يواجه الرئيس الأميركي جو بايدن، انقسامات داخلية متصاعدة في إدارته، في توقيت هو الأسوأ بالنسبة له، قبل أشهر من الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل، ما يهدد فرص فوزه بولاية رئاسية جديدة.
وأظهر استطلاع رأي حديث أن 57% من الناخبين لا يوافقون على طريقة تعامل بايدن مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وأفاد الاستطلاع، الذي أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" بالتعاون مع "كلية سيينا"، وظهرت نتائجه في أواخر ديسمبر، بأن معدلات قبول بايدن انخفضت عن الأشهر الماضية، وأن عدداً من الناخبين الشباب الذين دعموا بايدن في انتخابات 2020، قرروا التصويت للرئيس السابق دونالد ترمب.
وتصاعدت الانقسامات بين الديمقراطيين بشكل عام، خاصة الناخبين الأصغر سناً والأكثر انتقاداً للإدارة الأميركية، وتعامل بايدن مع إسرائيل، فبينما اعتبر بعضهم أن تجاهل الرئيس آراء قاعدته في طريقة تعامله مع الحرب، يعد خطأ كبيراً ربما يكلفه الكثير، توقع آخرون أن تدعم طريقة تعامله مع الحرب، موقفه في الانتخابات.
رسائل واستقالات
من أبرز صور الانقسام داخل الإدارة الأميركية، الرسالة غير الموقعة التي كتبها 17 من أعضاء حملة إعادة انتخاب بايدن، في 3 يناير الجاري، والتي يحذرونه فيها من خسارة الأصوات، بسبب موقفه من الحرب، ويطالبونه بالدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، ووقف المساعدات العسكرية غير المشروطة لإسرائيل.
هذه الرسالة هي الأحدث بين رسائل مشابهة، بدأت في أوائل نوفمبر، بتوقيع أكثر من 1000 موظف في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهي وكالة تابعة للحكومة ومسؤولة عن إدارة المساعدات الخارجية، يطالبون فيها بايدن بالضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار.
وحملت رسالة ثانية، في نوفمبر أيضاً، توقيع أكثر من 500 عضو سابق في حملة بايدن الرئاسية لعام 2020، يطالبون فيها بوقف إطلاق النار في غزة، كما أرسل المتدربون في البيت الأبيض، وموظفون في الكونجرس، رسائل تحمل المطلب ذاته.
وفي 4 يناير استقال طارق حبش، وهو مسؤول كبير بوزارة التعليم، ومن أصل فلسطيني، احتجاجاً على طريقة تعامل إدارة بايدن مع الحرب، وهي المرة الثانية التي يستقيل فيها مسؤول في إدارة بايدن، بعد مدير الشؤون العامة بوزارة الخارجية جوش بول، في 19 أكتوبر، للسبب نفسه.
وفي ديسمبر، نظم موظفون بالإدارة الأميركية، وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض، دعماً لوقف إطلاق النار، وهم يغطون وجوههم بالأوشحة.
المبعوث الخاص للرئيس السابق بيل كلينتون لمنطقة الشرق الأوسط، ريتشارد جودستاين، وصف الرسائل المجهولة التي تطالب بوقف الحرب بأنها "مزحة".
واعتبر في تصريحات لـ"الشرق" أن موقف بايدن في ما يتعلق بغزة و"حماس" يساعده في الانتخابات.
وأضاف: "إنه حازم. وهذا ما يريده الأميركيون".
وطالب جودستاين، الذي عمل مستشاراً ومتحدثاً باسم المرشحين الرئاسيين الديمقراطيين في الإعلام الأميركي منذ عام 1996، من يختلفون مع الإدارة بالاستقالة، معتبراً أن وقف إطلاق النار "الذي يسمح لحماس بالوفاء بتعهدها بالقضاء على إسرائيل وقتل كل اليهود -على حد قوله- لن يحدث".
جناح جديد يدعم فلسطين
في المقابل اعتبر المحامي الحقوقي والمرشح السابق في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، روبرت باتيلو، أن الرئيس الأميركي يواجه مهمة شبه مستحيلة تتمثل في تجميع الأجنحة المتباينة للحزب الديمقراطي معاً، ومحاولة التصدي لهجمات الحزب الجمهوري.
وقال باتيلو لـ"الشرق" إن الحزب الديمقراطي كان في مرحلة انتقالية من حزب "وسط" في عهد بيل كلينتون، وباراك أوباما، إلى حزب "أكثر تقدمية" في عهد بيرني ساندرز وإليزابيث وارن، موضحاً أن "الجناح الجديد والأصغر سناً والأكثر تقدمية في الحزب يدعم فلسطين بشدة، بينما يدعم حزب الوسط الأقدم إسرائيل، وهو ما يسهم في الانقسامات".
