كأنها وهج دائم لا تخفت جاذبيته؛ الطفولة، حيث الخيال على اتساعه، والأسرار مغلفة بالصمت والإشارة والتشوف، وحيث يختصر الرأس الصغير كل حكايات العالم.
هذا العام ضم برنامجي "مسابقة الأفلام القصيرة"، و"قسم الأفلام الموازية" بالدورة التاسعة لمهرجان أفلام السعودية بالدمام، نشاهد مجموعة من التجارب التي تستمد من طور الطفولة وسياقاته الشعورية البكر مادة الحواديت، التي تحاول أن تقرأ عالم الكبار بكل تعقيداته، أو تعيد تبسيط أزماته بعيون لم ترتبك بصيرتها بعد.
ما يزيد على 10 أفلام قصيرة من مجموع 78 فيلماً خلال الدورة التاسعة، قدم معظمهم صنّاع أفلام شباباً من داخل السعودية وخارجها، يلعب الأطفال الدور الرئيسي فيها، وذلك على اختلاف أنواعها السينمائية، ما بين الميلودراما الاجتماعية، مثل "زبرجد"، إخراج حسين المطلق، أو "ترياق"، إخراج حسن سعيد، أو الكوميدي العابر للأنواع مثل "يلا يلا بينا"، إخراج محمد حماد، أو "السيكو دراما"، مثل "كورة"، إخراج زياد الزهراني، و"ياسمين والمطر"، إخراج سارة سعد، أو حتى الرعب والأسطورة الشعبية، مثل "حوافر"، إخراج حمد علي.
صندوق القصص
تبدو الحالة السينمائية السعودية متفردة على مستوى محاولة قطع أشواط من الزمن، لتعويض ما سبق أن فات المملكة من سنوات لم يكن للسينما والفنون موضع قدم ضمن الناتج الثقافي والمعرفي، هذا التأخر أدى إلى أن أصبحت هناك مساحة فارغة ما بين طاقات صناع الأفلام وكتل الهم الاجتماعي والنفسي والإنساني، التي هي مصدر التجارب التي يغرف منها أصحاب الميول الفنية من سينمائيين وأدباء ورسامين.
هنا تبرز الطفولة كمصدر نووي لا ينضب للقصص، ومن ثم يصبح اتصال صانع الأفلام مع طفولته، سواء المعيشة أو المتخيلة، وسواء كانت القصص من ذاكرته، أو من حكايات الآخرين، يصبح هذا الاتصال صندوق الحكايات الذي يعوض الكثير من الغياب والتأخر، والإحباط الذي طالما عرقل تأسيس الذهنية المطلوبة لصانع الأفلام.
زمن الصحوة
في فيلمه "ترياق" يعود المخرج حسن سعيد إلى زمن الصحوة – الذي يبدو أنه زمن طفولته - حيث المطرب الذي يعيش في بيئة رافضة نشاطه الفني، سواء على مستوى دائرة أسرته أو على مستوى الحي الذي يقيم فيه (نرى ابنه يضع له العود في كيس زبالة أسود، كي لا يراه أحد وهو يخرج من المنزل)، بينما يعايره الجار الميكانيكي بأنه أخيراً وجد الكيس المناسب ليحمل آلته المحرّمة، ولكن في مقابل هذا الرفض النابع من أفكار الصحوة في عزّ قسوتها، ثمة ذلك الطفل الصغير الذي يدور خلف المغني العجوز، لكي يلتقط صوته على شريط كاسيت!
لا يهتم الفيلم بأن يعرض لنا خلفية الطفل ولا هدفه المباشر من وراء هذا - هو فقط محب للغناء، ويرغب في أن يعيد الاستماع إلى أغاني المطرب العجوز - ولكنه دون أن يدري يقدم للمطرب الترياق الذي يمكن أن يخفف عنه ألم الحنجرة الذي يعانيه إلى درجة أن يمنعه من الغناء!
يتخذ الترياق أكثر من معنى مجازي بالفيلم، فالطفل الذي يقتنص صوت العجوز ليس هو الدواء النفسي لحالته الصحية، ولكنه إرهاصة بأن ثمة جيلاً سوف يأتي محباً للغناء شغوفاً بالألحان والتقاسيم والأشعار، جيل غير رافض، ولا مستنكر، بل لديه القوة والطاقة التي تجعله يدور خلف مطربه المفضل، كي يحتفظ بصوته قبل أن يتلاشى، إن المطرب حين يستمع إلى صوته مسجلاً يدرك أن مرضه لن يتمكن من محوه أغانيه، وأنه طالما هناك من يسجلها ويسمعها، فإنه سوف يعيش ويصدح للأبد.
زهايمر
أما في فيلم "زبرجد"، فيتعرض الشاب العائد إلى بيت أهله إلى حالة من الرفض والاندهاش، نتيجة لما يرى عليه حال أسرته المكونة من أمه وأبيه الذي يعاني الزهايمر، الأب الذي يعشق حجر الزبرجد، لكنه لا يرتديه، رغم أن طاقته الداخلية تتحسن بسببه، كأنه يريد أن ينسى عمداً، وليس نتيجة المرض!
في المنزل يعثر الشاب العائد مفصولاً من جامعته على طفل صغير أسمر اللون، تقول له أمه إنه يقيم عندهم لفترة وجيزة، لحين عودة أهله، وتنشأ ما بين الشاب والطفل علاقة أثيرية، وكأن الشاب يرى في الطفل نفسه، أو كأن ثمة رابطاً خفياً يشبك فيما بينهما، هل هو السر المجهول الذي يبوح به صديق الأب ولا نسمعه نحن، بينما تقبع الكاميرا في سيارة الابن خلف الزجاج المغلق؟!
تفصيلة الزجاج المغلق هي توظيف درامي وبصري جيد لفكرة السر المعلن، السر الذي يبدو مكشوفاً من وراء الزجاج، لكننا لا ندرك فحواه! وهل يخص الأب أو الأم أو الطفل أو الأسرة مجتمعة؟! هل هذا هو السبب الذي يرفض الأب بسببه أن يرتدي حجر الزبرجد؟! هل يعاقب نفسه أو يهرب من حقيقة لا يريد إدراكها؟!
ينتهي الفيلم دون أن نعلم، يحجب المخرج المعلومة، كأنه يحيدها، لأن ما وراء المعلومة أو الحالة هو ما يهمه، وليس فحوى السر! أما الطفل فلا ينطق سوى بكلمات قليلة، ويبدو في سماره أقرب إلى جنّي خارج توّه من مصباح مترب، حتى إن الأم تقوم بربطه في رجل السرير، لأنه يعاني فرط حركة، كأنه عفريت على حدّ وصفها. عفريت حضر إلى بيت العائلة.
دراما نفسية
وبالحديث عن العفاريت يقدم المخرج زياد الزهراني في فيلمه "كورة" دراما نفسية تتخذ قشرة مرعبة، لكي تمرر هدفها بمكر، فالطفلان اللذان تقع كرتهم في باحة المنزل الغامض الذي يعيش فيه رجل زوجته يخوضان تجربة مروعة، من زاوية عيونهم المفتوحة على كل ما هو خيالي ومخيف.
أكثر ما يمكن أن يبدو مرجفاً هو أن تشاهد أمراً غامضاً بعيون طفل، فالتأرجح ما بين عدم الفهم والفضول والخوف الفطري غير المؤطر بخبرات حياتية، يجعل كل ما ينتقل إلى المتلقي من عيون الأطفال مخيفاً حتى بالنسبة للكبار أنفسهم، وهو ما لعبه المخرج الشاب بشكل حاول أن يكون دقيقا وعفوياً في نفس الوقت
فالطفل الذي يبحث عن كرته داخل البيت الغامض يكتشف أن ثمة امرأة مربوطة في الفراش، وبجانبها يعلو صوت القرآن وآيات إخراج الجان، فالزوج لا يدري أنها تعاني من حالة نفسية بسبب فقدان ابنها – الذي هو في نفس عمر الطفل صاحب الكورة- بينما هي ترى في كل طفل وجه ابنها، ولا يسع الطفل سوى أن يصرخ مرتعباً حد الارتجاف حين تهجم عليه ظناً منها أنه ابنها الغائب.
ربما لا يتخذ سؤال الفيلم حول الخيط الفاصل ما بين العلم والخرافة طزاجته، سوى لأننا نراه من عينا طفل، فكيف هو وقع الأمر على ذهنه الغض وهو يرى امرأة مربوطة في الفراش تصرخ، سوى أن ثمة عفريت يسكنها.
في حين لو أن الزوج رجل متنور بقليل من العلم، لأدرك حجم الخسارة التي تمزق روحها والتي تجعلها تنوح كناقة خلوج فقدت بعيرها، فالإنسان الجاهل قد يدرك حزن الناقة لكنه لا يقدر حزن الأم لأنها امرأة، وطالما أنها امرأة فهي بلا شك مشتهاة من الجن والعفاريت، ولا سبيل لطردهم منها سوى بالحبس والتعذيب.
"يلا يلا بينا"
هذا الفيلم هو واحد من أكثر الأفلام التي تستغل مخيلة الأطفال في صياغة حالة عبثية جذابة وموحية، يبدو كتجربة عابرة للأنواع يمزج فيه المخرج ما بين التسجيلي والروائي الفانتازي، وتلعب النوستالجيا دورها مع تركيبة العودة للطفولة كما في فيلم ترياق.
يبدأ فيلم "يلا يلا بينا" من نقطة تسجيلية بحتة حول شخصية العم جميل، الذي يعمل في مجال الأنتيكات والمقتنيات القديمة، ثم يقفز من عنده كأنه فاصل اعلاني، وانتهى إلى مغامرة الطفل الذي أحضر لعبة "أميكرون" الشهيرة لكي يغيظ اصحابه، لكنهم ينتقلون بفعل قوة سحرية إلى بٌعد موازي تسيطر عليه ساحرات شريرات مضحكات.
يقدم المخرج فيلمه كأنه فيديو تتم مشاهدته على "يوتيوب"، ففيلم العم جميل يتقاطع إعلانياً مع فيلم "الأطفال الخارقين"، وفيما ما بينهم تعرض إعلانات أخرى يتم تجاوزها سريعا، كل هذا في مزج يعكس حجم العبث الذي يعيشه أو سوف يعيشه جيل هذا الطفل عندما يكبر- وربما يصير المخرج نفسه.
ويذهب صناع الفيلم إلى تخوم الخلط وكسر الحواجز، فيخرجون العم جميل من فيلمه التسجيلي، بعد أن يعلن عن رغبته في التمثيل، لنراه يدخل إلى فيلم الأطفال الخارقين مخلصاً أحدهم من شر رفيقه.
وهكذا يكتمل العبث إلى نهايته ونشعر أن جيل عم جميل، جيل الأنتيكات والتحف والتليفزيون القديم والشاشات الفضية التالفة، سوف يظل يحاول أن يفرض سيطرته على جيل "يوتيوب" الذي لم يعد هناك ما يمكن أن يسيطر على مخيلته أو يحتل ذاكرته مهما راكم من عاديات وتحف.
* ناقد فني
اقرأ أيضاً: