Anatomy of a Fall.. درس في السيناريو وأسرار الحياة الزوجية

time reading iconدقائق القراءة - 7
مشهد من الفيلم الفرنسي Anatomy of a Fall الفائز بجائزة السيناريو في الأوسكار - facebook/AnatomyOfAFallFilm
مشهد من الفيلم الفرنسي Anatomy of a Fall الفائز بجائزة السيناريو في الأوسكار - facebook/AnatomyOfAFallFilm
القاهرة -عصام زكريا*

من بين كل الجوائز التي حصلت عليها الأفلام المتنافسة على أوسكار 2024، ربما تكون الجائزة الأكثر استحقاقاً، والتي لا يكاد يختلف عليها اثنان هي جائزة أوسكار أفضل سيناريو مكتوب مباشرة للسينما، التي حصل عليها فيلم Anatomy of a Fall، للمخرجة جوستين ترييه، التي كتبت السيناريو أيضا بالمشاركة مع آرثر هاراري.

السيناريو هو أقوى عناصر هذا الفيلم، الذي انتزع السعفة الذهبية في مهرجان كان العام الماضي منافساً عدد كبير من الأفلام والأسماء الكبيرة، ومنذ ذلك الحين يواصل الفيلم حصد الجوائز المختلفة، ومنها أفضل ممثلة لبطلته الألمانية ساندرا هولر، ولكن الجائزة الثابتة دوما هي أفضل سيناريو.

يحتوي Anatomy of a Fall على أداء تمثيلي بارع، خاصة من هولر، في دور المرأة المتهمة بقتل زوجها، وهي الشخصية الأكثر غموضاً ودرامية في الفيلم، ولكن أيضاً من قبل سوان أرلو، الذي يلعب دور الزوج، والذي حصل على جائزة "سيزار" عن دوره في الفيلم، وكذلك الصبي ميلو ماشادو- جرينر، الذي يلعب دور الابن المعذب بالشك في أمه.

يحتوي الفيلم أيضا على مونتاج شديد الحساسية والدقة، إذ يبقى كل شئ دائماً تحت أنظارنا، ولكن غير مرئياً تماماً، بما أن الفيلم يدور حول استحالة معرفة الحقيقة، واستحالة فهم تعقيد العلاقات الزوجية والانسانية.

عنصر المكان

وبما أن أحداث الفيلم، الذي يتجاوز زمنه الساعتين ونصف الساعة، يدور معظمها داخل جدران البيت الذي تسكنه العائلة، فإن عنصر المكان واستغلاله درامياً وبصرياً هو أحد أهم عناصر الفيلم، وهو ما يستدعي بالضرورة عنصر التصوير، حيث لا يمكن لهذا المكان ولا الشخصيات التي تظهر فيه أن تؤثر من دون تصوير وإضاءة دقيقين معبرين، ويكمن سر المونتاج والمكان والتصوير في كون هذه العناصر مخفية تقريباً، غير مقتحمة للعين، تخلو من الاستعراضية أو الظهور الزائد عن الحد.

لا يمكن لعنصر فني واحد أن يعوض ضعف عناصر أخرى في الفيلم، بينما يمكن لعنصر ضعيف واحد أن يُضعف الفيلم كله، وهذه هي المعضلة الأساسية في الفن السينمائي، وفيلم Anatomy of a Fall متكامل العناصر، ولكن السيناريو هو أبرزها وهو التاج الذي يكلل بقية العناصر، أو لنقل هو الحجر الكريم الذي يتألق في هذا التاج اللامع المسمى بـAnatomy of a Fall.

للوهلة الأولى يبدو Anatomy of a Fall مجرد معالجة أخرى لقصة زوجين متحابين، تتطور بينهما الخلافات حتى تصل إلى قيام الزوجة بدفع زوجها ليسقط من فوق الشرفة، ثم التحقيقات والمحاكمة التي تتم لمعرفة هل قامت بذلك حقاً، أم أن الزوج قام بإلقاء نفسه بسبب الاكتئاب وشعوره بالفشل؟.

المُشاهد لا يعرف ما الذي حدث بالضبط، وينتظر أن تتكشف الحقيقة بمرور الوقت، ولكن ما يتكشف على مدار الوقت هو حقائق أخرى حول العلاقة بين الزوجين وطفلهما المصاب بضعف شديد في الإبصار، وحول الدوافع التي ربما قد أدت إلى قيام الزوج بالانتحار، أو التي ربما أدت بالزوجة إلى قتله.

تدور كل مشاهد الفيلم تقريبا داخل البيت وقاعة المحكمة، وهو يعتمد على الحوار بشكل أساسي لتوصيل مضمونه، وهذا الحوار، من خلال الممثلين البارعين، يكشف عن شخصيات بالغة التركيب والتعقيد، لا يوجد فيها أبيض أو أسود، بل خليط عجيب من الألوان والصفات والدوافع والسلوكيات.

ولا عجب أن تستغرق كتابة الفيلم، كما قالت مخرجته ومؤلفته في أكثر من حوار، 4 سنوات كاملة. فهذا نص بديع يجب أن يقوم بدراسته كل كاتب سيناريو شاب لمدة لا تقل عن 4 سنوات.

الأصول المرجعية

يستمد سيناريو الفيلم قوته من عوامل عدة، منها الأصول المرجعية، الأدبية والسينمائية، التي يغزل على منوالها، ويعيد نسجها بطريقة جديدة ومبتكرة.

من أقدم وأبرز هذه الأصول فيلم Rashomon للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا، الصادر في 1950، والذي تروى فيه الأحداث داخل محكمة على لسان 4 شخصيات (من بينها روح الزوج المقتول)، وينتهي الفيلم دون أن نعلم حقيقة ما حدث، حيث تبدو أبسط الحقائق عصيّة على الإدراك أو التفسير.

من المصادر المرجعية أيضا لهذا النوع من السرد رواية My cousin Rachel للأديبة الانجليزية دافني دو مورييه، الصادرة في 1951، والتي تحولت إلى عدد من الأفلام صدر أحدثها في 2017، من إخراج روجر ميتشل وبطولة ريتشل وايز.

وتعتمد هذه الرواية على أسلوب سرد ذاتي (من خلال صوت أحد الشخصيات الرئيسية) يروي لنا ما يحدث، ولكن لا يمكن لنا أن نتيقن من صحة سرده، إذ يظل هناك شك دائم في كونه ضحية للمرأة التي يتزوجها، أم أنه يتخيل ذلك بسبب مرضه العقلي.

من المصادر الواضحة أيضا فيلم Anatomy of a Murder إخراج أوتو بريمنجر، 1959، حيث يدور الفيلم داخل قاعة محكمة، حول جريمة قتل "عائلية" تظل غامضة للنهاية، بالرغم من الحقائق التي تواصل التكشف.

ما يميز فيلم Anatomy of a Fall هو أنه يأخذ هذا البناء السردي المألوف منذ الخمسينيات، والذي يعكس روح القرن العشرين مع ظهور نظرية النسبية والحربين العالميتين الأولى والثانية وصولاً إلى القنبلة الذرية وسباق التسلح، وهيمنة الخوف من نهاية العالم، إضافة إلى انتشار فلسفة العدم ومذاهب العبث ونسبية الحقيقة وسقوط سلطة المؤلف العالم ببواطن الأمور.

يأخذ Anatomy of a Fall هذا البناء الدرامي المألوف ليزرعه داخل بناء الأسرة: هذا البناء الذي طالما بدا الأكثر أمناً وأماناً واطمئناناً، أو على الأقل الأكثر بساطة ووضوحا بين كل الأبنية والمؤسسات الاجتماعية المختلفة.

يرى بعض صناع أفلام الجريمة، مثل هيتشكوك، أن العائلة هي البيئة الأكثر إفرازاً للجريمة، خاصة القتل، ومعظم أفلامه تدور حول جرائم قتل عائلية، كما أن هناك مئات الأفلام التي تدور حول قيام أحد الزوجين بالتآمر لقتل الآخر.

ولكن Anatomy of a Fall يستخدم هذا الاحتمال البوليسي التشويقي، لا ليحدثنا عما إذا كانت الجريمة قد وقعت أم لا، وهو ينتهي دون أن يشبع فضول مشاهديه بإجابة على هذا السؤال، ولكنه يستخدم هذه الحبكة ليسبر أغوار الحياة الزوجية بشكل عام، ويبين كم هي معقدة وغامضة وخطرة، وأن هناك دوماً جريمة قتل أو عنف تربض في أحد الأركان، في انتظار أن يرتكبها أحدهم.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك