"محاكمة الأم".. قراءة في أفلام الدورة الثالثة لمهرجان عمان السينمائي

time reading iconدقائق القراءة - 9
مشهد من الفيلم الجزائري "سولا" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
مشهد من الفيلم الجزائري "سولا" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
عمان -رامي عبد الرازق*

بينما تقف "بركانة أم قدحة"، في المستشفى الحكومي دون أن تملك فلساً تدفعه لكي تجري أشعة لابنها المصاب في حادث، كانت "سولا" الأم الشابة تُطرد بابنتها الصغيرة من بيت أبيها بتهمة إهانة شرف العائلة، وقتما تُقاد آمال إلى السجن في قضية زنا تاركة ابنها المراهق "مؤمن" يواجه ثقب أسود من الضياع الروحي والجسدي. 

3 أمهات عربيات، كل منهن ينصب لهم الأبناء أو المجتمع أو الواقع محاكمة قاسية، لا نعود نعرف بعدها من القاضي ومن المتهم ومن المدموغ بالخطأ في اللحظة الراهنة التي يطحن فيها العوز المادي والمعنوي عظام الجميع!

محاكمة الأمهات الثلاث، تأتي نموذج لتيمة تتجلى في 11 فيلماً من 8 دول عربية، وهي حصيلة المشاركة في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بالدورة الـ3 لمهرجان عمّان الدولي، والذي سمح له شعار "أول فيلم" أن يحجز مكاناً جيداً بين المهرجانات العربية التي تنتشر على مدار العام السينمائي منذ سنوات. 

 بركانه الاسم والصفة

بوجه يشبه الحمم المكتومة في جحيم داخلي يصهر روحها، يُقدم المخرج التونسي أنيس الأسود في فيلمه الطويل الأول بركانة أم الفتى "قدحة" -والذي يعني الشعلة في اللهجة الدارجة- إذ تحاول أن تجتاز بابنها وأخته الصغيرة ذلك الهرس الاجتماعي أسفل قبضة هروب الأب إلى أوروبا، تاركاً أسرته الصغيرة في مهب العوز.

يبدأ الفيلم بـ"قدحة" يعوم مع أقرانه من فتيان الحي المنفلتين في البحر وينتهي أيضاً به يرمي بسهم في قلب البحر، ولكن شتان بين البحر الأول والبحر الأخير، في البداية يجرده الفيلم من لباس البحر على يد أصدقائه في استعارة واضحة بأن البحر كشف عورته الاجتماعية والإنسانية، حين غادر الأب على متن أحد قوارب الهجرة غير الشرعية، كما نراه في الصورة الوحيدة التي تحتفظ بها العائلة مولياً إياهم ظهره، وفي النهاية بعد أن يجتاز قدحة رحلة مهلكة لروحه الصغيرة، لا يفقد فقط كليته -التي تتبرع بها الأم إلى جسد طفل من عائلة غنية- ولكنه يفقد أيضاً نظرته الطفولية للعالم، ويكبر في اللحظات التي يواجه فيها مخلب الحقيقة الحاد؛ لقد ذهب الأب ولن يعود، وعليه أن يقتل البحر الذي فرق بينهم كي لا ينتظر عودته، ويعانق أخته الصغيرة كأب جديد وقادر على البقاء.

لكن أقسى محطات هذه الرحلة هي التي يحاكم فيها أمه بنظراته ثم بصرخاته فيما بعد، حين يفتح عينيه على حقيقة أنها باعت كليته من أن أجل ضمان استمرار بقية جسده على قيد الحياة! بينما تلقي "بركانة" (الاسم والصفة) بحممها الداخلية عليه في كل مرة -بالضرب أو التوبيخ- محاولة أن تجعله يدرك أن ما فعلته لم يكن منه بد، وأن الأموال التي جلبتها من وراء بيع الكلية ليس محلها جيوب سماسرة الهجرة غير الشرعية كما أراد أن يرتكب الهروب بحثاً عن أباه، وأخيراً حين ينتهي الحال بصديقه أسامة ابن الأغنياء الذي انتقلت له الكلية بأن يتحول إلى شبح بين الموت والحياة - كأن كلية قدحة ترفض العيش خارج جسده - يدرك ساعتها أن الأحق بقفص الاتهام ليس أمه وليس أباه ولكن كل المجتمع الذي فرض سياقات ممزقة على أسرة صغيرة لم تكن ترغب سوى في العيش في ظل حياة بسيطة هادئة.

 أطياف أم بقايا بشر

 قبل شهور حصدت الممثلة التونسية عفاف بن محمود، جائزة أفضل ممثلة في المسابقة العربية لمهرجان القاهرة السينمائي عن شخصية "آمال" في فيلم المخرج التونسي الشاب مهدي هيملي، والذي ينافس في مهرجان عمّان هذه الدورة بالممثل إيهاب بن يحيى في أول بطولة له.

في علاقة معقدة وخشنة حد التمزق، يُصاب "مؤمن" الفتى الموهوب في لعب الكرة بفضيحة دموية؛ حين تتهم أمه في قضية زنا بسبب تحرش أحد الرجال المتنفذين بها، بينما كانت تحاول أن تفتح باب رزق جديد لكي توفر الحد الأدنى من مصاريف ابنها بعد أن تخلى الأب السكير عن مقعده على رأس مائدة العائلة.

