الوثائقي "بوابة هوليوود".. طالبان وفريضة الدم

time reading iconدقائق القراءة - 11
الملصق الدعائي للفيلم الوثائقي "بوابة هوليوود" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
الملصق الدعائي للفيلم الوثائقي "بوابة هوليوود" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
القاهرة -رامي عبد الرازق*

(بين ما أردت أنا أن أصوره.. وما أردوا هم أن يظهروه.. هذا ما رأيت)

هكذا يفتتح المخرج المصري الشاب، إبراهيم نشأت، فيلمه الوثائقي الأول "بوابة هوليود"، إنتاج مصري أميركي أوروبي مشترك، والذي ذهب باتصالات خاصة ليصوره في أفغانستان، عقب الانسحاب الأميركي السريع من البلاد، التي سبقت، وأن أذلت الإنجليز، وهزمت الروس، وشتت الأميركان.

في قرار متعجل، ودون أن يكون هناك حساب لما يمكن أن يواجه، في أرض تحكمها جماعة يمينية متطرفة تريد أن تتحول بكامل وعيها – أو ما تبقى منه- إلى ديكتاتورية عسكرية ذات توجه ديني واضح، يسافر نشأت إلى حيث يمكنه أن يقنع قادة حركة طالبان - التي تولت الحكم بمجرد خروج آخر طائرة أميركية محملة على أجنحتها بالراغبين في الفرار من حكمهم الملعون- أن يصور عودتهم إلى السلطة، وما هي نواياهم فيما يخص إنشاء دولتهم الجديدة بعد (هزيمة أميركا).

افتتح الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان فينيسا 2023، ثم توالت جولاته في مهرجانات العالم حيث استطاع الحصول على جائزة اتحاد النقاد الدولي "الفيبريسي"، وجائزة الجونة الذهبية أفضل فيلم وثائقي، وخلال النصف الثاني من العام الحالي بدأت عروضه السينمائية في أميركا وإنجلترا بالتزامن مع خروجه للعرض العام في الشرق الأوسط.

بوذا والأفيون

حين يتم ذكر "طالبان" في بداية الفيلم، ماذا يمكن أن يقفز إلى عقل المشاهد؟

نساء بالشادور (الزي المفروض من طالبان على الأفغانيات) يتعرضن للعقاب في الشوارع أو إطلاق النار، تماثيل بوذا التي يتم تفجيرها بدعوى أنها أصنام، فقر مدقع ينهش في شوارع بلاد تآكلت حضارتها، وأخيراً زهور الأفيون التي يصلي في مزارعها المقاتلين الموكلين بحراستها، كمصدر دخل أساسي لتمويل حركتهم (الدينية).

هكذا يختصر المخرج في لقطات أرشيفية سريعة تاريخ حركة طالبان وحاضرها، وربما مستقبلها أيضاً.

بعد المقدمة السريعة، التي يشرح فيها بتعليق صوتي مقتضب سر رغبته في الذهاب إلى بلاد الأفغان، يأتي المشهد التعريفي بأصل تسمية العنوان "بوابة هوليود"، وهو اسم بوابة قاعدة أميركية من بين قواعد تركوها (بعتاد يقدر بـ7 مليارات دولار أثناء جلائهم السريع)، حيث يصور لنا مشهد دخول قائد القوات الجوية (مولاي منصور الذي سمح له بمرافقته)، وبعض من قواده وجنوده إلى القاعدة في الليل، على أضواء التليفونات المحمولة، مفتشين عما يمكن أن يكون الأميركان قد تركوه لهم، ويصلح أن يستخدموه لكي يعودوا إلى ساحة الحرب مرة أخرى بأسرع وقت، لإشباع جوعهم المستمر إلى (فريضة الدم).

يأتي "بوابة هوليود" كعنوان ساخر، عبثي، يوحي بأن ما حدث في أفغانستان كان مجرد فيلم أميركي طويل، أو أن مادته تصلح للسينما أكثر من الواقع، عشرون عاماً من القنابل، ثم رحيل مخزي بدعوى انتصار مزعوم، وكأن عقدين كاملين تبخرت معهما الدماء والخسائر العالمية التي سببتها الحرب.

