"أسطورة 1900" للإيطالي تورناتوري.. 27 عاماً لرحلةٌ لا تنسى

time reading iconدقائق القراءة - 6
الممثل تيم روث، نجم فيلم "أسطورة عام 1900"، يقف مع زوجته نيكي في العرض الأول للفيلم في بيفرلي هيلز بالولايات المتحدة، 29 أكتوبر 1999 - REUTERS
الممثل تيم روث، نجم فيلم "أسطورة عام 1900"، يقف مع زوجته نيكي في العرض الأول للفيلم في بيفرلي هيلز بالولايات المتحدة، 29 أكتوبر 1999 - REUTERS
روما-عرفان رشيد

في 27 مايو 1956، وُلد في بلدة باجيريّا الصقلية، قرب باليرمو، صوتٌ سيصبح لاحقاً من أعذب الأصوات في سرد الحكايات السينمائية الإيطالية: جوزيبي تورناتوري. واليوم، إذ نحتفي بعيد ميلاده الثامن والستين، نحتفي أيضاً بذاكرة سينمائية حيّة ما تزال تنبض بالجمال والدهشة، تارةً من خلال الملامح الدافئة لطفل في قرية تكتشف السينما كما في "سينما باراديسو"، وتارةً عبر أنامل تطوف على مفاتيح بيانو في قلب المحيط كما في "أسطورة 1900".

فيلم “أسطورة 1900” (The Legend of 1900) الذي أنجزه تورناتوري عام 1998، يبقى، بعد 27 عاماً، عملاً سينمائياً فريداً لا يُشبه غيره. فهو ما يزال يحتفظ بطراوته، بشاعريته، وبسحره الروائي والبصري، كأن الزمن قد توقف لحظة عزفه لأول مرة.

حكاية أسطورة: بين الحقيقة والخيال

القصة، ببساطتها وعمقها، تحمل في جوهرها كل ما يجعل منها أسطورة؛ فعلى متن باخرة عابرة للأطلسي في مطلع القرن العشرين، يُعثرُ على طفل رضيع متروك فوق آلة البيانو في صالة الاحتفالات التي خلت من روّادها بعد ليلة احتفالية على رأس القرن الجديد. العجوز الذي عثر عليه يتبنّاه، ويسميه "1900". يكبر الطفل على متن السفينة، لا يعرف اليابسة، لا يُسجّل في أي سجل، لكنه يُتقن العزف على البيانو حدّ العبقرية. وبينما تتاح له فرصة النزول والاحتفاء العالمي، يرفض 1900، لأنه أدرك أن اتساع العالم الحقيقي أكبر من أن يُحتمل.

يسرد القصة صديقه وعازف البوق ماكس، بصوته وذاكرته. السرد هنا ليس فقط وسيلة نقل الأحداث، بل أداة لخلق الزمن والخيال، كما لو أن القصة نفسها تنبعث من نغمة مرتجلة لجاز لا ينتهي.

رهان السينما الملحمية الشعرية

الفيلم مقتبس عن مونولوج مسرحي من تأليف أليسّاندرو باريكّو، وكان التحدي الأكبر أمام تورناتوري أن يحول هذا النص الأدبي الحي إلى عمل سينمائي بصري متكامل. لكنه لم يكتفِ بالاقتباس، بل خلق بُعداً جديداً للنص، عبر صورٍ مشبعة بالمشاعر وبموسيقى تُنطق الصمت، وأماكن تتحول إلى استعارات.

اقرأ أيضاً

سعفة مهرجان كان الذهبية للإيراني جعفر بناهي.. ونجاحات للسينما العربية

فاز فيلم It Was Just an Accident "مجرد حادث عابر" للمخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، السبت.

العالم الذي صنعه تورناتوري داخل السفينة لا يقل سعةً عن المحيط ذاته. الكاميرا تتحرك برفق، مثل موجة ناعمة. الضوء الذي استخدمه مدير التصوير لايوس كولتاي يذكّرنا باللوحات الزيتية: دافئ، خافت، يحوّل الممرات الضيقة إلى كهوفٍ للأحلام، والمساحات الواسعة إلى امتدادات نفسية.

تيم روث.. وجه اللامرئي

اختيار تيم روث لتجسيد شخصية 1900 كان ضربة عبقرية. الممثل البريطاني يقدّم أداءً متقشّفاً، داخلياً، ينبض بالإيماءات الصامتة أكثر من الكلمات. شخصية 1900 تبدو كأنها آتيةٌ من عالم آخر، لا تنتمي تماماً إلى الواقع ولا إلى الخيال، بل إلى نوع خاص من الوجود، بين الموسيقى والصمت.

البحر، في هذا الفيلم، ليس مجرد مشهد خلفي، بل كيانٌ حيّ، يختزل الزمن والمصير. هو حضن وهاوية، طريق ومنفى، حلم وسجن. البحر لا يتحرك فقط بالسفينة، بل يتحرك في روح 1900، كما لو أن الماء هو ذاكرته الوحيدة.

إينّيو مورّيكوني: حين تكون الموسيقى سرداً

لا تكتمل أيقونة “أسطورة 1900” دون الموسيقى الخالدة التي وضعها إينّيو مورّيكوني. من اللحظات الهادئة إلى ذروة المشاعر، ومن "مبارزة البيانو" مع عازف الجاز جيلي رول مورتون إلى همسات العزف المنفرد، تصبح الموسيقى هنا امتداداً للصورة، بل محركاً للسرد نفسه. لا تشرح فقط ما يحدث، بل تخلق ما يحدث.

مدير التصوير كولتاي، الذي سبق أن أبدع إلى جانب  المجري الكبير إيشتفان زابو، يصوغ هنا ضوءاً يمكن لمسه. بين العتمة والنور، يمنح الصورة شحنةً وجدانية لا تُنسى. أضواء السفينة تحاكي مزاج الشخصيات، وتحوّل الفراغ إلى حضن سينمائي دافئ.

فيلم عن الزمن وفن الاختيار

"الأسطورة 1900" هو فيلم عن فكرة الاختيار، أو ربما عن التخلّي عن الاختيار. لماذا لم يغادر 1900 السفينة؟ هل هو الخوف؟ أم صفاء العيش داخل حدود محددة؟ أم لأن الحياة نفسها، في اتساعها، تحتاج إلى إيقاع مضبوط، كما في العزف؟

في زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات وتُفقد اللحظات معناها، يعيدنا الفيلم إلى زمن التأمل، حيث كل نغمة لها وزن، وكل صمت له معنى.

شاعر السينما وصائغ الذاكرة

قبل أن يصنع أسطورته الموسيقية، قدّم تورناتوري إلى العالم فيلم "سينما باراديسو" عام 1988، الذي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. هناك، في ذلك الفيلم، أيضاً كان الزمن بطلاً، والحنين بطلاً، والموسيقى ذاكرةً نابضة. كانت تلك الحكاية عن صبي يكتشف سحر السينما، وعن مخرج يعود إلى قريته ليودّع صديقه مُشغّل آلة العرض في السينما القديمة.

 

في الفيلمين، تتقاطع الهواجس: الغياب، الوفاء، الخوف من العالم، وبهاء اللحظة العابرة. وبين صالة سينما في جنوب إيطاليا، وسفينة تعبر المحيطات، يبني تورناتوري جسراً من الحنين والعذوبة، ويمنح السينما الإيطالية، بل والعالمية، هويتها الإنسانية العميقة.

أسطورة ما تزال تتحدث

في عام 2025، وبينما يطفئ تورناتوري شمعته الثامنة والستين، تعود إلينا أفلامه كرسائل من زمن أجمل. "أسطورة 1900" ليس مجرد فيلم، بل ترنيمة لِما لم يُعش، وصدى لما لا يُقال. ما تزال أنغام البيانو تعلو وسط الموج، وما يزال 1900 يرفض النزول، لا عن ضعف، بل لأنه اختار طريقاً آخر: أن يعيش ليبدع، لا ليُرى.

تورناتوري ليس مجرد مخرج. هو حكّاءُ الزمن، وسارد الصمت، وصانع الأساطير في زمن صار فيه كل شيء مؤقتاً. اليوم، نحتفل به وبفنه، وبكل تلك اللحظات التي جعلنا نثقُ بأنّ السينما قادرة على أن تعزف… إلى الأبد.

تصنيفات

قصص قد تهمك