فرنسا.. ناخبو أقصى اليسار "بيضة القبّان" في منازلة ماكرون ولوبان

time reading iconدقائق القراءة - 15
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزعيمة حزب "التجمّع الوطني" اليميني مارين لوبان قبل مناظرة تلفزيونية أثناء حملة انتخابات الرئاسة في عام 2017 - 3 مايو 2017 - AFP
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزعيمة حزب "التجمّع الوطني" اليميني مارين لوبان قبل مناظرة تلفزيونية أثناء حملة انتخابات الرئاسة في عام 2017 - 3 مايو 2017 - AFP
دبي- إيلي هيدموس

بعد ساعات على إعلان نتائج الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، التي أسفرت عن تأهل الرئيس الوسطي إيمانويل ماكرون ومرشحة أقصى اليمين مارين لوبان إلى الدورة الثانية، سارع ماكرون إلى التودّد لناخبين لم يصوّتوا له، لا سيّما من اليسار، مدركاً حاجته إلى تشكيل ما اصطُلح على تسميته بـ"الجبهة الجمهورية"، لكبح لوبان والفوز بولاية ثانية.

وبدت خريطة التحالفات والاصطفافات السياسية واضحة بعد الدورة الأولى، لكنها قد لا تنسحب على التصويت الشعبي، إذ أن الناخبين سيقترعون وفقاً لخياراتهم الشخصية، وليس بالضرورة بحسب انتماءاتهم الحزبية، أو دعوات المرشحين الذين صوّتوا لهم في الدورة الأولى.

لكن حصول جان لوك ميلانشون، رئيس حزب "فرنسا الأبيّة" اليساري، على نحو 22% من الأصوات في الدورة الأولى، جعله "بيضة القبّان" في الدورة الثانية، إذ سيحاول كلّ من ماكرون ولوبان استمالة مؤيّديه، ولو من موقعين مختلفين.

"سمعتُ رسالة المقترعين للمتطرفين"

وكان لافتاً أن الرئيس الوسطي أمضى ساعات الاثنين، في التحدث إلى ناخبين في بلدة دونان شمال فرنسا، التي صوّت نحو 42% من ناخبيها للوبان، مقارنة بـ15% اقترعوا لمصلحة ماكرون. وقال الأخير: "كنت دوماً رئيساً لجميع الفرنسيين، من دون استثناء. سمعت رسالة كلّ مَن اقترع للمتطرفين".

لكن هؤلاء "المتطرفين"، من اليمين واليسار، حصدوا أكثر من 52% من الأصوات في الدورة الأولى، بما في ذلك 32% لمصلحة أقصى اليمين، وهذا رقم قياسي و"مؤشر واضح إلى مدى الغضب والإحباط"، فيما استفادت لوبان من "استياء واسع من ارتفاع الأسعار والأمن والهجرة"، كما أوردت صحيفة "نيويورك تايمز".

رئيسة بلدية دونان، آن ليز دوفور تونيني، قالت إنها ستصوّت لماكرون "من دون تردد" في الدورة الثانية، مستدركة أنها تعتزم الضغط عليه لتبنّي مزيد من "الاقتراحات اليسارية"، علماً أن كثيرين في البلدة انتقدوا تغييرات مقترحة في رواتب التقاعد، تشمل رفع الحدّ الأدنى للتقاعد من 62 إلى 65 سنة.

ولم يتردد ماكرون في التلميح إلى إمكان التوصّل إلى تسوية في هذا الصدد، بقوله الاثنين: "سنتشاور، ونعمل بشكل جماعي لتحسين" المشروع، مبدياً "استعداداً لمناقشة إيقاع" هذا الإجراء و"حدوده".

كذلك لم يستبعد تنظيم استفتاء بشأن هذه المسألة، لافتاً إلى أن تطبيق رفع سنّ التقاعد إلى 65، إذا أُقرّ، "لن يتم قبل عام 2030". واستدرك أن هذا الإصلاح "ضروري"، لأن "النظام لم يعُد مموّلاً الآن". وتابع: "ليست لديّ عقيدة سوى عدم ترك الفقر يترسّخ، وعدم تحميل أبنائنا ثمن جبننا".

