مشهدان أساسيان في مسلسل "بطلوع الروح" يجعلان المتلقي يتساءل حول اليد التي تحمل صولجان البطولة الدرامية في العمل الرمضاني المثير. الأول هو مشهد اعتراف عمر الدسوقي/أحمد السعدني لزوجته الجميلة بأنه كان وراء عملية غسيل المخ (الشرعية) لصديقه أكرم، والعمل على استدراجه إلى الرقة جالباً معه زوجته التي هي (حب عمره) على حد تعبيره، ثم عملاً بالواقعة التراثية الشهيرة للملك الذي طمع في زوجة أحد قواده، أرسله الزوج إلى مهمة يعرف أنه لن يعود منها.
والمشهد الثاني هو مشهد توعد أم جهاد/إلهام شاهين لعمر الدسوقي بأنها لن تترك له هناء العيش مع سبيته "روح"، التي أنقذها من حكم الإعدام باتخاذها سبية على اعتبار أنها صارت مرتدة وفي حكم الكافرة. هذا المشهد يعكس ما في داخل "أم جهاد" من طاقة شر وكبت وشعور حاد بالنقص وفي نفس الوقت قدرة على اتخاذ قرار، والعمل على تنفيذه تماماً مثلما شاهدناها تُنفذ حكم الجلد في أول ظهور لها، أو وهي تعلن عن رغبتها الجنسية في زوجها أبو ناصر أو وهي تطلب (النكاح الحلال بعد استيفاء عدتها) من عمر لأنها (لم تشبع من الدنيا) كما تعلنها صراحة.
من بيده الفعل!
كلا الشخصيتين (عمر الدسوقي وأم جهاد) هي شخصيات درامية فعالة، أو بالتعبير الأدق هما بطلان دراميان أبعادهم الثلاثة مكتملة (الجسدي والنفسي والبيئي)، وكلاهما بناء على هذه الأبعاد يتخذ قراراته بالإرادة الحرة، ويعمل على تنفيذ هذه القرارات بما يتعراض بالطبع مع إرادة وقرارات الشخصيات الأخرى، أو يتدخل فيها وهو ما يولد الصراع الدرامي الذي هو المتن الرئيسي لحكبة أي حكاية.
ورغم أن البطولة الظاهرية تبدو لشخصية روح/ منة شلبي، لكننا في الحقيقة سواء هي أو أكرم زوجها شخصيات لا ينطبق عليها مبدأ البطولة الدرامية، بل هي شخصيات مٌسيّرة من قبل إرادة أعلى منها، تتمثل في الشخصيات التي سبق وأشرنا إليها على اعتبار أن الفعل الدرامي في يدها.
أكرم وروح ليسا بطلا الصراع، بل هما لا أبطال أو "أبطال ضد"، فأكرم يقع تحت السيطرة الكاملة لعمر وينقاد خلفه لغرض في نفس عمر لا يعلمه أكرم. وحتى قرار السفر إلى الرقة نعرف بعد ذلك أنه كان بتوجيه مباشر وضغط من عمر من أجل الحصول على روح.
بينما روح نموذج لكل ما هو عكس البطولة الدرامية، فعمر يحبها في صمت طوال سنوات ويستدرج زوجها، وزجها يخدعها في مسألة شهر عسل جديد في تركيا ليدفعها أن تكون معه بضغط من أمومتها لطفلها المريض، ومحاولتها الأساسية للهرب تأتي عبر إرادة والدها وصديقه، اللذان يتفقان مع مهرب شهير لكي يخرجها من الرقة، وحتى فشل المحاولة يأتي بسبب طمع السائق في أن يكون معها مرافقة تزيد من مقابل التهريب.
وحين تترك ابنها مع المرأة التي تختبئ عندها، والتي تعرفت عليها بالصدفة من خلال زوجة عمر تعود لتجده مصاباً بنزيف داخلي وفي المستشفى تلتقي بالصدفة المدبرة بأم ليث لكي تقع ثانية في قبضة أم جهاد!
ولا تفرق شخصية أكرم عن شخصية روح في كونها مصيرة أو ريشة في مهب القرارات التي تتخذها شخصيات أخرى على رأسهم عمر صديق عمره.
فمن بيده الفعل الدرامي في هذا المسلسل؟ ولماذا؟
أرواح عاطلة
ربما كانت نقطة القوة الأساسية في هذا العمل هي وجود انعاكسات مستمرة ومتبادلة طوال الوقت يمكن للمتلقي أن يرصدها، خصوصاً في التفاوت الكبير بين قوة شخصيتي عمر وأم جهاد في مقابل فقدان أكرم وروح لإمكانيات الفعل والحركة الحرة.
على المستوى الدرامي يرتبط المشاهد دوما بالشخصية القادرة على الفعل، لأن لاوعيه يدرك أن هذه الشخصية هي التي تدفع الصراع إلى الأمام، وتمثل قرارتها وأفعالها مصدر التوتر الانفعالي والأسئلة التي تفرزها الأحداث طوال الوقت، ولنا أن نتصور المسلسل بدون قرارات عمر وأم جهاد وأفعالهما المستمرة.
هنا ندرك أن فرضية المسلسل تطرح بصورة غير مباشرة الانعكاسات التي أشرنا إليها، فهاتان الشخصيتان رغم كل ما تدعياه من ورع وإخلاص، فإنهما في النهاية مجرد بشر تحركهما نوازعهما الداخلية سواء على مستوى المشاعر أو الغرائز.
وتكفي عبارة "ما شعبتش من الدنيا" لتُلخص عملية كشف عورة الأرواح العاطلة عن الصدق والإيمان الحقيقي، والتي تستخدم قضية الدين من أجل أغراض دنيوية بحتة.
إن هذه الأرواح العاطلة ترى في الدنيا جنة حقيقية، رغم كل ما تدعيه وتدعو له من أن الجنة في انتظار كل من يقتل في سبيل عودة الخلافة، وهو ما يحمله الخطاب الذي تتخذه أم جهاد فلسفة لها "تعالى أدخلك الجنة اللي بجد" و"معايا كل يوم هتدخل الجنة من أبوابها التمانية".
هذه الشخصيات هي التي تعكس حجم الزيف والخديعة والادعاء الذي تمارسه أيديولوجية الدواعش من جهة، ومن جهة أخرى تنعكس إرادتها الدرامية على الشخصيات الأخرى التي تنقاد وراء بريق الجنة الزائفة أو نصرة الدين الذي يتحول من رحمة للعالمين إلى نوع غير مفهوم من القسوة البشرية الخارقة.
تحسس رأسك
في حلقة كاملة من المسلسل نتابع معاناة "روح" للوصول بابنها المصاب بالهيموفيليا إلى المستشفى والحصول على المساعدة من قبل طبيبة شابة مضطرة للتعاون مع الدواعش، من الناحية الدرامية فإن الحلقة تمثل ترهلاً إيقاعياً نسبياً لسبب بسيط؛ وهو أنها تعرض معاناة شخصية لم تختر أن تكون في هذا الموقف، وبالتالي هي تدفع ثمن فعل لم تقرره إرادتها.
هذا النوع من المواقف الدرامية مهمته خلق التعاطف مع الشخصية، ولكنه ليس حدثاً يطور من الصراع أو يدفعه إلى الأمام بصورة قوية، خصوصاً أن الشخصية تقع تحت وطأة الظروف ولا تصنعها، ربما يعني هذا أن شخصية روح شخصية غير فعالة درامياً بشكل حقيقي في العمل، ولكنها بلا شك رأس مهم من بين الرؤوس الثلاث للفرضية التي يكشف عنها الصراع والخلفية السياسية والفكرية لاستغلال الدواعش كبيئة درامية؛ أولها رأس المُستغلين أصحاب الأغراض المختبئة خلف اللحية والنقاب، أي عمر وأم جهاد، وثانيها رأس أكرم الشعثاء المغسولة بدم الفريضة الغائبة دون أن تدري أنها أداة وليست يد، وأخيراً رأس "روح" المُنكسة في ميدان النعيم أمام الحكم بكفرها واتخاذها سبية حرب، التي تشبه رؤس كل الضحايا التي نحر الفكر المتطرف والردة الحضارية رقابهم طوال العشرية الأخيرة، وعلى حد قول الشاعر المصري صلاح عبد الصبور:
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه المقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الجيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك.. تحسس رأسك
* ناقد سينمائي