اختيار ذكي من المخرج، لماح، مثل العديد من اختياراته الفنية التي مكنته من التقاط التفاصيل الصغيرة المهمة، بعيداً عن الجولات الميدانية الهزلية للقائد (الكبير) ومجموعته الهزلية، ويكفي أن نشير إلى المشهد العبثي الذي يحاول فيه القائد الكبير حساب تكاليف نقل الجنود التي يتم عرضها عليه بحسبه بسيطة، لكنها تمثل معضلة جدلية بالنسبة لهم – حيث يبدو أن غالبيتهم لم يتلقوا أي نوع من التعليم الأساسي رغم أنهم من المفترض صفوة الحركة وقادتها المنتصرين- حيث يتساءل القائد هل يمكن لأحدكم حساب تكلفة نقل 67 جندي كل جندي يتكلف مئة عملة أفغانية، لنفاجئ باسكتش كوميدي طريف، يكثف لنا اللحظة التاريخية التي جاءت بهؤلاء الأميين من الكهوف إلى المكاتب الفخمة، التي ورثوها عن الاحتلال البغيض لبلادهم.

رجال الكهوف

يربط نشأت بقوة التقابل ما بين اللقطات مشهد الجولة الميدانية للقائد ومجموعته في القاعدة، متخبطين في الظلام محاولين اكتشاف إرثهم المكتسب بقوة النصر المزعوم، وبين اللقطات التالية التي نرى فيها أحد الجنود وهو يشرح للكاميرا عن حياتهم في الكهوف أثناء فترة الاحتلال، وكيف كان الكهف هو بيتهم وحصنهم وملجأهم من أعداء الإسلام.

هنا تبرز قوة بناء النص الفيلمي، دون اللجوء إلى أي تعليق صوتي علوي يٌملي رأيه القاطع فيما تعرضه الكاميرا، وباستثناء المقدمة والنهاية، لا نكاد نسمع صوت المخرج – ربما نراه في بعض الأحيان في انعكاسات عابرة، كعين صامتة ترصد وترغب في أن تحتوي العدسة كل السياقات غير المسموح بتوثيقها علانية، دون أن يفقد حال الكاميرا حياته، أو على حد قول القائد الكبير تعليقاً على مرافقته إبراهيم لهم (أي بادرة سيئة منه سوف يموت فوراً).

يعتمد بناء إبراهيم في الفصل الأول من الفيلم، على التناقضات الفاضحة بين كل شيء في هذا البلد، حيث يبدأ بمشاهد زيارة رجال الكهوف للقاعدة العسكرية – التي تبدو مثل محطة فضائية تحتوي على أشياء غير مفهومة بالنسبة لهم- ثم يعود إلى الكهوف نفسها فيصورها تاركاً للمتلقي مساحة تأمل هذه الردة الغريبة التي أصابت مجتمع تكأكأت عليه أسوأ القوى الفاشية في التاريخ (الدينية والعسكرية).

ويخلص من هذا التقابل إلى الوصول للحظة الأكثر سيريالية، التي تسيطر على كامل السياق الخاص والعام لهذه البقعة الخطيرة، فبينما يسير الجندي الذي يرافقه إبراهيم في الظلام على ضوء الهاتف المحمول، يتحدث عن رفع راية (دولتهم الإسلامية) لترفرف على العالم، فقط لو توافرت لهم إمكانيات المخابرات الأميريكية، ليضع إبراهيم (الظلام- راية الدولة الإسلامية- أميركا- العالم) على خط واحد مستقيم أمام المتفرج، ليتأمل كيف يفكر رجال الكهوف في مستقبل دولتهم وعلاقتهم بالعالم كما يريدون له أن يكون.

أطفال طالبان

يعتمد هذا النوع من الوثائقيات على ما وراء الصورة، ما ليس بالمعلن ولا الأساسي ولا المعلوم، فمن البداية يؤسس المخرج في تعليقه الصوتي التمهيدي، أن موافقة طالبان كانت مرهونة بتصوير ما يريدون للعالم أن يعرفه عنهم، وهي لم تكن نيته بالطبع، ولما كانت اللغة عائقاً أمام معرفة أو إدراك كل ما يقال –رغم وجود مترجم- حيث أن غالبية المشاهد تمت ترجمتها فيما بعد، إذن كان على المخرج أن يصنع مستويات من الصورة الواحدة، ثم يعززها بالتتابع المونتاجي، من أجل أن يخلص إلى ما يرغب في أن نراه حقيقية، الفيلم تحديداً يقع في المنتصف الذي عبرت عنه الجملة الافتتاحية (بين ما أراد ان يصوره وما أرادوا هم أن يظهروه).

