عندما ولد المخرج الروماني بوجودان موريشانو، عام 1974، في بوخاريست العاصمة، كان قد مر حوالي 7 سنوات على تولي دكتاتور رومانيا الرهيب نيكولاي تشاوتشيسكو، رئاسة الجمهورية الاشتراكية، والتي كانت ضمن تحالفات العلم السوفيتي الأحمر الذي كست دمويته أوروبا الشرقية كلها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط حائط برلين وتفكك المعسكر الشيوعي بأكمله.
وفي ديسمبر عام 1989، عندما تم إعدام "العم نيكي" -كما كان يحب أن يلقبه الأطفال- عقب الثورة الشعبية عليه بدعم من الجيش، كان "بوجودان" في حوالي الخامسة عشرة من عمره، وبالتالي تكونت لديه طبقة لا بأس بها من الذكريات عن فترة الحكم الشمولي العنيفة، التي شهدتها رومانيا خلال أكثر من عشرين عاماً على يد السفاح المهووس بتعليق صورة في أنحاء البلاد.
يبدو فيلم The New Year That Never Came المتوج بجائزة الهرم الذهبي كأفضل فيلم في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ45، فيلماً سياسياً في ظاهره، وهو بلا شك ذو طابع سياسي، لكنه في الوقت نفسه فيلماً عن أسباب الاستبداد، وأفعال المقاومة، وطبقات الخوف التي تشكل في النهاية شرارة التغيير المطلوب والمنتظر، ليس فقط من زاوية سياسية، ولكن بنظرة تعمق من التأمل في علاقة البشر بمستويات الزمن الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل).
6 أرواح وليلة واحدة
في فيلمه الطويل الأول من كتابته وإخراجه وإنتاجه، يعتمد موريشانو على وحدة زمنية براقة، هي ليلة سقوط الديكتاتور، أو لنقل اليوم الأخير في لحظة فارقة من تاريخ الدولة، أي دولة يعتصرها حكم فاسد أو فاشل أو مريع على مستوى النتائج الإنسانية قبل الاقتصادية.
تدور أحداث الفيلم في اليوم الأخير قبل احتفالات رأس السنة، التي من المفترض أن يلقي فيها الزعيم خطبته السنوية، والتي تأتي بالتزامن مع مذبحة عنيفة قامت بها قواته عندما قرر مجموعة من أهالي مدينة رايتمشو رفض عملية التهجير التي أقرتها الحكومة والاعتصام في منازلهم.
لا يحتاج المتفرج إلى الكثير من المعلومات السياسية حول تاريخ رومانيا ليتورط في هذا الفيلم، في النهاية بقليل من التجريد يمكن أن يتمثل المشاهد الأحداث في أي دولة حتى لو متخيلة، لكن المخرج الشاب استغل تاريخ دولته في تأصيل أفكاره، وأفرد لهذا مساحة زمنية لا بأس بها لتأسيس العلاقات ما بين المتفرج والشخصيات الست التي اختارهم ليكونوا واجهة سرديته، دون أن يخل هذا بإيقاع العمل الذي يدور في يوم واحد.
يمكن اعتبار الفيلم ملتزماً بالمبدأ الكلاسيكي لوحدة الزمان والمكان والموضوع، حتى لو كانت الشخصيات الست تبدو منفصلة ظاهرياً في عوالمها أو بيئات تواجدها، لكن المكان المقصود هنا ليس المكان في تجليه الواقعي (بيت- شارع- مبنى التلفزيون الحكومي) ولكن المكان في حضوره الأوسع (المدينة أو الدولة كلها).
أما الموضوع فهو باختصار الأزمة الكبرى التي تواجهها الشخصيات الست في ظل حكم ديكتاتوري سفيه وعنيف، أدى إلى إفقار الشعب وعوار الاقتصاد وسيطرة نخب فاسدة نفعية وإراقة الدماء كنتيجة أساسية لأي محاولة اعتراض أو رد فعل.
شخصيات الفيلم عادية وليست عادية في الوقت نفسه، لدينا ممثلة مسرحية شابة يتم استدعائها من أجل أن تعيد تصوير النشيد الوطني الذي من المتفرض أن يعرض ليلة رأس السنة، بعد أن تبين أن المطربة الموجودة في واجهة المنشدين هي معارضة هاربة من بطش الشرطة السرية، ولدينا شاب يحاول أن يهرب بحصبة صديقه عبر التسلل من منقطة نائية حدودياً، هرباً من مستقبل دموي ينتظره -في حال ما كان الديكتاتور قد استمر في الحكم- ولكنه يُلقى القبض عليه.
ولدينا عامل يقع في أزمة رهيبة -هي أكثر أزمات الشخصيات طرافة وسوداوية في الوقت نفسه- وهو أن ابنه الصغير كتب خطاباً إلى بابا نويل برغباته في العام الجديد، بينها أن تتحقق رغبة أبيه في موت العم "نيك" -لقب تشاوتشيسكو الدعائي- وبالتالي يجد الأب نفسه في مأزق مروع خاصة لو وقع الخطاب في يد الشرطة السرية للديكتاتور.
في مقابل هذه الشخصيات لدينا رجل الأمن الذي يرى أن النظام بحاجة إلى قبضته الصلبة على الشعب والمجتمع، من أجل تحقيق مبادئ الشيوعية ورؤية الزعيم الملهم، بينما ترفض أمه العجوز الجميلة مغادرة منزلها الذي يقع في المدينة المقصود هدمها والتي تنطلق منها شرارة الثورة عقب قتل الجيش للمتظاهرين رافضي مغادرة بيوتهم.
يمكن القول، إنه في مقابل الكوميديا السوداء التي كست بطرافتها المؤلمة الخطوط الخاصة بالممثلة التي تبحث عن أي سبب لعدم الاشتراك في تهنئة الديكتاتور بالعام الجديد، والعامل الذي يحاول إتلاف الرسائل في صندوق البريد خوفاً من وصول رسالة ابنه التي تتمنى الموت للعم نيك، نقول إنه في مقابل الكوميديا السوداء كاسحة التأثير، ثمة لمحات شعرية رقيقة في الخطوط الخاصة بالأم المتشبثة بمنزلها القديم حتى أنها تقرر أن تنتحر في فراشها بدلاً من الطرد المتوقع، وابنها، مفتش الشرطة السرية الذي يرغب في تأمين أمه ضد قسوة الطرد والاتهام بعد الولاء والطاعة لأوامر الرفيق الأكبر ورؤيته (الثاقبة) للماضي والحاضر.
الصندوق الأول أم الثاني!
رغم تنوع الأماكن، إلا أن الالتزام بالمكان الواحد مع كل شخصية ساهم في تكثيف اللحظات الموترة في الفيلم، خصوصاً في الفصل الثالث، حيث لم يبدد المخرج طاقة المتفرج في التنقل بين أماكن عديدة، خاصة أن الشخصيات لا يكاد يربط بعضها أي صلة من أي نوع، كما أن التنقل بينهم بالتوازي تم من خلال حسبه دقيقة للحفاظ على إيقاع نمو وتطور كل خط على حدة وفي نفس الوقت نمو كامل للموضوع ككل، فنجد التزامه بالمنزل القديم حيث تتشبث العجوز بذكرياتها، حتى مع انقطاع الكهرباء، وشقة العامل حيث يعاني من رهاب شديد خوفاً من رسالة ابنه البريئة، وحتى الشاب الذي يحاول التسلل عبر الحدود لا نكاد نراه خارج السيارة التي تنطلق بعيداً عن العاصمة، قبل أن يقع في قبضة شرطة الحدود هو وصديقه، ويُتهم بالمثلية والرغبة في مغادرة (بستان الاشتراكية).
يبدو اتهام الشاب المتسلل بالمثلية، ورهاب الاتهام بتمني الموت للزعيم ورغبة الممثلة في أن يتم ضربها في الوجه من قبل جارها العنيف مع زوجته مع ما يشوب هذا النمو من طرافة سوداء، إلا أنه يمثل عمق الأزمات التي أراد المخرج أن يطور من خلالها رؤيته عن الأدران التي تعلق بالأرواح والنفوس من جراء العيش تحت حذاء الديكتاتورية بكل مساوئها المناهضة لأبسط حقوق البشر، الحق في أن يكون الإنسان مطمئناً، ناعم البال، خافت القلق، لا يطارد أحد ذكرياته أو ينفي ماضيه بأي حجة كانت، سواء كانت تجميل الحاضر أو تأمين المستقبل.
