من الفضاء العام والاختلاط وما إلى ذلك كله ترك أثراً نفسياً سلبياً عندي ولا بد أن هذا تسرب إلى ما أكتبه وقتذاك، لم تكن العزلة محفزة على الكتابة، ربما يخلق مثل هذا الوضع مساحة أو فراغات يبدو أنها تساعد أو تشجع على مزيد من العمل لكن الحقيقة أن الصمت والكآبة هي أشياء معطلة. 

أنا لم أتوقف تماماً عن العمل لكن الإغلاق - ومع أنه لم يؤثر في إيقاع يومي - لم يكن عاملاً إيجابياً.

 ميزة سنة ٢٠٢٠ أنها أتاحت فرصة للتأمل أو النظر بوضوح إلى واقع العالم وما وصلنا إليه، وهذا شأن الاضطرابات والكوارث الكبرى: أنها تتيح رؤية لم تكن متاحة قبلاً. لكن طبعاً لم يسلم الواحد من الحزن والإحباط بالنظر إلى إخفاقات البشرية وخسارات الآخرين.

الناقد حاتم حافظ

توقفت عن قضم أظافري. حين أفكر فيما فعله عام الخوف فيّ أتذكر أني - بعد سنوات من عادة قضم الأظافر - تعلمت مقاومة الرغبات الطفولية، وتعلمت الاعتناء بأظافري، يبدو هذا التغيير تافهاً لكن بالنظر لأنه طرأ على رجل في منتصف الأربعينيات لم تنجح أمه ولا زوجته في أن يتخلى عن عادات الطفولة يبدو أكبر مما يتخيل المرء.

يبدأ الرجل رحلته إلى الشيخوخة حين يتخلى عن مثل هذه العادات الصغيرة، حين تصبح الكتابة على طاولة المكتب الاختيار الأول بديلاً عن طاولة المقهى، والجلوس في الشمس في شرفة منزله بديلاً عن التمشية تحت المطر، وحين يحيط نفسه بأكياس النعناع والملبس، وحين يتعلم الاحتفاظ بأظافره مستوية الأطراف وناعمة كأظافر النساء!

ويشيخ الرجل تماماً حين يفعل ذلك بدافع الخوف، الخوف من المرض، من أن يتسرب الفيروس الخبيث المختفي على أسطح الطاولات وزجاجات الصودا وأكياس البقالة ودرابزين الدرج وحتى على علب الأدوية وأيدي الأحبّة إلى طرف أظافره، ثم - وفي لحظة غفلة - وأثناء هجمة مرتدة للخصم في مباراة كرة قدم محلية - يتسرب للفم - مع قضمة ظفر - ومنه إلى الرئة فيرديه قتيلاً بلا شفقة، يشيخ الرجل حين يخاف، وهذه أعوام خوف.

أشعر كما لو أن ذلك الخوف قد عشش في روحي وبدأ في التهام الحياة فيها. الخوف أيضاً فيروس، لكن لأنه يتسلى بالقتل فإنه لا يستعجل ضحاياه، ومع كل صباح وكل ليلة يرفع علم انتصاره فوق هضاب الجسد وتبات الروح، ومع الوقت يحتل كل الزوايا، وفي لحظة خاطفة يرسم شبكته كسرطان يصيب زجاج سيارة فجأة وما هي إلا هبة من هواء أو لمسة من يد حتى يتفتت الزجاج ويتهشم. 

ليس أقسى من أن يخاف الرجل حين تمتد يد صديق للسلام وحين يتردد قبل أن يلقي بنفسه في أحضان أمه وحين يدخل بيته بعد غياب فيسلم على أبنائه بإيماءة فحسب.

أكثر ما أرغب فيه أن تنتهي تلك الأعوام، وأن يزول ذلك الخوف الكابوسي قبل أن أشيخ وأستسلم للمضي نحو شيخوخة مبكرة، وأتمنى لو أكون قادراً على الكتابة عن الخوف لعلّي بالكتابة عنه أبرئ روحي من ندوبه فيها.

الروائي حجاج أدّول

سمعنا عن عام الرمادة، وها نحن نعيش في وقائع عام الرخامة، عام ثقيل الغبن عاصف الوباء، جاف من البهجة قاسي اللهجة، عام عنوانه 2020، عنوان موسيقى ومظهره فن تشكيلي! لكن مخبره مرض وموت، عام 2020 قال لنا آمراً: اعلموا أن فوق كل ذي علم عليم. 

لعبتم بالتكنولوجيا وتجبرتم بوسائل الاتصال الحديثة، حتى صار العالم بين أصابعكم، وظننتم أن الكون سيأتي دوره لتتملكوه! إذن ما قولكم دام فضلكم بعد ما حيركم فيروس تافه؟ عليكم بالتواضع أكثر كلما تقدمتم أكثر.

فمهما علوتم فالهبوط متوقع، ما قبله عام على البشرية، ما بعده خاص على حالي.

ما كاد العام ينزلق منه شهران، حتى صاح قلبي صيحة شمشونية، وأعلن أنه قرر أن يتركني ويذهب! لماذا يا هذا؟ قال لقد أتعبتني بأمور صعب إعلانها، وحملتني بأحمال صعب إخفاؤها، وعرضتني لأنواء عاصفة فنال مني التعب، وعليه أعلن عليك الغضب. 

طالت صحبتي لك، وأصبحت مملة، فمن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم. ونحن وإياكم قاربناها، إذن فالرحيل أريح لي، فهل تملك بقاء يا أنت إن رحلت أنا؟ إن كان لا، فلماذا لم تقدر قيمتي وتحفظ مكانتي؟ شتتني وحيرتني وأربكتني، حتى اضمحلت مكانتي، فالوداع يا أنت، فقد قررت الوداع.

 تقول إنك أديب! فكم عدد قراؤك؟ كانوا قليلاً ومع جائحة الكورونا أصبحوا ندرة! فلمن تكتب ولمن تنكب ساعات على مفاتيح آلتك؟ وما ذنبي إن أنت تصر إصراراً على الصمود؟ اصمد أنت فإني راحل، ابقَ أنت إن كنت تستطيع البقاء بدوني، ولن تستطيع فأنا أهم بند في جسدك المتهالك.

ثم جدّ جديد، فعدلت عن قراري فأصبح المكوث قليلاً بديلاً عن الرحيل. قررت البقاء هنيهة لأن أرحم الراحمين قبل دعاء من أحبوك وهم سذج، قبل الله دعاءهم فأمرني بالبقاء سويعات، فبقيت رغم أنفي، لكن أقسم لك بقبر والديك، إن لم تحترم سني وإرهاقي، فلن أحترم أدبك ولن آبه بإصرارك على استكمال مشروعك الأدبي، وسأرحل في الوعكة القادمة، علّها قريبة. وليكن في حسابك.. لا أُفضّل الرحيل بسبب الكورونا، فالمشيّعون سيكونون قليلون، والترحمات ستكون نادرة. 

الشاعر إبراهيم داوود

العزلة موجودة قبل "كوفيد ١٩"، الوباء وضعها فقط فى مكانها الطبيعى، حين حددت السلطات خطوات التباعد كان على الجميع الخضوع، ليس احتراماً للسلطات ولكن خوفاً على الحياة نفسها، خوفاً على الأولاد، خوفاً على الحنجرة التى كفّت عن الكلام قبل كورونا منذ سنوات بعيدة.

فى الأيام الأولى كان للخوف رائحة تزكم الأنف، ولا توجد رغبة فى عمل أى شيء، لا يوجد تركيز، لا توجد كتابة ولا قراءة، أنت أمام التلفزيون كأنك فى انتظار طبيب ما فى عيادة ولا تعرف ما هو الألم الذى دفعك للذهاب إليه، تذهب إلى العمل فى مؤسستك الحبيبة الأهرام لتتفقد الوحشة بين الجدران، فى كل مرة تشعر بأنك هناك لتودّع أوراقك وأحلامك، أصدقاء العمل قليلون للغاية، ولا يذهبون إلى العمل، الوباء ابتكر ثقافة جديدة، ثقافة الكحول والصابون والكمامة والوصفات التى أغرقت اليوتيوب، ثقافة موجودة فقط وأنت فى البيت أو العمل، ولكنك وأنت فى الشارع تكتشف أن الحياة لم تتغير.

تتأمل الناس ولا تخفي إعجابك بشجاعتهم فى مواجهة الموت، وتحاول أن تكون مثلهم، ولكن مقاهيك مغلقة، وبعد فتحها جرّدوها من الشيشة والطاولة وأصدقائك الخائفين، الأكواب الكارتونية تشعرك بالغربة، وبأنك عابر بين عابرين.

 في وسط هذه الأجواء، اتصل بى الأستاذ مجاهد البوسيفي الليبي، وعرض عليّ أن أتحدث عن الموسيقى فى برنامج تلفزيوني، أخيراً وجدت شيئاً أحبه ينتشل نصاً من الحالة العدمية التي أعيشها، متعة البحث في الكتب واليوتيوب والساوند كلاود والتصوير كسرت حالة الخوف، وأعادت خطواتي إليّ، وجعلتني أتنفس بشكل أفضل رغم عودتي إلى التدخين بعد عامين من الإقلاع، وأيضاً الحرص على صدور مجلة إبداع التى أرأس تحريرها كل شهر.

ولكن الحزن الذي خلّفه رحيل عدد غير قليل من الأحبّة ظل يمسكني من قلبي ويشعرني بالبرد وخيبة الأمل ويجعلني ساهماً، لا أعرف أين تقودني قدماي.. وأنا خارج من البيت.

الشاعر جرجس شكري

لم يعد الإنسان يتأمل الآخرين في الشارع أو في المسرح أو دور العبادة، لم يعد أمامه إلا أن يتأمل نفسه، أفعاله، سلوكه اليومي تجاه نفسه، وعلى الأكثر نحو العائلة، يتأمل ملابسه، أحذيته، أثاث البيت، المطبخ، الحوائط، الجيران عن بعد، النوافذ البعيدة، وشعر فجأة أن الأقدام توقفت عن الحركة. 

الإنسان الذي ظنّ أنه سيطر على كل شيء ويستطيع أن يفعل كل شيء، أصبح  عاجزاً عن أي فعل سوى الخوف والقلق من المجهول، تلك كانت المشاعر الأولى بعد إعلان الحظر العالمى بسبب الوباء، كانت مشاعر مخيفة لكن مع الوقت أصبحت فكرة البقاء في البيت رائعة للتخلص من العالم ولو لبعض الوقت ليجلس الإنسان مع ذاته أطول وقت ممكن. 

وجدت نفسي متفرغاً تماماً للقراءة والكتابة فهذا شعور آخر مغاير للخوف والتوتر من الوباء، كانت فرصة لمراجعة مشاريع معطلة، سواء للقراءة أو الكتابة، فكانت فرصة لقراءة مجموعة من المسرحيات العالمية، وأيضاً كنت أرغب في إعادة قراءة مجموعة من كتب طه حسين وأعمال أخرى، ومع القراءة نسيت تقريباً الإغلاق والحظر وبالطبع ليس تماماً. 

كنت أريد أن أكتب كتابين، الأول فى أدب الرحلات، عن المدن الأوروبية التى أقمت فيها، وكتاباً آخر في نقد المسرح، فجأة وجدتني أترك كل شيء وأكتب شعراً، كتبت مجموعة النصوص، تقريباً ديوان جديد يحتاج إلى بعض الوقت للانتهاء منه، وهذا أسعدنى كثيراً، لدرجة أنني رغم الصدمة التي نعانيها حتى الآن بسبب هذا الحدث، إلّا أن البقاء في البيت كانت له نتائج طيبة في الكتابة والقراءة، من ناحية أخرى يبدو أن العالم كان يحتاج إلى هذه العطلة الإجبارية.

الشاعرة حنان شافعي

بالنسبة لي، بدأ هذا العام مفعماً بالنشاط والاكتشاف في مدينة الفيلسوف إيرسموس أو نوتردام، حيث كنت في زيارة عمل إلى هولندا، ورغم أجواء الحرية المنعشة وبرد الشتاء الأوروبي الذي تسلل إلى روحي لأول مرة، كنت أتعجل العودة ولا أدري لماذا. 

وبالفعل، عدت إلى "المحروسة" مع منتصف يناير 2020، لتشاء الظروف وأنطلق سريعاً نحو الجنوب، حيث قضيت الشهر الثاني من العام في مدينة الأقصر ذات الشمس الساطعة دائماً. 

ربما كانت تلك التحركات المصحوبة بجرعات وفيرة من المرح ولقاء الأصدقاء والمشي في طرقات جديدة تماماً وجديدة / قديمة مقدمة لمكوث طويل ثقيل ينتظرني بقية شهور العام، لم أكن أتخيل كل ما حدث بعد ذلك. 

كما لم أفهم سر القلق الدفين الذي سيطر على قلبي، عدت من الأقصر قبل اكتشاف أولى حالات الإصابة بالوباء بأيام معدودات، ظل الأمر مجرد معلومة في نشرات الأخبار حتى وجدتني أضع الكمامة على وجهي ذات صباح. 

لقد أصبح واقعاً يومياً وتسللت كلمة "الجائحة" إلى كل التفاصيل، عناوين الأخبار ومذياع المترو ومراسلات العمل وحديثي إلى أمي، تبدلت حواديت أطفال العائلة إلى وصايا كئيبة باستخدام المطهرات والنهي عن التلامس أو الخروج حتى إلى المدرسة والحضانة.

شعرت بأن معركتي الممتدة دائماً مع الخوف تأخذ منعطفاً جديداً. الآن، لست خائفة من المستقبل بل من الواقع، من البشر المحيطين، من الإهمال، من الفيروس، ومن نفسي حين أفقد الأمل، لكن طاقة خفيّة أخذت تتولد في روحي.

هدوء عجيب يخيّم علىّ مع مطلع كل يوم، رغبة في طمأنة الجميع بأن كل شيء سيكون على ما يرام، حتى ونحن نودع كل يوم أعزاء، يظل بداخلي شعور عميق بأنها بداية كونية جديدة، وربما فرصة للمراجعة وإعادة ترتيب الأولويات. 

إنه بلا شك فصل جديد من معركتنا جميعاً مع الخوف، ذلك العدو الذي يقهرنا كلما منحناه فرصة للتمدد، صحيح أن هذا الوباء أرغمنا على مزيد من الانغلاق والوحدة، لكنها وحدة خالية من الأنانية، نبتعد عن بعضنا البعض لكي نسلم من السقم، سقم النفوس قبل الأجساد وهو الأهم في ظني. 

وإذا كانت المسافات بيننا الآن أكبر، فإن القلوب أكثر دفئاً ومودّة وامتناناً، وهذا مكسب يليق ببداية جديدة لطالما كنّا في حاجة إليها.