شعر الجمهور بقدر المحبة الصادقة والبهجة الحانية التي عمت أجواء المسرح الرئيسي في افتتاح الدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، بعدما قدمت الممثلة الصينية ميشيل يوم، زميلتها وصديقتها الإنجليزية الجميلة إميلي بلانت، وذلك قبل صعودها إلى المسرح للحصول على جائزة اليسر التقديرية، التي مُنحت هذا العام إلى ثلاثة أسماء سينمائية مختلفة في سياقات رحلتها أو موهبتها أو حضورها الإقليمي والدولي.
حيث صعد إلى مسرح مدينة جدة التاريخية ممثل أفلام الحركة فان ديزل بتقديم من زوجته الممثلة ميشيل رودريجز، والهندي عامر خان بتقديم من ايفا لانجوريا، ومنى زكي بتقديم من ميني درافير عضو لجنة التحكيم، وإميلي بلانت بتقديم من ميشيل ووه، وذلك عن مجمل مشوارها الذي بدأ قبل ربع قرن تقريباً، وحققت من خلاله أشكال مغايرة من التنوع في التجارب والشخصيات التي صاغت رؤيتها للعالم عبر فن التمثيل.
من "التأتاة" إلى البافتا
حتى الثامنة من عمرها، كان إميلي الصغيرة ابنة المحامي الناجح والممثلة المسرحية تعاني من "التأتاة"، وحاولت أمها أن تجعلها تتخلص منها باصطحابها إلى بعض جلسات اليوجا أو العلاج التخاطبي، لكنها لم تفلح في ذلك، وظلت إميلي بلسان ثقيل حتى عمر الثانية عشرة من عمرها، عندما طلب منها أحد المدرسين أن تؤدي شخصية أخرى في مسرحية ولكن بصوت ولهجة مختلفة، داعماً إياها بجملة تشجيعية خارقة، ستظل ترن في رأسها الجميل (أنا اؤمن بكِ)، وقتها أقدمت إميلي الصغيرة على تقمص الشخصية بصوت ونبرة شمالية -وهي ابنة غرب إنجلترا- واستغرقت تماماً في الأداء، ففارت موهبتها في تلك اللحظة وتخلصت فجأة من التأتأة المزعجة وأطلق لسانها وتحررت طاقاتها الكامنة.
هذا المشهد الدراماتيكي الرائع يعكس القاعدة التي انطلقت منها إميلي فيما بعد، لتحصد نجاحات براقة في سنوات قليلة وهي المولودة في 1983، بينما كانت بدايتها قبل أن تتم عشرين عاماً في 2001، تعكس الكثير من الطموح الذي دعمه تأصيلها لموهبتها المكتشفة عبر دراسة الدراما واللغات والموسيقى والعزف، وفي فيلمها الرائع my summer love "صيف حبي" 2004، نراها تعزف التشيللو بشكلٍ حقيقي وهي آلتها المفضلة، التي تقدسها بصورة احترافية، وهو الفيلم ذاته الذي شاهدته عرابتها فيما بعد الممثلة الكبيرة سوزان سارندن فرشحتها لأداء شخصية "مارا" في فيلم الإثارة العاطفية "لا يقاوم" Irresistible للمخرجة آن تيرنر، حيث ظهرت إميلي في شخصية الشابة السيكوباتية التي تتسرب إلى حياة أسرة هادئة، فتشعل النار في كل شيء من خلال سلوكيات مرعبة، لكن لا أحد يصدق أن وجه الملاك يحمل خلفه هوس شيطاني بالاستحواذ والتدمير.
كان هذا عام 2006، وهو نفس العام الذي شهد انطلاقة إميلي الهوليوودية الشهيرة، مع المخرج ديفيد فرانكلين والخارقة مريل ستريب، في الفيلم الأيقوني "الشيطان يرتدي براداً"، وهو الفيلم الذي سيربط بصداقة عميقة بين إميلي وآن هيثاوي، الذي شكلت التجربة البراقة منصة انطلاقها هي الأخرى نحو صدارة العناوين القوية.
في هذا الفيلم اقنعت إميلي بلانت، المخرج أن تصبح شخصيتها إنجليزية بدلاً من أمريكية -كانت الشخصية تحمل اسم إميلي في تطابق دراماتيكي طريف- وطورت العديد من جمل الحوار بنفسها، بناءً على شخصيات قابلتها بالفعل، ولكنها لم تشأ أبداً أن تتعاون معها في حياتها -الدور لسكرتيرة رئيسة تحرير مجلة الموضة الشهيرة التي تحاول أن تحافظ على منصبها أمام الوافدة الجديدة التي تستحوذ على اهتمام المديرة- كانت إميلي في الثالثة والعشرين من عمرها عندما حددت منهجها التمثيلي في الفيلم بناءً على خبرتها الواسعة في المسرح الإنجليزي قبل أن تقف أمام كاميرات هوليوود، لقد أدركت من سن مبكرة أن التشخيص في جانب منه يكمن في استدعاء الممثل لخبرات حياتية من الذاكرة والواقع على حد سواء، وأن جانب من الموهبة يكمن ليس فقط في الاستدعاء، ولكن في القدرة على دمج هذه الاستدعاءات في أبعاد الشخصية التي قدمها الممثل، دون أن تطغى الاستدعاءات عليها أو تفسد أبعاد الشخصية المعدة مسبقاً داخل النص.
وفي مقابل الاشتغال الدرامي والنفسي الجاد على الشخصية في فيلم ديفيد فرانكلين، حققت إميلي جائزة أفضل ممثلة ثانوية في بافتا 2006 عن دورها في الفيلم/ الظاهرة، ومما لا يمكن تجاهله أنها انشغلت أيضاً بالإعداد الجسدي للشخصية حيث كان المطلوب منها أن تنقص وزنها من أجل الدور بشكلٍ كبير، وأصبح لزاماً عليها هي وآن هيثاوي -بطلة الفيلم- أن يمتنعا عن الأكل لساعات طويلة كي تبدو أجسادهن في نحافة أجساد عارضات الأزياء كما تريد لهن محررة الموضة الشهيرة التي يعملن في مجلتها الخارقة، ومن ثمة ربطت صداقة عميقة بين الممثلتين الشابتين يمكن أن نطلق عليها (صداقة الجوع).
ليست الأرملة السوداء
ما بين عامي 2006 حين انطلقت مع "الشيطان يرتدي براداً" وحتى عام 2013 حين أتمت الثلاثين، شكلت إميلي ظاهرة جميلة في تنوع الأدوار التي اختارت أن تشكل مسيرتها في مرحلة العشرينيات من عمرها، أشهرها بالطبع "نادي جين أوستن للقراءة" عام 2007، و"حرب تشارلي ويلسون" أمام توم هانكس في العام نفسه، والذي قدمت من خلاله شخصية "جيني لندل" -العشيقة الايروتيكية للسياسي الداهية- وذلك ببذخ جسدي كبير وملفت، ساعدها عليه تكوينها الجسماني الإنجليزي الممشوق، والمدعم جينياً بكل تضاريس الجاذبية والفتنة الخالصة.
يمكن أن نتوقف هنا أمام ما تراه إميلي بخصوص مشاهد العري والجنس على الشاشة، حيث تقول عن سبب تجنبها للعُري على الشاشة: "أنا لست مهتمة جداً بالتعري، لأنني لم أعد في الثانية والعشرين من عمري، وفي الواقع، ليس الأمر أخلاقياً إلى حد كبير؛ لأنني فعلت ذلك من قبل، فهل أرغب حقاً في القيام بذلك مرة أخرى؟ هل يخدم الفيلم أم أنه أمر غير مبرر ورؤية مؤخرة شخص ما لمجرد ذلك؟ لأنني لا أعتقد أنه ضروري في معظم الأحيان".
قبل أن تكمل ثلاثين عاماً، قدمت بلانت واحداً من أجمل أدوارها في مرحلة العشرينيات، وهي شخصية "الملكة فكتوريا" في فيلم "فيكتوريا الشابة" عام 2009، إخراج جان مارك فالي، الفيلم الحائز على أوسكار أحسن تصميم ملابس في نفس العام، ومثل دور "فكتوريا" بالنسبة لها عودة إلى تقنيات الأداء المسرحي الذي تربت عليه، ولكن مطعماً بالخبرات التي اكتسبتها من وقوفها أمام كاميرا السينما لسنوات متراكمة وعلى فترات قريبة بشكلٍ زخم.
ولكن على ما يبدو رغم هذا التراكم في الخبرات والتنوع في الأدوار ومنهجية العمل على الشخصيات، إلا أن إميلي كان لا يزال ينقصها بعض الحكمة وبعد النظر المطلوبين من أجل تحقيق قفزات مهمة في مشوارها كما حدث في 2006، حيث جاء عام 2010 يحمل اعتذارها عن أداء دور الأرملة السوداء في فيلم "الرجل الحديدي 2"، والتي تحولت فيما بعد إلى واحدة من أشهر الشخصيات النسائية في سلسلة أفلام "الأفنجرز"، وهو الدور الذي ذهب لاحقاً إلى سكاريت جونسون، والذي توجت به رحلتها مع أفلام الأكشن والأبطال الخارقين.
كان الاعتذار الذي قدمته إميلي سببه ارتباطبها بمواعيد تصوير فيلم الفانتازيا الطريف "رحلات جليفر" في نسخة عام 2010، أمام جاك بلاك، ولكن شتان بين ما حققة جيلفر من نجاح مؤقت ومتواضع وبين قنبلة الأنوثة والحركة المتفجرة التي تحولت إلى أيقونة مبهرة على مستوى سينما أفلام الخيال والحركة والملقبة بالأرملة السوداء.
الغريب أنها في العام التالي، أي 2011، رُشحت إميلي لدور الملازم بيجي كارتر، ورشح زوجها الممثل والمخرج جون كراسينسكي -اللذان قدما سوياً فيما بعد تجربتهما المخيفة "مكان هادئ" بجزئية- وذلك لأداء شخصية "كابتن أميركا" في الفيلم الذي أطلق السلسلة الرهيبة طوال عقد كامل، ولكن في النهاية، ودون اعتذار منها هذه المرة، ذهب الدور إلى هايلي أتويل، وذهبت شخصية "كابتن أميركا" إلى كريس إيفانز، الذي دمغ الشخصية الأسطورية بملامحه وحقق معها النقلة النوعية الهائلة في مشواره.
عودة ماري بوبنز
بين عامي 2014 و2018، قدمت إميلي مجموعة من أبرز تجاربها السينمائية، بداية من شخصيتها في فيلم الأكشن الخيالي "حافة الغد" أمام توم كروز، وهو أول أدوارها التي تعتمد على أداء مشاهد القتال والحركة، وكان توم كروز يخشى ما يخشاه أن يكون اختيارها غير موفق، نظراً لكونها لم تقم بمثل هذه الأدوار من قبل، كما أنها تعاني من فوبيا المرتفعات، لكن إميلي حققت نجاحاً كبيراً في أداء الشخصية سواء على المستوى الجسدي أو بملامحها التي صبغتها سنوات نضج الثلاثينيات بمزيد من القوة والصرامة والنظرة العميقة التي تطل من عينيها، والتي صارت جزءاً من أدواتها الأدائية خلال العقد الثالث من عمرها.
ثم في عام 2016، قدمت شخصية "راشيل" في فيلم الغموض المثير "الفتاة على القطار" والمأخوذ عن واحدة من أكثر الروايات انتشاراً في هذا النوع، وهي المرأة التي تراقب منزل طليقها مع زوجته الجديدة فتتورط في اكتشاف ملابسات غريبة في المنزل المجاور بين زوجين يختفي أحدهما بصورة مريبة.
وفي عام 2018، تحقق إميلي إنجازاً طيباً في مشوارها، حين يتم اختيارها لأداء شخصية المربية الأسطورية "ماري بوبينز" مع المخرج روب مارشال -صحاب شيكاجو وتسعة- "عودة ماري بوبينز" إنتاج والت ديزني، وهو إعادة تقديم للشخصية الأشهر التي سبق وقدمتها جولي أندرسون في الفيلم الكلاسيكي "البراق" عام 1964.
في عودة ماري بوبيز –الذي رشح لأربع جوائز أوسكار- برز العديد من إمكانيات إميلي غير المستغلة بالقدر الكافي، أبرزها بالطبع الغناء والاستعراض، وهو ما جعلها تتجاوز حالة المقارنة المباشرة مع الأيقونة جولي أندرسون، حيث كان الجميع يخشى من أن يفشل الفيلم الجديد في تحقيق مساره الخاص مع فئات المشاهدين المستهدفة، سواء من تربوا على مغامرات "الدادة" الساحرة أو هؤلاء الذين يرغبون في أن يكون لهم ذكريات طازجة مع النسخة الجديدة من "حاملة المظلة الطائرة".
لا شك أن رحلة إميلي بلانت، التي تجاوزت العشرين عاماً أمام الكاميرا هي التي راكمت الرغبة بداخل المخرج كريستوفر نولان، لاختيارها في أحدث مشاريعه وأكثرها جدلاً "أوبنهايمر" 2023، أمام المخضرم كيلي ميرفي، في دور رفيقة رحلته وحاملة أختام هواجسه وآلامه ومرآته الداخلية التي ينعكس عليها شعوره بتضخم الذات أمام السياسيين والضآلة المتناهية أمام القنبلة. وهو الدور الذي رشحت عنه لأوسكار أحسن ممثلة مساعدة العام الماضي.
يمكن القول إن تتبع رحلة الممثلة الإنجليزية الجميلة والتي كرمت هذا الأسبوع بجائزة اليسر، ضمن مجموعة الجوائز والتكريمات والترشيحات التي نالتها على مدار رحلتها العشرينية، هو تتبع لتاريخ الكثير من الفنانين الذين خاضوا رحلة عبور الأطلسي بين إنجلترا ولوس أنجلوس، وهي رحلة جديرة دوماً بالدراسة والوقوف أمام محطاتها المختلفة ذات السياقات المفعمة بالتفاصيل والإحباطات والنجاحات الذهبية.
تقول إميلي، ملخصة رحلتها: "لقد تعلمت منذ صغري أن ألتقط كل شيء. في بعض الأحيان لا ينبغي لك أن تفعل أي شيء لأن الكاميرا ترى كل شيء -مثل أدنى حركة لعينك- فتلتقطها وتبدو وكأنها شيء ما مهم. إن التجارب التي أستمتع بها هي تلك التي يصعب قراءتها، أو تلك الغامضة التي تخرج عن السياق المعتاد، لأنها تجعلك تنظر عن كثب، وهذا هو حال البشر، مخلوقات غامضة للغاية يصعب تحديدها".