يمكن هنا أن نتوقف مثلاً عند تفصيلة غياب أي عنصر نسائي صريح عن الظهور، مفهوم بالطبع أنه يتحرك في وسط عسكري متشدد دينياً، لكن في مقابل غياب المرأة نجد دائماً حضور لأطفال صغار وسط الجنود وفي المكاتب – أحدهم هو ابن القائد منصور لكن من هم الآخرين؟ ولماذا يتواجدون هكذا وسط الرجال؟. 

وبينما نرى المذيعات وهم يظهرن على القنوات المحلية منقبات، ويتحدث الرجال عن الفرق بين المرأة المكشوفة كالشكولاتة الملقاة على الأرض والمرأة المنقبة كالحلوى المحفوظة، يأخذنا المشهد التالي لشابين من طالبان يمسكان بأيدي بعضهم في وداعة رومانتيكية غريبة، كأنهم سعداء بأن التقطت كاميرا نشأت هذه اللحظة بينهما.

ومرة أخرى، يضع المخرج مجموعة عناصر متتالية على خط مستقيم تاركاً ذكاء المتفرج يقوده لتأمل الحالة (عنصرية تجاه النساء- شادور- أطفال يمرحون وسط الرجال- شابين في حالة اشتباك عاطفي).

حالة حرب مستمرة 

على الرغم من أننا ندرك شكل العلاقات الدولية بين طالبان وجيرانها ضمن سياق الفيلم، عبر معلومات معمقة أو واضحة، لكن التتابع العام يوحي بأن هناك توتراً واضحاً في العلاقة مع جمهورية طاجكستان الحدودية مع الأفغان.

يأتي هذا في أكثر من موضع، نسمع فيهم قائد القوات الجوية، وهو يتحدث مع وزير العلاقات الخارجية الطاجيكية، ويقول له أنتم تدعمون أعدائنا وبالتالي سندعم أعدائكم، وبعد أن يكتمل تصليح عدد من الطائرات التي تركها الأميركان مخربة ضمن ما تركوه في قواعدهم، نفهم من السياق أن هناك استعدادات تتم من أجل العودة سريعاً إلى حالة الحرب، رغم ما نراه من حالة ترد اقتصادي واجتماعي وحضاري كاملة، من واقع لقطات الشوارع، التي تسنى لإبراهيم أن يلتقطها أثناء رحلته بين القواعد العسكرية بصحبة طالبان.

هذه مجموعة مقاتلة لا شأن لها بالسياسة وإدارة الدولة، ولا في بالها أي نوع من أنواع التنمية أو تحسين البيئات الإنسانية، المنهارة على كل المستويات في بلد متآكل من الداخل، ثمة جوع غريب نحو البقاء في حالة حرب مستمرة، كأن سفك الدماء فريضة واجبة عليهم وليس خياراً عسكرياً أو سياسياً أو استراتيجياً.

صحيح أننا لا ندرك طبيعة تأزم العلاقات مع الجمهورية الحدودية، لكن مما رصدته كاميرا المخرج فإن 10  شهور مرت منذ الزيارة الأولى لقاعدة "بوابة هوليود"، وها نحن في الزيارة الثانية كما نراها في نهاية الفيلم وكأن شيئاً لم يتغير، بل إن المشاهد يمكن أن يختلط عليه الأمر بين الزيارتين، وهو خلط مقصود، فأهل الكهوف يعيشون في زمن مغلق، دائري، بلا تقدم ملموس في اتجاه أي شكل من أشكال الحداثة أو الحضارة، تركوا الأدوية الكثيرة التي تملأ مخازن بأكملها حتى تخطت تاريخ الصلاحية، ولم يكن في بالهم سوى إصلاح الطائرات المقاتلة من أجل مزيد من الحرب والدم.

ينهي المخرج فيلمه بعد العرض العسكري بهذه الزيارة، في بناء دائري مقصود به الشعور بالفراغ والتكرار والعود على بدء، وهي الصفات التي تلغي حركة الوقت إلى الأمام للحاق بركب الحداثة، فهذا بلد يزحف إلى الخلف بكل جهده، وسلطة لا شأن لها بالتقنيات، سوى بما هو خطر على الوعي والحاضر والبشر. 

ثمة انتصار للجهل، وضحالة للفكر، وغياب الضمير الحضاري الذي مكن شعوب أخرى من أن تخط أثارها إلى الأمام على رمال الزمن، في حين تبدو تلك الحضارة القديمة أشبه بامرأة ترتدي الشادور وتسير مطأطأة خلف مقاتل من طالبان، بينما ينزف منها خيط ثقيل من الدم.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك