"ربما شعرت تلك المرأة بالراحة حين ولد طفلها ميتاً"، هكذا تبلور "نينا" طبيبة النساء والتوليد الجورجية، وجهة نظرها مدافعة ضد اتهامها بالإهمال في أداء مهمتها المقدسة، وهو الإهمال الذي أدى إلى ولادة طفل ميت من رحم أمه في ولادة طبيعية، كان من الأفضل لو أنها تمت بشكل قيصري.
تجرد هذه الجملة المرعبة الأمومة من قداستها بشكلٍ فاضح وجدلي، بينما تأتي على لسان شخصية الطبيبة في الفيلم الجورجي April للمخرجة ديا كولومبيجاشفيلي، الذي عرض ضمن برنامج الاختيار الرسمي خارج المسابقة لمهرجان الجونة السينمائي في دورته السابعة.
لم تكن "نينا" أمّاً ذات يوم ولا تريد أن تكون، بل ولا تريد أيضاً أن تأتي النساء بالأطفال إلى هذه الطبيعة الجميلة التي نراها من وجهة نظرها في لقطات طويلة بالفيلم، هي تعتقد أن العالم مكدس بالبشر، ولا حاجة لمزيد من الأطفال لكي يتزاحموا على فتات الحضارة والحياة الخاملة.
من هنا لا تبذل جهداً في توليد المرأة، التي يبدأ الفيلم أولى مشاهده بعملية خروج الطفل ميت من رحمها، بل ولا ترى أي غضاضة في إجراء عمليات الإجهاض للفتيات الريفيات في الضواحي البعيدة، بل وتشجع مرتادات العيادة الخاصة بها أن يتعاطين أدوية منع الحمل في بلد يجرم الإجهاض ووسائل منع الحمل، أو كل ما يحول دون أن يمارس الإنسان همه الغريزي في التكاثر بلا عقل أو حساب.
تجريد الأمومة
شكلت تيمة تجريد الأمومة من قداستها عنصر مُلّح في العديد من الأفلام التي شهدتها عروض الجونة لهذا العام، سواء في المسابقة الرسمية التي ضمت 15 فيلماً طويلاً أو في الأفلام الرسمية خارج المسابقة، بل امتدت التيمة أو لنقل امتد خط الاعتماد على صورة الأم أو كيانها الدرامي أو الرمزي للعديد من التجارب القصيرة المشاركة في مسابقة الدورة السابعة.
على سبيل المثال، فالفيلم الفائز مناصفة بجائز أفضل فيلم قصير، هو البرتغالي How we got our mother back، الذي يحكي عن عائلة غريبة الأطوار يتقمص فيها الابن الأكبر دور الأم بإيعاز ومباركة من أبيه وتواطئ خام وصريح من أخواته الصغار، وما بدأ كلعبة استعادية لتمرير الحزن إلى خارج البيت، ينتهي بالابن الأكبر وقد صار صورة متحولة عن الأم مرتدياً ملابسها، وواضعاً مساحيقها، ومُعلقاً أقراطها، ومتحدثاً بنبرة صوتها الرخيمة المدركة لضرورة وجودها بينهم.
بينما تلعب شخصية الأم دوراً أساسياً في تأطير شكل الرحلة التي يقوم بها الشاب الفلسطيني المقيم بالخارج في الفيلم الفلسطيني "برتقال من يافا" للمخرج محمد المغني -أفضل فيلم عربي قصير مناصفة- حيث تلح عليه تليفونياً في القدوم لكي ينتهوا من زيارة خطيبته، بينما هو عالق بشكل مذل في أحد المعابر، وفي مقابل هذه الأم الغاضبة من سخافات الاحتلال، تأتي أم الضابط الإسرائيلي التي توبخه طوال الوقت على الهاتف أيضاً، مما يدفعه في عناد إلى إطلاق سراح الشاب وسائق التاكسي العجوز الذي يقله بعد احتجازهما عند المعبر لساعات، بحجة أنه لا يحمل هوية ولا تصريح في بلده!.
تلعب الأمومة دوراً استراتيجياً هاماً جداً في سرديات العديد من التجارب السينمائية هذا العام، وهو ما سبق وأن رصدناه قبل سنوات قليلة عندما تصدرت شخصية الأب بمختلف تجلياتها (الذكورية والسياسية بل والدينية) العديد من الأفلام على مستوى العالم!.