يتتبع الفيلم خطين متوازيين؛ تضطر الأم بعد إطلاق سراحها للعمل في إحدى "علب الليل"، ولا تكف عن البحث عن ابنها، بينما يفقد مؤمن أو "يكفر" بكل القيم المادية والروحية، حتى جسده البكر الشاب يتحول إلى أداة تعذيب لروحه عبر مستويات لا نهائية من السقوط والدنس.

تقف آمال - باسمها حمال الأوجه - وحيدة في مواجهة تهم الزنا والفجور والتقصير والتخلي، في حين أنها الحلقة الأضعف في سلسلة القتل الاجتماعي الممنهج للمرأة في ظل فجاجة الذكورية العمياء، والتي تأتي على الأخضر واليابس في أي أسرة مهما كانت صغيرة أو مطالبها متواضعة.

يتحرك "مهدي" بين خطي الأم والابن اللذان يبدو أن عوالمهما المفتتة لن تتقاطع إلا بالدم، يمارس واقعية خشنة بالكاميرا، تجعل ما نراه على الشاشة أقرب لنافذة مرعبة على واقع جحيمي أسود، يتشكل من رجال فاسدين وقوادين وتجار مخدرات، في حين تهرس أحذيتهم فتيان فقدوا بكارة أرواحهم مثل "مؤمن"، أو فقدوا العلاقة ما بين الجسد والروح، مثل العاهرة التي يحبها أو صديقه المتحول جنسياً.

تحلم "آمال" أن تجتمع بمؤمن (ودلالات اجتماع الأسماء واضحة) ولكن يدمى هذا الحلم حد التلاشي، مثلما يدمى جسد مؤمن على شاطئ البحر بعد أن فقد حتى رغبته في المال الذي سرقه من القواد الدنس، ومع تلاشيه، يفقد المتفرج أي رغبة في أن تحاكم هذه الأم على ما لم ترتكبه، وتنتقل أصابع الاتهام إلى الأطراف التي يجب أن تكون على قائمة المشاركين في تحويل آمال وابنها إلى أطياف أو بقايا بشر لهم الحق في استعادة بعض ما فقدوه من جذوة الأحلام المشروعة.

 سولا والمهد الغارق

في تترات الفيلم الجزائري "سولا" الحائز على جائزة السوسنة السوداء كأفضل فيلم روائي في مسابقة المهرجان، يُقدم لنا المخرج الشاب صلاح إسعاد في عمله الأول جملة تبدو -قبل رحلة الفيلم- براقة، من باب الجذب الجماهيري؛ تعلن أن الفيلم هو مقاطع من حياة بطلته بالفعل، وأنها ليست ممثلة، وأن ما نراه هو ما حدث، وربما أهون ما حدث، ولكن تتحول هذه الجملة إلى وخزة حادة في وجدان المتلقي عندما يتابع اللحظات الأخيرة التي تترك فيها "سولا" -بعد 14 ساعة عبر طرقات الجزائر- مهد ابنتها الصغيرة التي بذلت روحها من أجل محاولة العودة إليها! ففي نهاية الساعات الطويلة الحارقة، تقرر أن تهب صغيرتها نعمة الخروج من هذه الحياة قبل أن تُكوى روحها الصغيرة بأسياخ الواقع الحامية التي بلا نبض.

في النصف الأول من الفيلم، يحاصر المخرج بطلته في حيز المقعد الخلفي للسيارات التي تتنقل بينها، في البداية نراها في مشهد طويل بالمقعد الخلفي للتاكسي الذي تركبه مطرودة من بيت أباها حاملة مهد صغيرتها، ثم نراها وهي تُغتصب في المقعد الخلفي لسيارة أحد زبائنها، ثم تظل شبه حبيسة في المقعد الخلفي لسيارة أصدقائها الذين يبتعدون عن البيت مئات الأميال في اتجاه مدينة أخرى لقضاء وقت جامح بصحبة صديقتهم المفضلة.

يختصر المخرج عالم هذه الأم العزباء المنتهكة في المقعد الخلفي للعالم، مطرودة ومحاصرة ومغتصبة، وأخيراً حين تغادره قبل نهاية الفيلم نراها مدماه منتهكة، تملئ ذاكرتها فجوة سوداء لا تمكنها من تذكر لحظة اغراق المهد -وكأنها أم موسى التي أرادت أن تنقذه من بطش فرعون- ولكن فرعون هذا الزمان أشد بطشاً من فرعون الزمن الغابر، فرعون المجتمع الحديث أكثر تحجراً وفجاجة، وبالتالي ما يبدو ظاهرياً جريمة قتل في حق روح بريئة تتوجب عقاب الأم المرتكبة لخطيئة شنعاء، يبدو باطنه وجهاً آخر للحقيقة؛ ملقى على جلد المقعد الخلفي للسيارة الأخيرة التي تركبها "سولا" بحثاً عن ابنتها، بعد أن أراحتها الأقدار من جحيم التذكر للحظة كفيلة بشق القلب، لحظة مضي المهد إلى مثواه المائي بيد الأم نفسها، خوفاً من مصير مظلم، وطمعاً في أبدية حانية.

*ناقد سينمائي 

اقرأ أيضاً:

تصنيفات