قيم أميركية متناقضة
مدير الشؤون العامة بوزارة الخارجية الأميركية، جوش بول، المستقيل احتجاجاً بعد 12 يوماً من بداية الحرب، قال لـ"الشرق" إنه غير نادم على استقالته التي بررها وقتها بأنه يخشى مما قد يحدث بعد ذلك.
وكتب في استقالته التي نشرها على موقع "لينكد إن"، أن قرار الولايات المتحدة بالإسراع في "تقديم المزيد من الأسلحة إلى جانب واحد من الصراع، هو قرار قصير النظر، ومدمر، وغير عادل، ويتناقض مع القيم نفسها التي نعتنقها علناً".
وأضاف بول لـ"الشرق": "ليس لدي شك في أنني اتخذت القرار الصحيح، لا أستطيع أن أتخيل العبء الذي سيثقل كاهل ضميري في هذه المرحلة لو كنت بقيت".
في المقابل يحمل جودستاين، "حماس" مسؤولية قتل أكثر من 23 ألف فلسطيني، لأنها "ذبحت إسرائيليين في 7 أكتوبر"، و"كان من الممكن أيضاً ألا يموتوا لو لم تعمل (حماس) في أنفاق تحت المناطق المأهولة بالسكان".
رفض واسع لدعم إسرائيل
تعامل بايدن مع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة قوبل برفض كبير من الأغلبية الأميركية، خاصة الديمقراطيين والشباب، وفق استطلاع رأي أجرته شبكة "سي بي إس نيوز"، الشهر الماضي.
وانخفضت معدلات تأييد بايدن، ووصلت إلى مستويات متدنية بسبب تعامله مع الحرب ودعمه المطلق لإسرائيل.
ووصفت النائبة الديمقراطية مدينة ويلسون أنطون، العضو في كونجرس ولاية ديلاوير، وهي الولاية التي مثلها بايدن في مجلس الشيوخ لمدة 36 عاماً، قرار الرئيس بتجاهل قاعدته وآرائهم بشأن تعامله مع الحرب على غزة بأنه خطأ كبير.
وقالت لـ"الشرق"، إن معدلات تأييد الرئيس تنخفض باستمرار في استطلاعات الرأي بين الديمقراطيين، خاصة الناخبين الشباب والمسلمين والعرب.
السياسة الخارجية لا تؤثر في الانتخابات
مدير دراسات الدفاع والسياسة الخارجية في معهد كاتو، جاستن لوجان، أكد أن السياسة الخارجية لا تقرر أبداً مصير الانتخابات الأميركية بما فيها الرئاسية، موضحاً أن "الولايات المتحدة دولة آمنة للغاية، وبعيدة عن الخطر لدرجة أن أغلب الناخبين لا يختارون مرشحاً على أساس هذه القضية".
وقال لوجان لـ"الشرق": "في هذه المرحلة إذا كان علي أن أتنبأ فسأتمسك بالفرضية القائلة إنه إذ لم يتم جر القوات الأميركية إلى الحرب بشكل مباشر، وتكبد الولايات المتحدة خسائر بشرية، فإن حتى الدمار الشامل وزعزعة الاستقرار في المنطقة من غير المرجح أن يؤثر في الانتخابات الأميركية سلباً أو إيجاباً".
لكن لوجان توقف في الوقت نفسه أمام أثار الدعم الأميركي للحرب الإسرائيلية على غزة خاصة بعد ظهور إشارات بأن الناخبين المسلمين والعرب ربما يبتعدون عن الحزب الديمقراطي: "يبقى لنا أن نرى ما إذا كان ذلك سيخيف الإدارة، ويدفعها إلى تغيير سياستها".
تآكل الدعم العربي لبايدن
انخفض الدعم العربي الأميركي لبايدن بشكل حاد؛ بسبب نهجه في الحرب، وهو ما يمثل تهديداً حقيقياً لفرصه في الانتخابات، إذ يشكل الأميركيون العرب كتلة تصويتية حاسمة في الولايات المتأرجحة مثل ميتشيجان، التي ساعدته على الفوز في انتخابات 2020.
وفي استطلاع رأي أجراه المعهد العربي الأميركي، نهاية أكتوبر، انخفض تأييد بايدن من 59% عام 2020 إلى 17% حالياً، وقال 40% ممن شملهم الاستطلاع إنهم سيصوتون لصالح ترمب.
واعتبر الديمقراطي روبرت باتيلو أن الانقسامات في الحزب الديمقراطي تؤدي إلى انخفاض تأييد بايدن في استطلاعات الرأي بين الناخبين المسلمين والشباب، وأنه كلما تم التوصل إلى حل سلمي بشكل أسرع، زاد الوقت المتاح للإدارة للمساعدة في إعادة بناء سمعتها بين هذه الفئات.
العرب ومعضلة انتخاب ترمب
لكن جودستاين يرى أنه "بقدر ما تكون استطلاعات الرأي دقيقة، هناك عدد كبير من الأشخاص يختلفون مع بايدن؛ لأنه لا يفعل الكثير لإسرائيل، بقدر عدد الأشخاص الذين يعتقدون أنه فعل الكثير لها".
وطرح جودستاين فرضيته قائلاً: "إنها ثنائية إما بايدن أو ترمب.. الأمر بهذه البساطة".
وشدد على أن "المجتمعات العربية في الولايات المتحدة تدرك أن الأمر بهذه البساطة، مهما كانت معارضتها لدعم بايدن لإسرائيل، وإذا أرادوا له أن يخسر، فإن ترمب يفوز، لكن إذا أصبحت المجتمعات العربية منبوذة سياسياً، حال مساعدتها ترمب على الفوز، فإنها ستلحق الضرر بنفسها لعقود من الزمن.. لا يبدو الأمر ذكياً بالنسبة لي. وأنا أعلم أنهم أذكياء".
وتسائل جودستاين عما تريده المجتمعات العربية في الولايات المتحدة: "هل يفضل الفلسطينيون في الولايات المتحدة، أو المتعاطفون مع فلسطين، ترمب؟ الذي سيعطي (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو الضوء الأخضر ليفعل ما يريد، والضوء الأخضر لمستوطنات الضفة الغربية؟ ومن الذي نقل السفارة الأميركية للقدس؟ ومن الذي لم يؤيد حل الدولتين أبداً؟ فهل انتخاب ترمب هو حقاً وسيلة لأولئك الذين يريدون رؤية الدولة الفلسطينية تحقق هدفهم وطموحاتهم؟".
وأضاف: "إذا كان هذا ما يريدون، فإن عدم التصويت لبايدن سيحقق لهم ذلك. وآمل أن يكونوا سعداء عندما يجعل ترمب حياتهم بائسة. وآمل أن يكونوا سعداء عندما يفرض مرة أخرى حظراً على المسلمين وكل الأشياء التي أوضحتها والتي من المؤكد أن ترمب سيفعلها".
فرضية جودستاين رفضتها النائبة الديمقراطية مدينة أنطون، مستنكرة أنه عندما يعبر الناخبون عن عدم موافقتهم على تعامل بايدن مع هذه القضية، يُقال لهم إن "ترمب أسوأ".
واعتبرت أن الحزب الديمقراطي يواجه مشكلة حقيقية، ففي كل انتخابات يقول للناخبين: "هذه هي الانتخابات الأكثر أهمية في حياتكم"، واصفة ذلك النهج بأنه أصبح مملاً.
وأضافت: "نحن بحاجة إلى إعطاء الناخبين سبباً للتوجه إلى صناديق الاقتراع، نحتاج إلى أن نمنحهم شخصاً يصوتون له، وليس شخصاً يصوتون ضده، لأن الناخبين المسلمين والعرب يشعرون أن الحزب يستغلهم ويتخلى عنهم.. إن مهمة استعادة هؤلاء الناخبين تقع على عاتق الحزب، وليس على عاتق الناخبين أنفسهم".
تغير غير كاف في لهجة بايدن
مع الانتقادات المتزايدة بشأن موقف الرئيس الأميركي من الهجوم الإسرائيلي العنيف والمتواصل على قطاع غزة، والانقسامات المتصاعدة بين الديمقراطيين، غيرت الإدارة لهجتها، إذ وجه بايدن أقسى انتقاد إلى حكومة نتنياهو اليمينية، الشهر الماضي، بسبب القصف العشوائي، وحث إسرائيل على اتخاذ خطوات لحماية المدنيين.
ومع ذلك، تبدو المساعي الأميركية لاحتواء الكارثة الإنسانية في قطاع غزة ضعيفة للغاية مع عدم المطالبة بوقف إطلاق النار المستمر للشهر الرابع، وهو الأمر الذي توقع جودستاين أنه سيحدث وسيدعو بايدن إلى وقف إطلاق النار "فقط عندما لا تشكل حماس تهديداً".
لكن باتيلو، لفت إلى أن الانقسام المتصاعد والضغط المتزايد يساعد، بالفعل، في التحرك نحو وقف إطلاق النار في غزة، موضحاً أن إدارة بايدن دعت إلى هدنة إنسانية، وطلبت إغاثة إنسانية للفلسطينيين، "وحتى في الأمم المتحدة، عملت إدارة بايدن على التوصل إلى لغة تسوية للعمل على إنهاء العدوان مع وضع شروط أيضاً على المساعدات المستقبلية لإسرائيل".
وتتفق مدينة أنطون مع باتيلو في أن إدارة بايدن غيرت من خطابها قليلاً مرات عدة بسبب الضغط الشعبي، لكنها اعتبرت أن "الاستجابة غير كافية على الإطلاق".