هذا فيلم مشغول بعناية على مستوى المتن والتفاصيل، بلا زخارف بصرية ولا حليات بالنور والظل، مهموم بأكثر من قضية لا فرار من لسعاتها الموجعة، دون افتعال أو مزايدة فجة، باستثناء مواضع المباشرة التقليدية في الأعمال الأولى، وهي سمة من الصعب التخلص منها في التجارب البكر.
دعونا نبدأ من نهاية فيلم "وداعاً جوليا"، بمشهد الطفل الجنوبي دانيال، وهو يحمل سلاحاً، ويجلس في سيارة بجانب الضابط الجنوبي الذي رأى فيه بذرة مقاتل، لا بسبب رغبته في القتال أو الدفاع عن فكرة انفصال الجنوب السوداني عن الشمال، عام 2010، ولكن لأن الطفل يحمل في داخله حقداً مستحقاً، وغضب مخلوط بالرغبة في الثأر، والشعور بالحرمان الطويل، نتيجة لاكتشافه أن العائلة الشمالية (عائلة منى زوجها)، التي تربى بينهم طوال 5 سنوات من اختفاء أبيه، هي السبب وراء هذا الاختفاء، وأن الرجل (زوج منى) الذي علمه النجارة، وكان شبه أب بديل، هو نفسه من انتزع روح أبيه ذات يوم أسود بحجة الدفاع عن بيته، وقت المظاهرات التي قام بها الجنوبيون عقب مقتل زعيمهم جون جرنج عام 2005.
هذه اليد الصغيرة القابضة على السلاح، هي نفسها اليد التي كانت ترغب في تعلم التصوير بالكاميرا، نظراً للتأثر بمهنة الأب الراحل، والتي وجدت نفسها فيما بعد تتقن خرط الخشب وتكوينه، وهي التي كانت تجر دلو الماء في الطريق؛ مما تسبب في اصطدام سيارة منى به، ومطاردة الأب لها وقتله على يد الزوج.
سياقات ومجازات
اختار محمد كردفاني كاتب ومخرج فيلم "وداعاً جوليا" عدة سياقات تعتبر الأيدي فيها مجازات مؤثرة لما يريد حكيه، إن أول ما يطالعنا من منى مثلاً هو وقوفها في مطبخ منزلها ساهمة، بينما يداها تقلب الطعام، لكنها تنسى البيض على النار فيحترق وتلقيه، وفيما بعد سوف نعرف أن منى كانت تعمل كمطربة وعازفة محترفة في فرقة غنائية، وأن زوجها المتدين المحافظ ابن العائلة الميسورة منعها من ممارسة شغفها الحقيقي، وأصر على أن تلقي الجيتار من يدها، وتمسك بأدوات الطبخ.
والزوج الشمالي المحافظ التقليدي نفسه يعمل كصاحب مصنع للأثاث، ويملك ورشة نجارة احترافية في منزله، الورشة التي سوف يتعلم فيها دانيال الصغير أصول التعامل مع الخشب قبل أن يلقي بالمطرقة، ويمسك السلاح في نهاية الأمر، واختيار مهنة وهواية النجارة اختيار عميق، ويستحق ضمه في زمرة التفاصيل المهمة بالفيلم، فهي مهنة الأنبياء، والزوج رجل متدين ومصلي، ولكنه التدين الشرقي الذكوري السلطوي، وفي جانب منها كمهنة تحمل ملمح فنياً، فهي صناعة وفن، ولكن هذا الشغف الفني لا يمس روح الزوج أو هويته الذكورية العنصرية، بل ويرى في موهبة وهواية وشغف زوجته ما يناقض كل تصوراته على الحياة الزوجية، وأفكار الخضوع للبيت والرجل والعرف الاجتماعي.
يمكن هنا ان نشير أيضاً إلى أن منى يوم أن صدمت دانيال، وطاردها أبوه المغدور كانت مصابة بالإحباط، نتيجة عنصرين شديدي الحيوية ومندمجين عضوياً مع بناء علاقتها بزوجها وبنفسها وبالعالم، مدينة الخرطوم تحديداً، الأول هو خفوتها النفسي؛ بسبب اكتشاف أن حفلة الفرقة التي ارتدت نقاباً من أجل أن تحضرها قد ألغيت بسبب أحداث 2005، عقب تفجير "جرنج"، والثاني هو تأكدها من حقيقة أنها لن تنجب أبداً بسبب إصابتها بانقطاع الطمث المبكر، وهو اختيار مجازي شعري لفكرة أن كبت الشغف يمكن أن يؤدي إلى عدم قدرة الشخص على توليد الحياة بداخله، فالمخرج لم يختر عيباً خلقياً أو مرضاً وراثياً، ولكنه اختار فكرة انقطاع الطمث المبكر، ليرسم به جانب مهم من شخصية منى على المستويين الشخصي والدلالي.
شخصية عادية
غالبا ما يقترن الوداع بإشارة أو تلويح من اليد، من طرف واحد أو كلا الطرفين المفارقين، وهنا تبدو جوليا الأرملة الجنوبية الجميلة، بوداعتها الروحية ورقة حالها النفسي والاجتماعي، هي الطرف الذي يلوح له الجميع، بينما هي في الحقيقة لا تريد أن ترحل، لا عن الخرطوم أو مني أو مدرسة الأحد التي صبغتها بالمعرفة، أو الكنيسة التي استمعت فيها لغناء منى وقت بروفات حفل الكريسماس.
تبدو جوليا شخصية عادية وسط صراع غير عادي، هي محور الأزمة وهي حلها في الوقت ذاته، لا ترى نفسها جنوبية، ولا ترى معنى لفكرة التقسيم نفسها، في 3 مراحل متفرقة نتابع يديها، وهي تدق الويكا بعد أن غاب الزوج، واضطرت إلى العمل، ثم بعد سنوات وهي تذاكر بجد وشغف، على اعتبار أن العلم هو المكون الأكثر أهمية في حياة تشبه حياتها الملوثة باضطرابات قدرية، ثم وهي تدون بياناتها لتوقع بـ(لا) على الانفصال.
ويمكن أن نمد خطاً ما بين يد جوليا التي ترفض الانفصال شكلاً ومضموناً، رغم أنها تعلم أن العائلة الشمالية هي التي قتلت زوجها، ويتمت ابنها لكن رجاحة عقلها ترى في التعايش أفضل وسيلة للحياة والمستقبل، وبين يد منى التي تحاول أن تعزف على الجيتار من وراء النقاب يوم أن ذهبت مع جوليا، لتستمع إلى الفرقة التي كانت مطربتها الأولى.
هكذا ببساطة وعمق ودون صراخ، يقدم لنا كردفاني تصوره عن الحلول الممكنة لهذه القضية الدموية، ليس فقط في السودان، ولكن في كل بؤر الصراع الطائفي أو الأيديولوجي أو العرقي، لقد فشلت يد منى في أن تعزف يوم الحفلة، وهي ترتدي النقاب، وتخشى أن يفتضح أمرها أمام فرقتها القديمة أو أن يصل الخبر لزوجها، لكنها حين تترك نفسها للروح الحلوة والشغف والحميمية في الكنسية وتغني، فإن الحدود والفوارق العنصرية والسياسية تتلاشى تماماً، ويندمج الجميع مع الفن كلغة جمعية جامعة، ولو أن اليد الأخرى هي يد جوليا التي تتعلم وترفض أن توقع على بـ"نعم" على الانفصال، لتغيرت خرائط كثيرة، ولبقي الآلاف على قيد الحياة والمستقبل.
ولما وصل السلاح في نهاية الأمر إلى يد داني الصغير، صحيح أن منى تعود إلى الغناء متحررة من قفص الزواج الجامد، والعقر وكآبة انتظار ما لا يدفئ الروح، لكن رحيل جوليا إلى الجنوب ضمن هيستيريا الترحيلات عقب إعلان دولة الجنوب، ثم حمل داني للرشاش في اللقطة الأخيرة، يجعلنا ندرك أنه بدون اليد التي ترفض الانفصال، فإن اليد التي تعزف للجميع أغنية السلام لن تحول دون أن يظل الدم عادياً في الشوارع في نزيف لا ينتهي، وهو ما حدث بالفعل خلال الشهور الأخيرة، وفي الخرطوم نفسها.
كلاكيت أول مرة
تمنح مشاركة المخرج بعمله الأول في أكبر مهرجان بالعالم (مهرجان كان 2023) ضمن فعاليات مسابقة نظرة ما، وحصوله على جائزة دولية من المهرجان نفسه (جائزة الحرية)، كل هذا يمنح ثقة هائلة تحتاج إلى السيطرة عليها، في مقابل ضرورة أن تكون أعماله القادمة أكثر صعوداً نحو النضج والحساسية الفنية، التي ليس لها سقف معروف.
وفي "وداعاً جوليا"، يمكن أن ندرك أن محمد كردفاني يملك الأدوات كلها التي سوف تجعله قادراً على تحفيز حساسيته تجاه صناعة الأفلام بشكل سريع وقوي، لكن تظل ثمة عناصر خافتة إبداعياً تخص تجربة الفيلم الأول، وهي عناصر شائعة في غالبية الأعمال الأولى، أبرزها المجازات المستهلكة، مثل إحضار الزوج لمنى قفصاً يحتوي على عصفورين زينة من أجل أن تتسلى بهم، بدلاً من عدم قدرتها على الإنجاب، لتقوم منى، بفتح القفص وتحرير العصفورين في اللحظات التي بدأت فيها قبصة التمرد تدق على باب الخروج، من أجل أن تنقلت من هذا القفص الكبير العلاقة الزوجية.
ويزيد الزوج من نمطية المجاز عندما يقول لها "اتركي القفص مفتوحاً فقد يعودون، لقد تعودوا الحياة السهلة والطعام الميسر، ولن يستطيعا أن يعيشا فوق الأشجار، ويفتشا عن رزقهم في مقابل الحرية المجانية التي منحتيها لهم".
وفي مقابل عشرات التفاصيل التي تصيغ البناء الدرامي بعمق ومهارة، يتوقف السرد في لحظات غير مطلوبة عند مشاهد حوارية، كتلك التي بين الزوج ومنى، حين يحاول أن يهدم لها الشعور بالاطمئنان النفسي، تجاه أنها تعامل جوليا معاملة خالية من العنصرية، مذكراً إياها بالأطباق التي لونتها من أجل أن تستعملها جوليا وابنها فقط، حتى لا يأكلوا جميعا من طبق واحد، مما يدفعها إلى محو تلك العلامات ومحاولة الاندماج بصورة أكثر إنسانية، وبوعي كامل لأن يكون موقفها من جوليا بلا شوائب راكدة، من أثر التربية أو الواقع أو الوضع السياسي والتركيبة الاجتماعية السائدة.
هذا الحوار على سبيل المثال، لا يكاد يضاهي قوة وتأثير فعل بسيط يقوم به الزوج، عندما يلاعب دانيال في بداية إقامته مع أمه بمنزله، في محاولة لتعويض منى عن تسببها في مقتل الأب، وهي مداعبة جميلة توحي بأن الرجل أكثر سواء وأقل عنصرية مما نعتقد، وهو الذي ينعت الجنوبيين بالعبيد طوال الوقت، مما يستدعي في المقابل أن يطلق الجنوبيين على الشماليين الجلابة أي تجار العبيد، وحين يركب الزوج سيارته الفخمة، بعد أن لاعب الصغير بالكرة، نجده يرش بعض المطهر على يده، ويمسح بفوطة الموضع الذي لمسته يد الصغير أثناء لعبهم القصير بالكرة، كأنه يطهر نفسه من لمسة نجسة لحيوان، وليس يد وديعة لطفل صغير، لولا أنه حرمه من أبيه بحجة الدفاع عن البيت والشرف، لما حملت اليد السلاح في نهاية الأمر.
* ناقد فني