"معادلة محفوفة بالأخطار"

صحيفة "لوموند" الفرنسية تحدثت عن "معادلة محفوفة بالأخطار" بالنسبة إلى ماكرون، وتتمثل في "تعبئة اليسار من دون المساومة على برنامجه"، داعياً إلى تأسيس "حركة سياسية كبرى للوحدة والعمل"، تتجاوز "الخلافات"، علماً أنه نال 27.85% من الأصوات في الدورة الأولى.

ويأمل ماكرون بالاعتماد على أصوات مؤيّدي مرشحة حزب "الجمهوريين" اليميني، فاليري بيكريس (التي نالت 4.78% في الدورة الأولى)، وأعلنت مساندته في الدورة الثانية، مع مرشحي أحزاب الخضر يانيك جادو (4.63%) والشيوعي فابيان روسيل (2.28%) والاشتراكي آن هيدالغو (1.75%)، الذين حضّوا على "هزيمة اليمين المتطرف"، من خلال التصويت للرئيس الوسطي.

وأشارت الصحيفة إلى أن "جزءاً كبيراً من ناخبي اليسار يشعرون بخيبة أمل، بسبب توجّهات" ماكرون خلال عهده، مضيفة أن أنصار الرئيس يخشون أن يقرر معظم هؤلاء الامتناع عن التصويت في الدورة الثانية، بدلاً من الاقتراع لمَن يعتبرونه "رئيساً يمينياً".

ماكرون وناخبو ميلانشون

ولفتت الصحيفة إلى أن هذا الأمر ينسحب بشكل أكبر على ناخبي ميلانشون، الذين "يشكّلون الخزان الأساسي للأصوات بالنسبة إلى ماكرون"، علماً أن المرشح اليساري الراديكالي نال 21.95% من الأصوات.

واعتبرت وزيرة المواطنة، مارلين شيابا، أن "الأمر متروك لنا لإقناع المصوّتين لمرشحين آخرين، لا سيّما جان لوك ميلانشون"، فيما شدد ستانيسلاس غيريني، المندوب العام لحزب "الجمهورية إلى الأمام" بزعامة ماكرون، على "وجوب إقناع ناخبي ميلانشون".

لكن إغواء المتعاطفين مع اليسار الراديكالي يشكّل تحدياً لماكرون، الذي عيّن رئيسَي وزراء من اليمين، وقال إنه "يدرك تماماً" أن مطالبة ميلانشون أنصاره بالامتناع عن التصويت للوبان، "لا تعني دعم" مشروعه. واستدرك أنه يريد تنفيذ مشروع تقدّم بالنسبة إلى "العمال"، وتمثيل جميع "الغاضبين من عدم المساواة المستمرة" أو "من الاضطرابات البيئية".

في المقابل، اعتبرت لوبان أن ميلانشون يخون أنصاره، نتيجة امتناعه عن دعم المرشح الوحيد الذي يمكنه حماية الفقراء. وقالت الثلاثاء: "كان سلوك ميلانشون مدهشاً بالنسبة إليّ. كان أكثر صرامة مع ماكرون قبل 5 سنوات".

"انقسام يميني"

يعتبر النائب عن حزب ماكرون، ساشا هولييه، وهو اشتراكي سابق، أن "استراتيجية الدورة الثانية واضحة: حشد الناخبين اليساريين"، مضيفاً: "يجب أن نجعل المدرّسين أو المتقاعدين المتواضعين، يريدون التصويت لإيمانويل ماكرون". لكن تحقيق ذلك يتطلّب توازناً صعباً، إذ أن وزيرة التحوّل والعمل العام، أميلي دو مونشالان، شددت على وجوب "عدم المساومة على برنامج" الرئيس.

وذكرت "لوموند" أن "الرسالة" التي يريد معسكر ماكرون توجيهها، لا تتمثل في مقولة "الجميع ضد مارين لوبان"، بل في أن "الجميع مع ماكرون"، من أجل "نيل شرعية قوية للحكم".

لكن ثمة توجّهَين داخل حزب "الجمهوريين"، أحدهما تجسّده بيكريس، التي تدعو إلى التصويت لماكرون، رغم كونه خصماً سياسياً، من أجل كبح لوبان. لكن ثمة خطاً يمينياً أكثر، يتّبعه بشكل خاص النائب إريك سيوتي، الذي يرفض ذلك، ممّا دفع "لوموند" إلى الحديث عن "جبهة جمهورية هشّة". وأضافت أن ماكرون يعِد بأن تنتهج الحكومة "أسلوباً جديداً"، لتوسيع قاعدتها الشعبية.

وتبنّى المكتب السياسي للحزب تسوية، بموافقة 116 من 130 صوتاً، تدعو ناخبيه إلى الامتناع عن الاقتراع لمصلحة لوبان، معتبرة أن "مشروعها السياسي والاقتصادي يقودنا إلى الفوضى"، ولكن من دون الدعوة بشكل مباشر للتصويت لماكرون.

رغم ذلك، أشارت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية اليمينية إلى "انقسام اليمين" بشأن الاستراتيجية التي يجب اتباعها إزاء تنافس ماكرون ولوبان، مضيفة أن رئيس مجلس الشيوخ، جيرار لارشيه، أعلن أنه سيصوّت للرئيس، فيما ذكر برونو روتايّو، زعيم تكتل "الجمهوريين" في المجلس، أنه سيصوّت بورقة بيضاء في الدورة الثانية.

"حليفة" بوتين

في مقابل دعم بيكريس وجادو وروسيل وهيدالغو لماكرون، الذين نالوا مجتمعين 41.28% من الأصوات في الدورة الأولى، يمكن لمعسكر لوبان، التي نالت 23.15% من الأصوات، الاعتماد على دعم المرشح اليميني الراديكالي إريك زمور (7.07%) والقومي "السيادي" نيكولا دوبون آينان (2.06%)، بمجموع 32.28% من الأصوات.

وأعرب جوردان بينالا، رئيس حزب "التجمّع الوطني" بزعامة لوبان، عن ثقته بأنها ستنال دعماً من 70% من المقترعين ضد ماكرون. وقال: "إنهم يعلمون أنه إذا عاد (رئيساً)، فستكون هناك 5 سنوات أخرى من الانهيار الاجتماعي، والنزف المالي، والعجز بشأن سيادتهم، والعنف في كل أنحاء البلاد والهجرة".

في السياق ذاته اعتبر أوريليان لوبيز ليغوري، وهو عضو مجلس بلدي عن حزب لوبان، أن "كل شيء بات ممكناً"، مضيفاً أن لدى "ماكرون الآن سجلاً سيئاً"، مقارنة بعام 2017، حين انتُخب رئيساً.

لكن وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، كليمان بون، ذكّر بأن لوبان كانت قبل 5 سنوات "تقترح التخلّي عن اليورو، وكسر أوروبا عندما كان بريكست وفريكسيت رائجين"، في إشارة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ودعوات إلى انسحاب فرنسا منه أيضاً.

كذلك اتهم وزير المال الفرنسي، برونو لومير، لوبان بأنها "حليفة" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، علماً أنها التقته في موسكو عام 2017، ونالت قرضاً لحزبها من شركة روسية في عام 2014. لكنها نأت عن بوتين، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

توجّس ألماني

ماكرون الذي نال دعم الرئيس الفرنسي اليميني السابق نيكولا ساركوزي، يواجه تحدياً ضخماً، يتمثل في إقناع مزيد من الشبان وذوي الدخل المحدود، بدعمه في الدورة الثانية، علماً أن لوبان تقدّمت عليه، في الدورة الأولى، في كل الفئات العمرية، باستثناء الذين يتجاوزون 60 سنة.

كذلك سيشكّل تشظّي اليمين واليسار التقليدين، عقبة أمام تشكيل "الجبهة الجمهورية" الموعودة، إذ تُظهر نتائج الدورة الأولى أن تلك الأحزاب "في حالة يُرثى لها"، بعدما نالت الاشتراكية هيدالغو واليمينية بيكريس أسوأ نسبة تصويت في تاريخ حزبيهما.

صحيفة "دي فيلت" الألمانية دعت إلى تشكيل "خلية أزمة" في البلاد، تحسّباً لفوز لوبان على ماكرون، ووصفت نتيجة الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية بأنها "زلزال"، ولم تستبعد "هزة ثانية، أكثر عنفاً"، في الدورة الثانية المرتقبة في 24 أبريل.

واعتبرت أن "المجتمع الفرنسي برمّته جنح إلى حدّ كبير إلى يمين الطيف السياسي"، مضيفة: "النازيون ليسوا وحدهم مَن يصوّتون لمارين لوبان"، بل انضمّ إليهم "برجوازيون" أيضاً. ورأت أن "الجبهة الجمهورية" لم تعُد موجودة، مشيرة إلى موقف "غامض" لميلانشون.

"مفتاح النصر"

في السياق ذاته، اعتبرت صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية أن "مفتاح النصر" بين يديّ المرشح اليساري الراديكالي، بعد تحقيقه نتيجة "استثنائية". كذلك رأت صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية أن تصويت ناخبي حزب ميلانشون "سيرجّح كفة" ماكرون أو لوبان.

ويشعر كثيرون من أنصار المرشح اليساري، بـ"خيانة شديدة" نتيجة سياسات ماكرون، ممّا سيصعّب على الأخير إقناعهم بالتصويت له ضد مرشحة أقصى اليمين.

وقال المؤرّخ الفرنسي، أليكسيس ليفرييه، إن محاولة ماكرون إعادة تشكيل السياسة الفرنسية، حول انقسام صارم بين حركته وتيار لوبان، "ساهمت في تعزيز قوة أقصى اليمين". ووصفه بأنه "إطفائي مُصاب بهوس الحرائق"، ولو من دون قصد.

صحيفة "نيويورك تايمز" نبّهت إلى سيناريو خطر بالنسبة إلى ماكرون، يتمثل في أن تصبّ أصوات مؤيّدي زمور لمصلحة لوبان، وأن تنال أيضاً دعم "شطر عريض من اليسار، الذي يشعر بالخيانة أو بعداء عميق إزاء الرئيس".

وأشارت إلى أن أكثر من نصف الفرنسيين، من أنصار لوبان وزمور وميلانشون، يفضّلون أحزاباً مناهضة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ومعادية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

"مسؤولية تاريخية"

حذر رئيس تحرير "لوموند"، جيروم فينوغليو، من عواقب انتخاب لوبان رئيسة لفرنسا، داعياً إلى التصويت لماكرون من أجل تجنّب ذلك. واستدرك أن ذلك "يضع الرئيس المنتهية ولايته أمام مسؤولية تاريخية"، معتبراً أنه "سيحتاج إلى مزيد من المهارة، لإعادة بناء أغلبية على أنقاض مشهد سياسي ساهم إلى حد كبير في تفجيره، خلال عمليتين انتخابيتين".

فيما تبدو فرنسا أسيرة "تطرفين" يميني ويساري، وضحية تشظّي الأحزاب التقليدية، ذكّر المعلّق البارز في صحيفة "فايننشال تايمز"، جدعون راشمان، بقول لوبان في عام 2017: "السياسات التي أمثلها هي تلك التي يمثلها (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترمب، وبوتين".

وأشار إلى أنها "قد تُنتخب رئيسة لفرنسا، في غضون أسبوعين"، منبّهاً إلى أن "لانقسام فرنسا تداعيات على أوروبا بأسرها"، كما أن "العواقب المباشرة لرئاسة لوبان على الاتحاد الأوروبي، ستكون أيضاً فادحة". وختم: "مرّ بوتين بأسابيع قليلة كارثية. ولكن لا يزال في إمكان ناخبي فرنسا أن يقدّموا له بعض الأمل".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات