تتراكم ملفات كثيرة خلافية بين الولايات المتحدة والصين، تتصل بالتكنولوجيا والأمن السيبراني وحقوق الإنسان ومسائل أخرى، لكن بحر الصين الجنوبي قد يشكلّ صاعقاً لأزمة عميقة بين الجانبين، ولا سيّما أنه يثير مصالح متضاربة، في ظلّ إجراءات تنفذها بكين، وتتوجّس منها واشنطن ودول آسيوية أخرى.
وعَكَسَ الخطاب الذي ألقاه وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أمام معهد أبحاث في سنغافورة، الثلاثاء، حجم التباين في هذا الصدد، معتبراً أن "مطالبات بكين بالأغلبية العظمى من بحر الصين الجنوبي، بلا أساس في القانون الدولي"، ومنبّهاً إلى أن "هذا النفوذ المتصاعد يتعدّى على سيادة دول المنطقة". واستدرك أن واشنطن "لا تسعى إلى مواجهة" مع بكين.
تبلغ مساحة بحر الصين الجنوبي نحو 3.5 مليون كيلومتر مربع، وهو طريق أساسي يربط بين موانئ المحيطين، الهادئ والهندي، وتمرّ عبره سنوياً، سلع وثلث حركة النقل البحري في العالم، بقيمة 5 تريليونات دولار.
وتفيد إدارة معلومات الطاقة الأميركية، بأن نحو 80% من الواردات النفطية للصين، تمرّ عبر البحر الجنوبي، من خلال مضيق ملقا. كذلك الأمر بالنسبة إلى نحو ثلثي إمدادات الطاقة لكوريا الجنوبية، و60% من إمدادات الطاقة لليابان وتايوان.
وتُعدّ المياه أيضاً مناطق صيد مربحة، وتؤمّن المصدر الأساسي للبروتين الحيواني لمنطقة جنوب شرقي آسيا. ويُعتقد بأنها تحتوي على مخزون ضخم غير مستغلّ من النفط والغاز الطبيعي.
"نزاع إقليمي شرس"
تثير الجزر الصغيرة في البحر الجنوبي "نزاعاً إقليمياً شرساً" بين 6 دول أساسية، هي بروناي والصين وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام، ما قد يشعل "حريقاً إقليمياً أوسع"، إذ تتنافس على "مسائل مرتبطة بالسيادة، ولا حلّ قانونياً سهلاً لها". كذلك "تتعمق الخلافات، نتيجة تفشي القومية"، فيما تتصارع الصين والولايات المتحدة للسيطرة على النظام الدولي.
ثمة سلسلتان من الجزر في البحر الجنوبي، وهي جزر "باراسيل" في ركنه الشمالي الغربي، وجزر "سبراتلي" في ركنه الجنوبي الشرقي. تطالب الصين وتايوان وفيتنام بكامل جزر "سبراتلي"، وماليزيا والفلبين بشكل جزئي. أما "باراسيل" فتطالب بها فيتنام والصين وتايوان.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، بقي الوضع هادئاً بشأن البحر الجنوبي. وفي عام 1946، نالت الصين أجزاء في "سبراتلي"، كما استولت، في العام التالي، على جزيرة "وودي"، وهي جزء من جزر "باراسيل"، قبل أسبوعين من اعتزام الفرنسيين والفيتناميين الوصول إلى اليابسة. واستقرّ هؤلاء في جزيرة "باتل" القريبة.
وشهد النصف الثاني من القرن العشرين، اهتماماً متسارعاً بالبحر الجنوبي، إذ أقامت الصين وتايوان وجوداً دائماً في جزر رئيسة، في عامَي 1955 و1956. وبعد مؤشرات على وجود نفط تحت مياه البحر، في مطلع سبعينيات القرن العشرين، نفذت الصين غزواً بحرياً منسّقاً لجزرٍ، وخاضت معركة في جزر "باراسيل" مع فيتنام الجنوبية، منتزعة أجزاء كثيرة، في نزاع أسفر عن مقتل عشرات من الفيتناميين وإغراق طرّاد.
تجدد العنف، في عام 1988، عندما سيطرت بكين على جزر "سبراتلي"، ثم احتلت شعاباً مرجانية، معروفة باسم "جونسون ريف"، خلال معركة أدت إلى مقتل عشرات البحارة الفيتناميين. وتصاعد العنف مرة أخرى، في عام 1995، عندما احتلت الصين شعاب "ميستشيف ريف"، إثر امتياز نفطي فلبيني، علماً أنه يقع داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري للفلبين. وأقدمت بكين على ذلك، بعد سنوات على إخلاء القوات الأميركية قاعدتَي "سوبيك" و"كلارك" في الفلبين، كما أفاد موقع "أسبينيا".
الصين و"آسيان"
وفي محاولة لتهدئة دول الجوار، وافقت بكين على إعلان، أصدرته مع رابطة دول جنوب شرقي آسيا "آسيان"، في عام 2002، بشأن سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي، لكنها ماطلت بشأن إقرار مدوّنة سلوك ملزمة قانوناً، تقيّد طموحاتها في المنطقة، كما "تجاهلت الاتفاق السياسي، ودفعت بالأمر الواقع الإقليمي في البحر الجنوبي"، علماً أن "آسيان" تضمّ 10 دول، يقطنها 625 مليون شخص، ويبلغ إجمالي ناتجها المحلي 3 تريليونات دولار.
وبعد مواجهات بحرية، استمرّت إحداهاً أشهراً، بين الصين والفلبين، حول "سكاربورو شول" في عام 2012، الذي احتلته بكين، شعرت الأخيرة بـ "فرصة تاريخية لتسيطر بالكامل على قلب آسيا البحري"، وفق معهد "أسبينيا".
وفي العام التالي، أطلقت الصين مشروع هندسة جيولوجية، يُعتبر سابقة في أعالي البحار، ما أدى بسرعة إلى تحويل الحواجز الرملية المتنازع عليها، والجزر المرجانية، والصخور، إلى جزر ضخمة تتضمّن مهابط طائرات عسكرية ومرافق عسكرية حديثة"، في "سبراتلي" و"باراسيل".
"خط الفواصل التسع"
أحالت مانيلا القضية إلى محكمة التحكيم الدولية في لاهاي، التي أصدرت، في عام 2016، قراراً أبطل جزءاً كبيراً من مطالبات الصين بالبحر، باعتبارها غير متوافقة مع "معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار"، التي أُقرّت في عام 1982، وبدأ تطبيقها في عام 1994. لكن بكين رفضت الحكم، واعتبرته "باطلاً ولاغياً".
ورفضت المحكمة مطالبة بكين بما يُسمّى "خط الفواصل التسع" (Nine-Dash Line)، الذي يمتدّ لمسافة ألفي كيلومتر من البرّ الرئيس الصيني، ويطاول أكثر من 80% من البحر. وأفاد موقع "ذي كونفرسيشن" بأن الحكومة القومية التي تزعّمها تشيانج كاي تشك في الصين، رسمت هذا الخط للمرة الأولى، في عام 1947، علماً أنه يتجاوز الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وبروناي وفيتنام. واعتبر الموقع أن الخط "بلا أساس في القانون الدولي".
وقضت محكمة لاهاي بأن البحر الجنوبي "مغلق"، بموجب "معاهدة قانون البحار". ويلزم ذلك الدول المطلّة على البحر، بأن تتعاون في كل شيء يمسّ البحر.
وتمنح المعاهدة كل الدول الحق في "منطقة اقتصادية خالصة" بطول 200 ميل بحري، لاستغلال موارد البحر وقاعه، كما تُقاس من أراضيها. ويتيح ذلك امتلاك ثروة مربحة من مصايد الأسماك والهيدروكربونات والمعادن. وعندما تتداخل هذه المناطق، تكون البلدان ملزمة بالتفاوض مع الدول الأخرى، وهذا ما لم يحدث في البحر الجنوبي.
لكن المعاهدة تفيد بأن أجزاء كثيرة في "سبراتلي"، هي مجرد صخور وليست جزراً، وبالتالي تقتصر منطقتها على 12 ميلاً بحرياً. وثمة نقاش في القانون الدولي، بشأن نوع الأراضي التي يمكن أن تولّد حقوقاً في "منطقة اقتصادية خالصة". وتنصّ "معاهدة قانون البحار" على وجوب أن تكون الأرض قادرة على إتاحة سكن للبشر. ولم يجد قرار محكمة لاهاي أن أي جزر في "سبراتلي" تستوفي هذا المعيار، موجّهة بذلك ضربة للصين.
"خصخصة مشاعات عالمية"
واعتبرت آن ماري مورفي، وهي أستاذة في جامعة سيتون هول وخبيرة في الأمن بجنوب شرقي آسيا، أن المعاهدة "كان يُفترض أن توقف النزاع، من خلال توضيح مَن لديه الحق في استغلال الموارد في تلك المناطق الاقتصادية الخالصة". وبدلاً من ذلك، "بدأت البلدان بتوسيع خطوط الأساس الخاصة بها، وخاضت سجالاً بشأن الجرف القاري، مدركة أن لديها مناطق اقتصادية خالصة متداخلة". وأضافت مورفي: "من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن خريطة خط الفواصل التسع هي محاولة (صينية) لخصخصة مشاعات عالمية".
أما جيمس تشين، مدير "معهد آسيا" في جامعة تسمانيا، فلفت إلى أن "خط الفواصل التسع" يمتد من تايوان إلى ماليزيا، معتبراً أن حدوده غامضة، وتستند كما يبدو إلى خرائط قديمة.
في سبتمبر 2015، تعهد الرئيس الصيني شي جين بينج، خلال زيارة للبيت الأبيض، بالامتناع عن "عسكرة" جزر اصطناعية كانت بلاده تشيّدها في البحر الجنوبي، معتبراً أن هذه النشاطات "لا تستهدف أو تؤثر في أي دولة". لكنه لم يَعِد بتجميد أعمال التجريف، أو تشييد الجزر أو النشاطات في المنطقة، ولم يوضح ما يعنيه بعبارة "عسكرة".
وفي عام 2019، اعتبر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية آنذاك، الجنرال جوزيف دانفورد، أن الصين تراجعت "بوضوح عن هذا الالتزام"، مشيراً إلى تشييدها "مدارج طولها 10 آلاف قدم (3 آلاف متر)، ومرافق تخزين للذخيرة، ونشرها بشكل روتيني لقدرات دفاع صاروخي، وقدرات طيران" على الجزر.
في المقابل، شددت وزارة الخارجية الصينية، في عام 2020، على أن بكين "لا تسعى إلى أن تصبح إمبراطورية بحرية"، معتبرة أنها "تعامل الدول المجاورة على قدم المساواة، وتمارس أقصى درجات ضبط النفس".
"عسكرة" البحر الجنوبي
لكن "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) أشارت إلى أن بكين أطلقت خطة لتوطين سكان في بحر الصين الجنوبي، في عام 2012، عندما حوّلت "مدينة سانشا"، وهي مركز إداري لكل الأجزاء التي تطالب بها الصين، على جزيرة "وودي" في "باراسيل"، من مقاطعة إلى محافظة.
وبعد 6 سنوات على بدء الصين باستصلاح شعاب مرجانية وجزر مرجانية في "سبراتلي"، كشفت مراقبة جوية وأقمار اصطناعية عن "أحد أعظم الإنجازات بالعالم، في الهندسة البحرية والبناء العسكري"، وفق "بي بي سي". فقد شيّدت بكين منشآت عسكرية في الجزر، بما في ذلك مدارج طولها 3000 متر، وأرصفة بحرية، وحظائر، ومخابئ ذخيرة معزّزة، وصوامع صواريخ، ومواقع رادار، إضافة إلى مجمّعات سكنية، ومبانٍ إدارية، ومستشفيات، وحتى مراكز رياضية.