هذه الأمومة المتجردة من حمل القداسة الاجتماعي والتراثي والإنساني تعاني بالأساس من أشكال نفي متعددة، أي بقدر تعدد شخصيات الأمهات في الأفلام، تتعدد أشكال المنافي التي تؤطر علاقتهم بأبنائهم أو بالمجتمع أو بالسماء أو بذواتهم العميقة، بأرحامهم التي تشكل مصانع الحياة في أجل وأبسط صورها.
منفى الأمومة
في فيلمها الحائز على جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة، Peace be upon you, Maria طرحت المخرجة الإسبانية مار كول، سؤال منفى الأمومة في واحدة من تجلياته المرعبة، فمريم بطلة فيلمها -ودلالة الاسم لا تحتاج إلى تأويل- كاتبة صاعدة، لكنها أيضاً أم جديدة، استقبلت تواً طفلها الأول في الوقت الذي بدأ اسمها يملع في عالم الكتابة، وصار لها معجبون ومريدون، لكنها فجأة تعثر على خبر حول امرأة فرنسية أغرقت طفليها عمداً في حوض الاستحمام، فيصيبها الخبر بالهوس، خاصة أن المرأة استطاعت الحصول على براءة من الحكم عليها بقتل صغارها، فلا يعود يسيطر على مريم سوى هاجس واحد، أن تلتقي بهذه الأم لكي تسألها عن أسباب ما فعلت، وعن شعورها بعد أن أتمت عملية التخلص من الصغيرين!.
دراما نفسية تتجاوز التقديس إلى سؤال الغريزة، هل الأمومة احتياج أم قرار! وهل تصلح كل امرأة أن تكون أماً؟ وهل تتعارض الأمومة مع الجموح الأنثوي للجسد؟ أو الطموح المهني في الحياة العملية!.
يتقاطع قلق مريم الخطير بخصوص الأمومة مع ما سبق وأشرنا له في بداية حديثنا عن منطق الطبيبة الثلاثينية "نينا" التي ترى أن هناك أمهات يشعرن بالراحة عندما يولد أطفالهن موتى! وهو نفس القلق الوجودي الذي يفرد له المخرج ماتياس غلاستر، في الفيلم الألماني "الاحتضار" الذي عُرض ضمن برنامج خارج المسابقة، فما يقرب من 15 دقيقة من زمن الفيلم البالغ 3 ساعات كاملة، حيث تتحدث الأم المريضة بالسرطان مع ابنها المايسترو والموزع الموسيقى الموهوب، عن كونها لا تذكر أن كان قد ألقت به من يدها! أو ضربته في الحائط وهو لا يزال رضيعاً يبكي! أم أنه سقط منها دون قصد!.
في مشهد طويل تنتقل فيه الكاميرا بين الأم والابن في كادرات منفصلة لا تجمعهما رغم جلوسهما على مائدة واحدة، تصارحه عينيها بأن الأقرب لما حدث هو الإلقاء وليس السهو! بينما يتأكد لديه شعوراً أنه لم تكن ترغب فيه أو في تربيته، وبالتالي نشأ وهو مهمل عاطفياً ونفسياً بشكلٍ كبير، وربما كان هذا هو السبب الذي دفعه لأن يظل على علاقة بامرأة أنجبت من رجل أخر غيره، لكنها تحبه هو، وبالتالي لا يستطيع أن يغادر هذه العلاقة السامة لأنها تشبع لديه الرغبة في أن يكون محبوباً! بعد أن لفظه رحم الأم مادياً ومعنوياً في أكثر فترات التكوين احتياجاً منه لها.
"شكراً لأنك تحلم معنا"
شكل أخر من أشكال المنفى تعيشه اثنان من الأمهات العربيات في الأفلام المشاركة بالمسابقة الرسمية للمهرجان، في كلًّ من الفلسطيني "شكراً لأنك تحلم معنا" للمخرجة ليلى عباس، والتونسي "ماء العين" لمريم جعبري، والحائزان على جائزة أفضل فيلم عربي طويل مناصفة، حيث تعيش الأمهات في منافي تخص علاقتهم الملتبسة جداً بالأبناء، لا عن كراهية أو نفور أو تساؤلات غريزية أو فلسفية، بل كنتيجة وانعكاس للاضطراب العام المحيط أو دائرة الخوف والقلق التي تؤطر طبيعة الحياة في مجتمعاتهن.
في التونسي "ماء العين"، تواجه "عايشة" الفلاحة الريفية خطر الاستسلام لفكرة أن ابنها الذي انتظرت عودته طويلاً هو وأخيه، ليس نفس الابن أو كتلة الحشا المنسخلة عنها! بل هو مصدر الظلام الذي يكسو القرية بالتدريج بعد أن تلبسته روح داعشية مهولة التأثير وفاحشة الرغبة في السيطرة والتدمير وكسر النفوس بحجة نصرة الدين. إنها تنفي نفسها بعيداً عن الفكرة، تقاومها، ثم لا تلبث أن تضطر إلى مواجهتها! ونقلب المنفى ليصبح عكسياً! لقد عاد ابنها من منفاه الاختياري -الجهاد في سبيل الله- لكنه أحضر معه كل موبقات هذا المنفى، لكي تصبح هي في مواجهة قدرها الأسود، إما أن تنفي أمومتها كاملة وتطرده أو تنفي وعيها وتستغرق في ظلامية أفعاله.
وفي الفلسطيني "شكراً لأنك تحلم معنا" ثمة الأم التي تحاول أن توازن اجتماعياً ونفسياً وجسدياً بين كل الذكور في حياتها! الابن المتمرد الذي ينفلت من البيت باتجاهات مجهولة لا تدري هل هو ضائع أم مناضل! والزوج المحمل بأثقال اجتماعية واقتصادية في بلد منكوب بالاحتلال، والأب الذي يغيبه الموت بشكل مفاجئ فتجد نفسها في صراع مع الضمير والشرع، مقابل تشبث أختها الصغرى بضرورة أن يستردوا مقابل سنوات عمرهم الضائعة في خدمته قبل أن يحضر الأخ المدلل من أميركا كي يقضم نصف التركة بلا تعب أو جهد أو دعم من أي نوع، ولكن من منطلق التفوق الذكوري الممنوح من قبل التشريعات السماوية.
إنها تعيش في منفي إجباري بعيداً عن ابنها الذي يعزلها تماماً عن حياته، حتى أنها تجد نفسها مضطرة أن تخبئ منه المحمول الخاص به، كي تعاقبه على تصرفاته الهوجاء من وجهة نظرها!، وتعيش في منفى إجباري من قبل الزوج الذي يعزلها عن باطنه وهمومه الخاصة ويلقي على رأسها فقط ما يزيد عن رغبته في التحمل! حتى أنه يتهمها بالفصام حين تطلب الطلاق وتعود آخر الليل لتستحم وتحتضنه من الخلف.
وتعيش في منفى ذاتي عن نفسها، ترفض مواجهة الواقع، أو الاعتراف بكل المنافي التي أجبرت عليها بحكم موقعها كأم قليلة الحيلة -كما في مشهد تشبثها بالابن كي لا يغادر البيت- وكأنثى وامرأة في مجتمع أعور لا ينظر إلا إلى نصف الأمور فقط.
صراع نفسي
تضم المنافي التي تعيشها الأمهات ضمن تجارب الأفلام التي عرضت في مهرجان الجونة أكثر من صيغة شعورية ونفسية معقدة، بعضها استثنائي جداً، وبعضها مربك وحاد في عموميته.
في فيلمه Sons يقدم لنا الدنماركي صاحب The Guilty جوستاف مولر، مواجهة خارقة القسوة بين أم تعمل سجانة لطيفة وعادية ومهذبة وحنونة، وبين الشاب الذي قتل ابنها في السجن في أثناء تقضيته فترة عقوبته، فتطلب أن تنقل إلى السجن المشدد وتتحول إلى جلاد حقيقي، ليصل بها الأمر إلى أن تتهم بمحاولة قتله.
صراع نفسي مرير ومركب، خاصة عندما تجد السجانة الأم نفسها في منفى اختياري من الكراهية والنفور والغربة العارمة في الانتقام، في مشهد عنيف جداً تدس في غرفته ممنوعات أثناء التفتيش وتدخل صراخه لتنهال عليه بالهرواة لتكسر له أنفه وجمجمته.
لكن وبينما تعد الخطة لكي تستدرجه خارج السجن كي يزور أمه وتتخلص منه بعيداً عن العيون، تكتشف أن علاقته بأمه الجامدة الصلبة صاحبة المشاعر الجافة هي السبب في انجرافه وجرائمه، وتدريجياً يحدث لها إسقاط شبه واعٍ على علاقتها بابنها! وتجد نفسها تواجه السؤال الأعنف: هل كانت أمومتها بنفس هذا الجفاء تجاه ولدها الذي لولا دخوله للسجن ما كان قد قتل؟ ويا له من سؤال مرعب لكل أم.
محمد روسولوف
أما في الفيلم الإيراني The Seed of the Sacred Fig للمخرج الهارب من جحيم الملالي محمد روسولوف، فإن الأم زوجة المحقق المرقى حديثاً والتي تريد لبناتها أن يدركن حساسية منصب أباهن الجديد، تنفي نفسها بوعي كامل عن كل ما يحيط بها وأسرتها من ظروف سياسية محتقنة حد الانفجار، بل أنها لا تصدق صديقة بناتها التي تأتي مضروبة بالرصاص البلي الدامي وترميه في المجارير بعد استخراجه من وجه الشابة، في مقابل تصديقها لأي وكل ما يقال في التلفزيون الحكومي الذي ينقل فقط نبأ انتصار الحكومة على المتمردين الأشرار الذين يريدون هدم المجتمع وتقويض النظام (العظيم) للجمهورية الإسلامية!.
لكن ما يحدث أن هذا المنفى الاختياري شبه الواعي يصطدم بالطبع بكابوس السياسة الدموي، حين يختفي مسدس الأب ويتحول هو نفسه إلى واحد من كلاب النظام الشرهة التي لا تملك سوى أنف تقودها نحو رائحة الدم وأنياب لا تعرف سوى نهش الأجساد والعقول.
وبعد أن كانت تلقي باللوم على بناتها اللاتي يردن لها أن تستعيد وعيها من منفاه الغريب، تصبح وإياهم في وضع مهدد بأن يقتلوا على يد الأب نفسه.
وتبقى الإشارة إلى منافي أقل حدة لكنها بلا شك شديدة التأثير على نفوس وتشكيلات المشاعر الخاصة بالأمهات في الأفلام، ويكفي أن نشير إلى تجربة الإسباني (قارئ المرأة) بيدور المودوفار في فيلمه The Room Next Door، والنرويجية ليليا انجولفسدوتير في شريطها Loveable، فـ"مارثا" الأم المصابة بالسرطان في الغرفة المجاورة تعيش وتتكلم وتحكي لصديقتها "إنجريد" عبر ذاكرتها الباقية كأحد ما في جسدها المتداعي عن ابنتها البعيدة وعن علاقتهما الغريبة منذ أن عرفت أباها وحتى موته، ثم تربيتها للفتاة التي حاولت فيها أن تجيب عن سؤال "أين ذهب أبي؟"، أن مارثا تعيش في منفى السؤال المفتوح الذي يجب أن ترد عليه قبل أن ترحل اختيارياً بالموت الرحيم، هذا المنفى المستعاد من ذاكرتها فقط، حتى أننا نشك في وجود الابنة في حد ذاتها، قبل أن تظهر بالفعل قبيل رحيل الأم بقليل لتغفر لها منفاها الاغترابي الحزين.
أما في Loveable فثمة مريم أخرى ولكنها على العكس تماماً من مريم الحاضرة في الفيلم الأسباني الذي أشرنا إليه، مريم هنا هي أم مفعمة تستغرقها تجربة الأمومة حد النفي التام عن كل شيء أخر، هذا الاستغراق الرهيب يصيبها بحالة من الغضب المستمر والرغبة في الصراخ وتهديد العالم بقبضتها الهشة، فيهجرها زوجها وتخفت علاقته بأبنائها ولا تجد في النهاية طريقاً للعودة من هذا المنفى سوى بالتصالح مع ذاتها الغاضبة والاعتراف بمنفاها الذي سارت إليه بكامل إرادتها لا مجبرة كما كانت تظن، وهو ما يساعدها على أن تؤطر حكمة رحلتها المشوشة، الأمومة الحقة تمر عبر ذات المرأة قبل أطفالها، والمرأة التي يصعب عليها أن تكون إما لنفسها قبل أن يمتلئ رحمها سوف تخسر كثيراً في محاولات أن تصبح أمّاً لأبنائها فيما بعد.
* ناقد فني