إن العامل الذي أفسد الرسائل بمسحوق الغسيل داخل صندوق البريد -الأول كما أبلغه ابنه- ليطمئن على مصير عائلته حائلاً دون وقوع الرسالة البريئة في يد الشرطة السرية، لا يكاد يهدأ باله قبيل النوم نتيجة سيطرة فكرة واحدة عليه (هل كان ابنه يقصد صندوق البريد الأول من جهة عودته من المدرسة أم من جهة ذهابه من البيت؟) هذه الحيرة الطريفة ليست سوى تأكيد على حجم المأساة التي تعيشها نماذج المواطنين أمثال العامل وعائلته في ظل طرح الديكتاتورية العفن، فأبسط هاجس يمكن أن يقض مضجع مدينة بأكملها وليس فقط فرد واحد، الكل مصاب بهوس الخوف، والترقب، وانتظار الأسوأ، فأي حياة وأي سياسة وأي مجتمع يحتمل هذا الشقاء الروحي والنفسي المستمر؟.
ولكن في بناء متقن وحساس على المستويين المجازي والنفسي، وكما تمكن المخرج من صياغة أزمات نابعة من هواجس بسيطة، يتمكن السيناريو من التأكيد على أن نيران الثورة أو شعلة التغيير لا تحتاج أكثر من شرارة صغيرة، توازي في تأثيرها تأثير الهواجس البسيطة التي تفتك بأرواح الشعب.
فالعامل الذي يصطف مع جمهور المواطنين أشباهه من المحتشدين لتهنئة الزعيم بالعام الجديد يشعر أن وسط هذه الحشود الضخمة، تكفي مجرد فرقعة لا تذكر من أحد ألعاب الأطفال النارية لتشكل الشرارة المطلوبة للتحرك ضد الديكتاتور، فحجم الكبت والاحتقان والخوف الكامن في الأعماق والراغب في الطفو على سطح فعل المقاومة كل هذا صار حساساً بالدرجة التي لا يمكن كتمانها أكثر من هذا.
الهرم الذهبي
استطاع بوجودان موريشانو، أن يحقق انتصاراً إبداعياً كبيراً بحصول فيلمه الطويل الأول على الهرم الذهبي من لجنة يترأسها المخرج البوسني الكبير دانيس تانوفيتش -رغم كونهم من جيلين مختلفين إلا أن كلاهما يملك نفس الهم والذكريات تجاه بلادهم التي حطمت النظم الشمولية الحمراء عظام تاريخها- فمن بين 17 فيلماً من 15 دولة تقريباً انتزع الروماني الشاب جائزة مستحقة، رغم قوة المنافسة مع تجارب من نوعية "طوابع البريد" الروسي (حائز على الهرم الفضي، وأفضل ممثل وتنويه بأفضل ممثلة)، ورغم الطول النسبي لفيلمه (ساعتين وربع)، إلا أن المشاهد لا يكاد يشعر بثقل الإيقاع أو بطء الأحداث، التي تدور في 24 ساعة فقط.
فثمة حركة داخلية ونمو مستمر للصراعات سواء على مستوى الشخصيات أو التفاصيل، حتى الفصل الأول نفسه بتأسيساته الطويلة نسبياً لطبيعة الأزمات التي تواجه أبطال الفيلم، أو تحضير المتلقي للجرعة السياسية المطلوبة لشحنه ذهنياً، ثم الخروج إلى شبه حالة تجريدية في الفصل الثاني "تبلور الأزمات" والثالث "ذروة المواجهات مع الذات والمجتمع ومحاولة إيجاد حل للخروج من المأزق"، حينها يدرك المشاهد أن ما حدث في رومانيا قبل أكثر من 30 عاماً، يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم يرغب في التخلص من صورة الديكتاتور التافه وزوجته التي ظلت تشتم الجنود بتعالي وحنق غريب قبل أن تسكتها رصاصات الإعدام الذي تأخر أكثر من 20 عاماً.
* ناقد فني