ولفت "أسبينيا" إلى أن "مدينة سانشا" تغطي الآن مليوني متر مربع من البحر والأرض، أي ما يعادل 1700 ضعف مساحة مدينة نيويورك.
"سور رمال عظيم"
وتُغضب الولايات المتحدة ودول حليفة، مثل المملكة المتحدة وأستراليا، الصين، بمرور سفنها الحربية على بعد 12 ميلاً بحرياً من جزر تزعم بكين سيادتها عليها في البحر الجنوبي. وتدرج واشنطن ذلك في إطار حرية الملاحة، علماً أن "معاهدة قانون البحار" تتيح لسفينة حربية أجنبية أن تمرّ على بعد 12 ميلاً بحرياً من دولة أخرى، طالما أنها تتخذ مساراً مباشراً، ولا تنفذ عمليات عسكرية.
وتعارض الصين عمليات العبور، معتبرة أنه على السفن البحرية ألا "تعمل" في المناطق الاقتصادية الخالصة لدول أخرى. لكنها تتجاهل تناقضاً بين موقفها هذا، ونشاطاتها في البحر الجنوبي، حيث تعمل سفنها البحرية بانتظام في المناطق الاقتصادية الخالصة لدول أخرى، وفق "ذي كونفرسيشن".
وأفاد موقع "ذي ديبلومات" بأن "استراتيجية (إبقاء منطقة) المحيطين، الهندي والهادئ، حرة ومفتوحة"، تشكّل إطاراً استراتيجياً طرحته اليابان والولايات المتحدة وأستراليا والهند، المنضوية في مجموعة "الرباعية" (كواد)، التي تعارض سلوك الصين في البحر الجنوبي. وأضاف أن مشاركة المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا في تدريبات عسكرية مشتركة، تستند إلى هذه الاستراتيجية، تؤكد أن البحر الجنوبي "لم يعُد مجرد قضية إقليمية، إذ بات (مسألة) عالمية".
ووصف القائد السابق للقيادة الأميركية في المحيط الهادئ، الأدميرال هاري هاريس، "خط الفواصل التسع" بأنه "سور رمال عظيم"، في إشارة إلى سور الصين العظيم، وفق "بي بي سي".
"حرب باردة جديدة"
وكتب الأكاديمي ريتشارد جواد حيدريان في "أسبينيا"، "إذا كانت هناك نقطة توتر جيوسياسية واحدة، مع إمكان إشعال صراع عالمي حقيقي، فهي بلا شك بحر الصين الجنوبي". ولفت إلى أن البحر لا يشكّل "شرياناً للتجارة الدولية فحسب"، بل هو أيضاً "المسرح النهائي لتنافس قوى عظمى"، وتتجلّى فيه معالم "حرب باردة جديدة" بين بكين وواشنطن.
وأضاف حيدريان، "رسمياً، تحافظ الولايات المتحدة على (الحياد) بشأن مطالبات السيادة في بحر الصين الجنوبي. ولكن لديها حصة مباشرة في النزاعات، لأربعة أسباب رئيسة، وهي التزامات الدفاع المتبادل تجاه الفلبين في حال حدوث نزاع مع طرف ثالث؛ والتزامها بالقانون الدولي بصفتها من الدول الموقّعة على معاهدة قانون البحار (وإن لم تصادق عليها بعد)؛ والاعتماد على التجارة البحرية في المنطقة لتحقيق ازدهارها الاقتصادي؛ والقلق العميق بشأن محاولات الصين فرض قيود على الانتشار البحري الأميركي في المياه الآسيوية".
وتابع: "إذا تُركت نزاعات بحر الصين الجنوبي دون رادع، فسينتهي بها الأمر إما بهيمنة الصين على القلب البحري لآسيا، وإما، وهذا أسوأ، إقحام قوى كبرى وصغرى في صراع كارثي".
اقرأ أيضاً: