أثار تقدّم سريع حققته حركة "طالبان"، للسيطرة على مزيد من الأراضي في أفغانستان، قلقاً من روسيا إلى الصين، في وقت أدى قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بسحب قوات بلاده، إلى تعطيل توازن للقوى في جنوب آسيا، بقي راسخاً لنحو عقدين.
وفرّ حوالى ألف جندي أفغاني إلى طاجيكستان قبل أيام، ممّا دفع تلك الدولة إلى حشد 20 ألف جندي إضافي لحراسة حدودها. في الوقت ذاته، سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نيل تأكيدات من "طالبان" بأنها ستحترم حدود دول آسيا الوسطى، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي، فيما أعلنت باكستان أنها لن تفتح حدودها أمام لاجئين محتملين من أفغانستان.
وأعلنت السلطات الأفغانية الأحد، نصب "نظام دفاع جوي"، لحماية مطار كابول، في ظلّ تقدّم "طالبان"، فيما أجلت الهند حوالى 50 شخصاً، بينهم دبلوماسيون وأمنيون، من قنصليتها في قندهار، المعقل السابق للحركة في جنوب أفغانستان، بعد معارك شهدتها الولاية بين "طالبان" والقوات الأفغانية.
جاء ذلك بعدما أوردت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن أجهزة الاستخبارات الأميركية خلصت إلى أن الحكومة الأفغانية قد تنهار، بعد 6 إلى 12 شهراً من استكمال الانسحاب العسكري الأميركي. ويثير ذلك تساؤلات بشأن إمكان أن تسيطر "طالبان" على البلاد في المستقبل القريب.
وأفادت وكالة "فرانس برس" الأحد بأن القوات الأفغانية لم تعُد تسيطر سوى على المحاور الرئيسة وكبرى المدن الإقليمية، في ظلّ حصار تفرضه الحركة حول كثير منها، وخشية من احتمال مهاجمتها كابول، أو مطارها. وأضافت الوكالة أن "طالبان" باتت تسيطر على مناطق مجاورة للعاصمة الأفغانية، في نطاق لا يتجاوز المئة كيلومتر.
تحرّك دبلوماسي صيني
ويعتزم وزير الخارجية الصيني وانغ يي زيارة دول في آسيا الوسطى قريباً، لإجراء محادثات بشأن أفغانستان، علماً أنه حذر قبل أيام من أن المهمة الأكثر إلحاحاً في ذاك البلد، تتمثل في "الحفاظ على الاستقرار ومنع الحرب والفوضى".
ووصف ناطق باسم الخارجية الصينية الانسحاب الأميركي بأنه "متسرّع"، معتبراً أن على واشنطن أن تفي بالتزاماتها، لـ"منع أفغانستان من أن تصبح مرة أخرى ملاذاً للإرهاب". وأضاف: "سارعت الولايات المتحدة إلى سحب قواتها من أفغانستان، وتركت شعبها في حالة من الفوضى، الأمر الذي يفضح أكثر النفاق وراء ذريعة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان".
وتعهد القيادي في "طالبان"، محمد سهيل شاهين، ألا تسمح الحركة لـ"أي شخص أو جماعة، باستخدام الأراضي الأفغانية ضد الصين أو أي دولة أخرى"، وتابع: "هذا هو التزامنا"، كما أفادت وكالة "بلومبرغ".
وأصرّ بايدن على أن الجيش الأميركي حقق أهدافه في أفغانستان، وسيغادرها بحلول 31 أغسطس المقبل، أي قبل الذكرى العشرين لغزوها، الذي كبّد الولايات المتحدة نحو تريليون دولار، وأدى إلى مقتل 2448 من جنودها. لكن النزاع مستمرّ، بالنسبة إلى مواطني أفغانستان ودول الجوار، ممّا يهدد مشاريع بقيمة 60 مليار دولار، في "الممرّ الاقتصادي الصيني الباكستاني".
وقال فان هونغدا، وهو أستاذ في "معهد دراسات الشرق الأوسط" بـ"جامعة شنغهاي للدراسات الدولية": "يمكن للفوضى في أفغانستان أن تمتد إلى دول أخرى وتؤدي إلى اضطرابات إقليمية. الصين لا تريد تولّي الدور الأميركي، لكنها تأمل بتسهيل السلام والاستقرار الإقليميين، إذ لديها مصالح في المنطقة".
ووصل زلماي خليل زاد، الموفد الأميركي المكلّف بملف أفغانستان، إلى المنطقة الجمعة، في أحدث جهد لتأمين اتفاق بين "طالبان" والحكومة الأفغانية. وأعلنت وزارة الخارجية أنه "سيواصل الانخراط في دبلوماسية حازمة، والسعي للتوصل إلى اتفاق سلام".
تضارب بشأن تمدّد "طالبان"
وأفادت أرقام جمعها موقع Long War Journal، بأن "طالبان" وسّعت سيطرتها بشكل كبير على الأراضي الأفغانية في الأشهر الأخيرة، مقلّصة المناطق الخاضعة للحكومة، إلى 20% من البلاد. وباتت الحركة تسيطر الآن على 204 من 407 مناطق، في مقابل 73 في مطلع مايو الماضي، بينما تسيطر الحكومة الأفغانية على 74 فقط، ويتنازع الجانبان على البقية.
وقال القيادي في "طالبان" شهاب الدين ديلاوار، الجمعة، إن حدود البلاد باتت الآن "تحت سيطرة" الحركة، مشدداً على أنها ستبقى مفتوحة وعاملة. وأضاف: "نؤكد للجميع أننا لن نستهدف الدبلوماسيين، والسفارات، والقنصليات، والمنظمات غير الحكومية، وموظفيها". وأعلن أيضاً سيطرة الحركة على 85% من مناطق أفغانستان.
لكن الناطق باسم قوى الأمن الأفغانية، أجمل عمر شينواري، نفى الأحد سيطرة "طالبان" على 85% من مساحة البلاد، قائلاً: "ليس صحيحاً. المعارك مستمرة في غالبية المناطق" التي تزعم الحركة استيلاءها عليها.
وأقرّ فؤاد أمان، نائب الناطق باسم وزارة الدفاع الأفغانية، بسيطرة "طالبان" على مناطق حدودية، مستدركاً: "سيطرتها لن تدوم. كثفنا هجماتنا وستُحرّر تلك المناطق وتُستعاد قريباً".
وذكرت "بلومبرغ" أن السلطات الأفغانية لا تزال تسيطر على كل عواصم المقاطعات الـ 34، علماً أن اثنتين منها، تحاذيان الصين وباكستان وطاجيكستان وتركمانستان، هما موضع نزاع الآن.
وأشارت الوكالة إلى أن الانتشار السريع لـ "طالبان" قد يؤدي إلى انهيار الحكومة الأفغانية والجيش، مذكّرة بأن هذا السيناريو حدث في تسعينات القرن العشرين بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي.
ونبّهت إلى تداعيات وخيمة على الدول الست المحاذية للبلاد، وكذلك دول مجاورة، مثل الهند، التي كانت غالباً هدفاً لهجمات نفذها متشددون، علماً أن الولايات المتحدة تجهد لمنع تنظيم "القاعدة" من استعادة موطئ قدم له في أفغانستان.
عودة "طالبان باكستان"
اتضحت الأخطار المحدقة بالمنطقة، في أبريل الماضي، بعد تفجير سيارة مفخخة أمام فندق فخم، يستضيف السفير الصيني في مدينة كويتا الباكستانية، قرب معاقل "طالبان" في جنوب أفغانستان. وأظهر الهجوم، الذي تبنّته جماعة "تحريك طالبان باكستان"، أن الحكومات في المنطقة قد تكافح لحماية الدبلوماسيين البارزين ورجال الأعمال، وفق "بلومبرغ".
وقال السفير الأفغاني في نيودلهي، فريد ماموندزاي "لطالبان صلات وثيقة مع 20 جماعة إرهابية، تعمل في كل أنحاء المنطقة، من روسيا إلى الهند. نشاطاتها ظاهرة على الأرض، وتشكّل تهديداً ضخماً للمنطقة".
وتشعر باكستان، التي ساعدت "طالبان" الأفغانية على تسلّم الحكم في التسعينات، بقلق الآن من ظهور جماعة "تحريك طالبان باكستان" مجدداً، والمُتهمة بالتسبّب بمقتل 70 ألف مدني في البلاد، منذ الغزو الأميركي لأفغانستان، في عام 2001.
وقد ترى الجماعة الآن فرصة لاستهداف مشاريع صينية من أجل التأثير في السياسات التي تنتهجها إسلام آباد، علماً أنها تعرّضت لضربات شديدة، نتيجة مزيج من عمليات عسكرية باكستانية وضربات نفذتها طائرات أميركية بلا طيار.
ونقلت "بلومبرغ" عن أسفنديار مير، وهو باحث في "مركز الأمن والتعاون الدولي" بجامعة ستانفورد، قوله: "هذه الجماعات تريد إيذاء باكستان، وهذه الهجمات تسبّب أضراراً أكثر من غيرها. الوضع في أفغانستان عامل مهم بالنسبة إلى أمن الممرّ الاقتصادي الصيني الباكستاني".
تحوّل "جيوسياسي"
وتُعدّ الصين هدفاً مؤاتياً بشكل خاص، إذ أن اقتصادها نما بنحو 5 مرات، منذ الغزو الأميركي لأفغانستان. وفي تجسيد لأهمية العلاقات بين بكين وإسلام آباد، خصّص الجيش الباكستاني قوة تضمّ آلاف الجنود، لحماية مشاريع "الممرّ الاقتصادي الصيني الباكستاني" في كل أنحاء البلاد.
ورجّح غوتام موخوبادهايا، وهو سفير هندي سابق لدى أفغانستان وسوريا وميانمار، أن تؤدي سيطرة "طالبان" على أفغانستان إلى توطيد العلاقات بين الصين وباكستان من جهة، والولايات المتحدة والهند من جهة أخرى، فيما تتوسّط روسيا وإيران الجانبين، لضبط سياساتهما اعتماداً على تصوّر التهديد.
وقال موخوبادهايا، وهو الآن باحث في "مركز أبحاث السياسات" (مقرّه نيودلهي): "ستتأثر المنطقة بشدة، لكن بقية العالم لن تكون محصّنة ضد التحوّلات في التوازن الجيوسياسي، والتطرف والعنف".
ومع تحقيق "طالبان" مكاسب ميدانية، يفرّ كثيرون من الأفغان من القرى، بحثاً عن أمان نسبي في المدن الكبرى. وتتوقع باكستان أن تستقبل 500 ألف لاجئ من أفغانستان، أعلنت السلطات أنهم سيبقون في مخيّمات حدودية. وثمة أكثر من 1.4 مليون لاجئ أفغاني مسجلين في باكستان، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.