صناعة السينما السعودية تدعو هوليوود لاحتضان المواهب المحلية

المملكة تقدم حوافز سخية لجذب منتجي السينما الأميركيين وصُناع الأفلام العالميين

time reading iconدقائق القراءة - 14
موقع تصوير في محافظة العلا - المكتب الإعلامي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي
موقع تصوير في محافظة العلا - المكتب الإعلامي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي
دبي -بلومبرغ

في نهاية طريق صحراوي متعرج تحيط به منحدرات تدرجاتها حمراء ورمالها برتقالية داكنة، يقف استوديو سينمائي حديث مجهز بأحدث التقنيات، منتظراً إنتاج أول أعماله.

يقع الاستوديو في ضواحي مدينة العلا، شمال غرب السعودية، وهي مدينة يعود تاريخها لأكثر من 2000 عام على "طريق الحرير". وما زالت المدينة، مثل طبيعتها المحيطة، تحتفظ بجمالها الأصلي.

لكن من المتوقع ألا يستمر هذا الوضع طويلاً. ففي إطار رؤية السعودية 2030، التي تسعى لتنويع مصادر الثروة للبلد الصحراوي، تستعد "استوديوهات العلا" للافتتاح في وقت لاحق من هذا العام، لتكون مركزاً لصناعة السينما المحلية، والتي تمثل جزءاً من خطة أوسع لتعزيز النمو الاقتصادي، والابتكار التكنولوجي، وتطوير السياحة.

على أحد جانبي وادي العلا، تبرز الجبال المغطاة باللون الأخضر وكأنها تنتمي لعالم آخر. وعلى الجانب الآخر، تنتشر تلال من الصخور البركانية المكسوة بالرمال الذهبية والشجيرات، وتمتد الصحراء أسفل المنحدرات الحمراء الشاهقة. يقع موقع الحِجر الأثري، المدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، بالقرب من هذا المشهد.

العلا مركز جديد للسينما

تم اختيار موقع "استوديو العلا" بعناية في قلب هذه المناظر الطبيعية الخلابة كجزء من استراتيجية تهدف إلى توفير "الخلفية المثالية لمجموعة متنوعة من عمليات التصوير" لصُناع الأفلام. يتضمن الاستوديو، الذي يتماشى مع المعايير الهوليوودية، مسرحين صوتيين بمساحة 25 ألف قدم مربع، واستوديو تسجيل، ومستودعات، ومجموعة متكاملة من مساحات الدعم الإنتاجي، وذلك بحسب ما ذكرته شركة "فيلم العلا" (Film AlUla)، الوكالة السينمائية التابعة للهيئة الملكية لمحافظة العلا.

في عام 2018، اتخذ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خطوة تاريخية برفع الحظر عن دور السينما، مما شكل نقطة انطلاق لصناعة السينما السعودية، في إطار جهود تحويل المملكة إلى مركز سينمائي في الشرق الأوسط. وتبع هذه الخطوة تأسيس "مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي" (Red Sea International Film Foundation)، التي تسعى إلى إبراز تنوع وديناميكية السينما العربية، والأفريقية، والآسيوية، بالإضافة إلى إنشاء منظومة سينمائية مستدامة. كما تدعم المؤسسة مهرجاناً سينمائياً وصندوقاً يقدّم 15 مليون دولار لدعم عمليات الإنتاج التي يشرف عليها مخرجون أفارقة أو عرب.

قامت الدولة الخليجية الغنية بالنفط بتقديم حوافز سخية، بما في ذلك استرداد نقدي بنسبة 40% ممال ينفق على الإنتاج لجذب هوليوود وغيرها من صُناع الأفلام العالميين. وفي فبراير الماضي، أطلقت "الصندوق السعودي للأفلام" (Saudi Film Fund) بقيمة 100 مليون دولار لتعزيز التعاون مع الاستوديوهات العالمية.

تحديات نهوض السينما في السعودية

بالإضافة إلى جذب المنتجين الأجانب، تسعى السعودية إلى تأسيس صناعة سينمائية محلية تعكس قيمها وتقاليدها، وتسهم في بناء مجتمع يُمكّن المواطنين من متابعة شغفهم الإبداعي. ويعتمد نجاح المملكة في هذا المسعى، وهو التحدي الأكبر الذي تواجهه، على قدرتها في استقطاب الخبرات الأجنبية القادرة على رعاية المواهب المحلية وتوجيه الصناعة نحو النمو والتوسع.

قال ستيوارت ساذرلاند، الرئيس التنفيذي لشركة "سلتيك أرابيا" (Celtic Arabia) التي أشرفت على الإنتاج السعودي لفيلم "قندهار" لعام 2023، إن "السعودية تسعى لبناء قاعدة قوية من صناع الأفلام المحليين، لكن ذلك يتطلب دعماً من خلال جذب صناعة سينمائية عالمية قوية للتصوير في المملكة". يُعد الفيلم، الذي أنتجته شركة "ثندر رود فيلمز" (Thunder Road Films) ومقرها كاليفورنيا، واحداً من عدد قليل من الأعمال السينمائية الضخمة لهوليوود التي تم تصويرها في السعودية في السنوات الأخيرة. وأضاف ساذرلاند أن "نقل المعرفة لا يُقدر بثمن".

ومع ذلك، تواجه فرق الإنتاج الأجنبية تحديات في التعامل مع القيود الثقافية والسياسية في السعودية، والتي قد تتعارض أحياناً مع جهود ولي العهد لفتح البلاد اجتماعياً. على سبيل المثال، يجب على الهيئات الإعلامية الموافقة على السيناريوهات السينمائية قبل بدء التصوير.

وفي وقت سابق من هذا العام، أُفيد بأن مواطناً أميركياً من أصل سعودي، كان يرأس استوديو للرسوم المتحركة في السعودية ولديه عقد مدته خمس سنوات مع "نتفليكس"، قد حُكم عليه بالسجن 13 عاماً بتهمة الترويج للتطرف من خلال سلسلته الكرتونية ومنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي. أثارت قضية عبد العزيز المزيني صدمة كبيرة، خاصة أنه حظي سابقاً بإشادة كنجم صاعد في صناعة الترفيه المحلية.

بناء الجسور مع هوليوود

دخلت هوليوود السوق السعودية بشكل تدريجي في السنوات الأخيرة، مستفيدة من المناظر الطبيعية الخلابة لتصوير أفلام مثل "قندهار" و"تشيري" (Cherry)، وهو فيلم من إنتاج "أبل أوريجينال فيلم" (Apple Original Film) ومن بطولة توم هولاند الذي لعب دور محارب مخضرم، وتم تصوير أجزاء منه في العلا وعُرض لأول مرة في عام 2021. رغم ذلك، استكمل تصوير كلا الفيلمين في مواقع أخرى، وهو تحدٍ تأمل المملكة في تجاوزه من خلال تعزيز البنية التحتية المحلية وتطوير الخبرات.

يقول زيد شاكر، القائم بأعمال المدير التنفيذي لشركة "فيلم العلا"، إن صناعة السينما السعودية "على أعتاب تحول كبير تقوده استثمارات استراتيجية في البنية التحتية وتطوير المواهب وتعزيز التعاون الدولي. وأضاف أنه بالنسبة لهوليوود والمشاريع الدولية الأخرى، فإن "إقامة روابط مع السعودية ستسهم في إنتاج مشاريع أكثر إثارة للاهتمام من الناحية الإبداعية، كما ستوفر فرصة لعرض منطقتنا على الساحة العالمية".

منذ عام 2020، أصبحت العلا موطناً لتصوير خمسة أفلام روائية، و35 مسلسلاً تلفزيونياً، و33 فيلماً وثائقياً، بالإضافة إلى 55 إعلاناً تجارياً أو ترويجياً لعروض شهيرة مثل "هاوس أوف ذا دراغون" (House of the Dragon) و"سترينجر ثينغز" (Stranger Things)، وفقاً لشركة "فيلم العلا". وفي عام 2023 وحده، جرى تصوير 123 مشروعاً في المدينة، شملت أفلاماً روائية ومسلسلات نصية وواقعية وإعلانات تجارية ووثائقيات ومقاطع فيديو موسيقية. وعلى مستوى المملكة ككل، تم عرض وإنتاج أكثر من 14 فيلماً محلياً في 2024، بزيادة 10 أفلام عن 2023، وفقاً لـ"مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي".

مع افتتاح "استوديوهات العلا"، قد يكون غريغ سيلفرمان، المدير التنفيذي السابق لشركة "وارنر برذرز ديسكفري" (Warner Bros. Discovery)، الذي أشرف على إنتاج أفلام مثل "هاري بوتر" (Harry Potter) و"جوكر" (Joker)، من أوائل المستفيدين من المسرح الصوتي في الاستوديو. وفي عام 2023، وقعت شركته "ستامبيد فينتشرز" (Stampede Ventures) صفقة بقيمة 350 مليون دولار مع "فيلم العلا" لإنتاج 10 مشاريع على مدى ثلاثة أعوام. الفيلم الأول "كي بوبس!" (!K-POPS)، الذي يعد أول تجربة إخراجية لأندرسون باك، تم تصويره في عدة مواقع، من بينها العلا، وسيُعرض لأول مرة في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في سبتمبر.

التمويل السعودي للأفلام

لعبت الحوافز التي تقدمها السعودية دوراً رئيسياً في جذب الاهتمام العالمي وتوطيد العلاقات مع هوليوود. 

وقال فريدريك إفريم، المدير التنفيذي في "ذا فيلم هاوس" (The Film House)، التي صورت فيلماً روائياً واحداً "ذا تشييلو" (The Cello) في المملكة: "عندما بادرت السعودية بالمساعدة في تمويل إنتاج الأفلام، ارتقت السوق إلى مستوى جديد. الحوافز المقدمة هناك كبيرة للغاية".

تعاونت الفنانة والمنتجة دايا فرنانديز، المعروفة بمشاركتها في أفلام مثل "Minority Report" و"Vanilla Sky"، مع الملياردير السعودي محمد يوسف الخريجي لتأسيس شركة "3سيكس9 استوديوز" (3SIX9 Studios) في الصيف الماضي. يهدف هذا التعاون إلى الاستفادة من الحوافز التي تقدمها المملكة لمشاريع السينما المستقبلية. يقع المقر الرئيسي للشركة في جدة، ولها مكاتب في لوس أنجلوس ونيويورك ولندن.

وقالت فرنانديز: "لا يقتصر هدفنا على أن نكون استوديو سينمائياً يستقطب الأعمال الإنتاجية من هوليوود فحسب، بل نطمح أيضاً إلى استخدام الاستوديوهات والمرافق المحلية لتطوير المواهب". تعمل فرنانديز حالياً على فيلم كوميدي مليء بالإثارة بعنوان "بوني رن" (Bunny Run) بالتعاون مع فرق إنتاج سعودية، لافتة إلى أن هذه "الصناعة تشهد زخماً كبيراً".

تسعى السعودية إلى جعل صناعة الأفلام جزءاً أساسياً من استراتيجيتها الأوسع لتحويل قطاع الترفيه المحلي إلى مصدر إيرادات يصل إلى 23 مليار دولار بحلول عام 2030. تستثمر المملكة مليارات الدولارات في ألعاب الفيديو والرياضات مثل كرة القدم والغولف. ومنذ عام 2018، حققت مبيعات تذاكر السينما وحدها إيرادات تراكمية بحوالي مليار دولار.و تتوقع شركة "بي دبليو سي" للإدارة الاستراتيجية أن تقترب الإيرادات من ذلك المبلغ سنوياً بحلول عام 2030.

مع تجاوز عدد سكان السعودية 32 مليون نسمة، وكون 63% منهم تقل أعمارهم عن 30 عاماً، تُعتبر المملكة واحدة من أهم الأسواق التي تقدم محتوى محلياً في منطقة الشرق الأوسط. هناك اهتمام كبير بالسينما، ليس فقط بالأفلام الأميركية؛ فقد بدأت القصص السعودية تحظى بشعبية متزايدة بين الجمهور، مما يشجع على تنامي الاهتمام بصناعة الأفلام كمهنة.

أطلق المنتج السعودي أيمن خوجة مؤخراً شركة "أيمن خوجة بيكتشرز" (Aymen Khoja Pictures) للاستفادة من هذا الزخم. وأنتجت شركته أول فيلم سعودي طويل، وهو الفيلم الكوميدي "السنيور" (Il Signore) الذي عُرض في دور السينما المحلية في أوائل أغسطس. كما يتعاون خوجة مع شركة "موفي استوديوز" (Muvi Studios) لإنتاج ثلاثة أفلام أخرى.

تحديات وفرص السينما السعودية

يعتبر تدريب المواهب المحلية الشغل الشاغل لخوجة الذي يشير إلى أن هذا الأمر يواجه تردداً من قبل العديد من المنتجين الأجانب بسبب الوقت والجهد الإضافيين المطلوبين خلال عملية الإنتاج. يقول خوجة، الذي درس في أكاديمية نيويورك للسينما في لوس أنجلوس، وعمل على فيلم (Rupture) الفائز بجائزة أفضل فيلم سعودي في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي عام 2021: "الطريقة الأسهل هي الاستعانة بمنتج أميركي أو مصري، لكن التحدي الحقيقي هو دعم المنتج السعودي وتزويده بكل ما يحتاجه. وهناك قلة قليلة ترغب في قبول هذا التحدي؛ فالجميع يبحث عن الحلول السهلة".

يرى خوجة أن السعودية تحتاج أيضاً إلى مزيد من الوقت لتطوير البنية التحتية اللازمة لإنتاج الأعمال الضخمة، مشيراً إلى تحديات مثل تأمين المعدات وضمانات الإنجاز. وذكر أن توفر المساحات الفندقية المناسبة والبنية التحتية الكهربائية الضرورية للتصوير يشكل تحديات إضافية.

وأضاف: "إذا أعطينا هذه الصناعة الفرصة لتنمو، فستتحقق تلك التطلعات تدريجياً. خلال عامين أو ثلاثة أعوام، قد نمتلك صناعة سينمائية ناضجة تجذب اهتمام هوليوود، ونتمكن من القول بأن هناك بنية تحتية يمكن البناء عليها".

بريندون بويا، الذي عمل سابقاً كمنتج مشارك في فيلم "قندهار" بالتعاون مع شركة "ثندر رود فيلمز" وشركات أخرى، أشار هو الآخر إلى التحديات المتعلقة بالبنية التحتية خلال عملية الإنتاج.

وقال بويا: "إن تصوير فيلم في مكان تحتاج فيه إلى جلب كل شيء معك يُعد مهمة صعبة للغاية. بالنسبة لهوليوود، الذهاب إلى مكان يفتقر إلى بنية تحتية قوية يمثل تحدياً هائلاً، حتى لو كانت الحوافز مغرية، فإن هناك دائماً ثمناً لذلك".

وأشار بويا إلى أن نقص الخبرة بين فرق العمل السعودية المحلية كان عقبة إضافية. وقال: "بما أن البنية التحتية لم تكن مكتملة بعد، كان هناك العديد من الأشخاص المتحمسين وذوي القدرات العالية، لكنهم يفتقرون إلى الخبرة اللازمة". نتيجة لذلك، تمت الاستعانة بعدد كبير من أعضاء الطاقم الدوليين لتسهيل العملية، حيث بلغ عدد الأجانب حوالي 220 شخصاً من أصل 300 عضو في الطاقم. وأضاف: "كان الإنتاج كبيراً، وكنا بحاجة إلى المزيد من الخبرة".

آفاق النمو

رغم التحديات، فإن الحوافز المالية وإمكانيات النمو في السعودية تواصل جذب انتباه العالم. ففي مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الذي أُقيم في جدة العام الماضي، حضر نجوم هوليوود البارزون مثل كريس هيمسورث، وجوني ديب، وهالي بيري.

وفي مايو، استضافت الرياض أول عرض افتتاحي لإنتاج من هوليوود، حيث حضر ويل سميث ومارتن لورانس للترويج لفيلمهما الكوميدي الحافل بالإثارة "الأشرار: إما الانطلاق أو الهلاك" (Bad Boys: Ride or Die)، والذي أصبح الفيلم الأعلى إيراداً في تاريخ السعودية، وفقاً لشركة "سوني بيكتشرز انترتينمنت" (Sony Pictures Entertainment).

وفي الشهر نفسه، كان الفيلم الطويل "نورة"، الذي تم تصويره بالكامل في مدينة العلا، أول عمل سعودي يُعرض في مهرجان "كان" السينمائي، مما يعد إنجازاً مهماً للمملكة وصناعة السينما فيها بشكل عام.

الفيلم الذي يتناول قضايا القمع الفني في السعودية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، كان مدعوماً من قبل صندوق البحر الأحمر، وأدّاه فنانون سعوديون بالكامل، مع طاقم عمل سعودي شكّل 40% من الفريق.

ويرى ساذرلاند من شركة "سيلتيك أرابيا" أن صناعة السينما السعودية قد تستغرق وقتاً أطول حتى تزدهر مقارنة ببعض أشكال الترفيه الأخرى مثل ألعاب الفيديو أو الرياضة، لكنه لا يشعر بالقلق. وقال: "يتطلب إنتاج فيلم تنسيقاً بين عدد كبير من العناصر المتحركة، مقارنةً بشراء لاعب وضمه لفريق كرة قدم، أو إقامة حفل موسيقي لفاريل ويليامز في أحد الملاعب. يمكن تنفيذ هذه الأنشطة بسرعة، بينما يحتاج إنتاج فيلم إلى رعاية وتطوير على مدى طويل".

تصنيفات

قصص قد تهمك